إلى المسلمين في رمضان المبارك / داوود شهاب
نستقبل شهر رمضان المبارك ونحن في أمس ما نكون إلى رحمات ونفحات هذا الشهر الكريم... ها قد أهل علينا شهر رمضان " شهر الرحمة والمغفرة والعتق والنار" ونحن في أمس الحاجة إلى رحمة الله ومغفرته والتوجه له بطاعة خالصة تكون سبباً في العتق من النار، وهو الفوز الحقيقي.
ها نحن إذاً أمام فرصة جديدة لتطهير النفس وتصويب مسار الحياة نحو منهج وطريق الله. ها نحن أمام مناسبة إيمانية عظيمة ودعوة من الله سبحانه أن نقبل عليه متجاوزين كل مسالك الشيطان " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " وهل تستوي حياة في كنف الله ومعيته مع حياة الذين بعدوا وضلت بهم السبل؟ .
رمضان موسم للخير، لتجديد الانتماء وتطهير الروح وتزكية النفس، رمضان موسم للارتقاء الروحي والسمو إلى أعلى درجات الكمال الإنساني المتمثل بصدق العلاقة بين المرء وربه.
رمضان نزهة روحانية وفسحة إيمانية في رحاب الله، هو فرصة من الملزم أن نحسن استثمارها، لنتخلص من همومنا اليومية ومشاكلنا وأزماتنا المتلاحقة.
رمضان موسم للجهاد من جهاد النفس وجهاد الأعداء.
وبالجملة رمضان شهر الصوم " والصوم جنّة" أي وقاية للصائم من كل المنكرات، فيه تعزيز وصيانة للضمير ومراقبة لله، تلك المراقبة التي تؤهل العبد إلى سعادة الدنيا والآخرة، فمن راقب الله وصام إيماناً واحتساباً عمر قلبه بخشية ربه، فلم يقدم على معصية ولم يقترف الذنوب، وبذلك يكتسب صفات الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم.
إن صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي ولا تطول غفلته عن طاعة الله، وإذا نسي أو استهواه الشيطان فاقترف السيئات كان سريع التذكر والرجوع بالتوبة إلى الله " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشطيان تذكروا فإذا هم مبصرون"، فالصوم علاقة بين العبد وربه وأعظم مربٍّ لملكة المراقبة " الضمير" وأقوم طريق للتقوى "تزكية النفس"، والصوم يجعل الصائم رءوفا رحيماً سخياً بالصدقات مؤدياً للزكاة، وهذا من أبرز صفات المجتمع الإسلامي الذي تشيع فيه فضيلة التراحم، والصوم كذلك يجعل صاحبه غيوراً على حدود الله، فلا يقبل الظلم والتعدي على حقوق الله وحقوق الناس، وفي ذلك تحقق لوصف الله لعباده " أشداء على الكفار رحماء بينهم"، فلا ينبغي أن ينفك عنا هذا الوصف المحمود.
إن على المسلمين أن يتخذوا من الصوم زاداً للتقوى والتقرب إلى الله، وألا يصوموا جوعاً وعطشاً، ثم هم من وراء ذلك لا يرعون الله في أعمالهم وتجارتهم وذوي أرحامهم وجيرانهم وأوطانهم، بل عليهم أن يصوموا لله قانتين، حتى لا يدخلوا في نطاق ما حذر منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش".
لنلتزم بالصوم الموصل إلى التقوى، إيماناً واحتساباً لربنا، لنلجأ إليه في شهرنا المبارك أملاً في معونته ومدده ونصره لأمة القرآن حتى نكون خير أمة أخرجت للناس.
ولا ينبغي أن ننتقم بالليل من النهار، فنقضي النهار نعد لموائد الليل، ونقضي الليل في الأكل والشراب واللهو وما تبثه الفضائيات من برامج فساد وإفساد ونتمادى في الإسراف غافلين عن حكمة الصوم وفوائده كما ورد في كتابه " لعلكم تتقون".
إنه شهر واحد في العام " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن .... " أقام الله فيه مدرسة الصوم، فيها نعتاد الطاعة لربنا وبه تقوى عزائمنا ونراقب الله ونخشاه ونرجو ثوابه، فيه تصح أجسادنا وتطهر قلوبنا كما أخبر الصادق الأمين في قوله " صوموا تصحوا" وقوله: " من لم يغفر له في رمضان فمتى؟"، الصوم تربية للنفس فمتى التزمناه صحيحاً كان الوازع الديني وكانت الأمانة كما جاء في الحديث الشريف: " الصوم أمانة، فليحفظ أحدكم أمانته".
إن الصوم مدرسة إصلاح نفسي وجسدي واقتصادي، أستاذها الوازع الديني، ودوام المراقبة لله جل وعلى، به ترقى أخلاقنا إذا اصطلحنا مع الله، فأعلنا التوبة إليه والأوبة إلى كتابه وسنة رسوله، نحتكم إليهما في كل أمورنا دون أن نلتفت إلى أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، يضلون الناس وما يضلون إلا أنفسهم، تخلوا عن أمانة الكلمة فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
تعالوا أيها المسلمون نتخذ من شهر رمضان موسماً نتخفف فيه من أعبائنا الاقتصادية والمالية التي أثقلت كواهلنا أفراداً وجماعات، تعالوا بنا إلى صوم نتقرب به إلى الله، لا رياضة نفسدها بالليل بكثرة ما نعد من ألوان الطعام والشراب اللهو المحرم، ونتناسى معها جراحاتنا وآلامنا، نتناسى الشهداء والأسرى والفقراء والأيتام والمساكين.
جربوا أيها المسلمون الاعتدال في أموركم والاستغناء عما لا ضرورة له، فلا تثقلوا كواهلكم بالديون ولا تحرموا أنفسكم متعة الصدقة ومساعدة المحتاجين لصرف الأموال على البذخ والإسراف على الكماليات الموسمية التي لا تدخل في فروض الصوم ولا سننه، دعوكم من شاشات التلفزيون والمحطات الساقطة التي تلهيكم عن فضيلة قيام الليل وما فيها من أسرار، اغتنموا ساعات السهر بالليل لقراءة القرآن والقيام والدعاء لعل الله يستجيب فيصلح حال شعبنا وأمتنا ويمن علينا بالنصر، خذوا من مدرسة الصوم ما تستطيعون، أقيموا حلقات القرآن التي استبدلتم بها ندوات الشيطان فنرع الله البركة من أموالكم، وبخلتم وأمسكتم عن أداء ما فرض الله عليكم فحل بنا ما حل من أزمات ونكسات وأوجاع وضياع، كان سلفنا الصالح يلتفون حول كتاب الله وسنة رسوله يتدارسون ويتدبرون ويجاهدون، فكانت الرحمات والبركات ونعمة الرضا تحوطهم فضلاً من الله ونعمة، وكانت القلوب مطمئنة والنفوس راضية والرحمة سائدة والمودة غامرة والتعاون على البر قائم، فلما صرفنا عن القرآن الصارفون وقالوا لنا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه، استجبتم وانصرفتم عن كتاب ربكم، فأنساكم الشيطان صالحكم وأضلكم عن سبيل الله وتفرقت بكم السبل حتى حل بنا ما حل من بلاء.
هذا موسم الطاعة لله فاقبلوا عليه، اصطلحوا مع ربكم يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، اعقدوا ندوات القرآن والعلم وأغلقوا مزامير الشيطان، ووسائل الغيبة والنميمة، أولى بالمؤمنين أن يكونوا مع الله في رمضان فإنه سبحانه قال في الحديث القدسي: " الصوم لي وأنا أجزي به".
اصطلحوا مع الله بطاعته في رمضان، لتصير الطاعة منهج حياة نستقيم عليهن اصطلحوا مع أنفسكم مع الوالدين مع الجيران مع الأصدقاء مع الأخوان مع المجتمع كله.
إن كل أب وكل أم وكل ولي أمر مسئول عما ولاه الله عليه، فاحملوا المسئولية وأحسنوا القيام بها وخذوا من الصوم حكمته، ولتكن مصاحبة لكم في سركم وعلنكم، وخذوا على أيدي المجاهرين بالمعصية في رمضان، خذوا على أيدي المجاهرين بالفطر في نهار رمضان، خذوا على أيدي المستهترين بتقاليدنا وأخلاقنا وأمننا، ولا تسمحوا للمنحرفين أن يزدادوا انحرافاً، لا تتطاولوا على خلق الله، ولا تسألوا عما ليس لكم فيه حق، تحسسوا هموم الفقراء والضعفاء والمساكين.
تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، اصطلحوا مع الله يصلح لكم نفوسكم ويغفر لكم ذنوبكم ويرفع عنكم إصركم، التزموا الطاعة في رمضان تتغير به عاداتكم وتقلعوا عن أهوائكم ويكن الوسيلة في تغيير الحال، وصدق الله القائل: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
تعليق