الحركة الإسلامية في تونس من الثعالبي إلى الغنوشي
إسلامنا – يحيى أبو زكريا *
المحتويات.
1- مدخل.
2- تونس : نبذة تاريخيّة.
3- الحركة الوطنيّة التونسية في عهد الاستعمار.
4- الصراع بين الأصالة والمعاصرة.
5- الحركة الحزبية والسياسية في تونس.
6- عهد الجنرال زين العابدين بن علي.
7- الحركة الإسلامية في تونس.
8- الجماعة الإسلامية التونسية.
9- حركة الاتجاه الإسلامي.
10- الأداء السياسي لحركة الاتجاه الإسلامي.
11- حركة الاتجاه الإسلامي والعنف.
12- حركة النهضة الإسلامية والحركات الإسلامية الأخرى.
13- مستقبل الحركات الإسلامية في المغرب العربي.
مدخل :
خضعت تونس كما الجزائر للهيمنة الاستعمارية الفرنسية، وتعرضّت هويتها العربية إلى كثير من المسخ الأمر الذي جعل الحركة الوطنية تركّز على تحقيق الاستقلال الثقافي والسياسي على حدّ سواء، وقد لعب جامع الزيتونة العريق في تونس دورا كبيرا في صقل الشخصية الوطنية وخاض صراعا مريرا ضدّ الاستعمار الفرنسي، و مثلما لعب الأزهر الشريف في مصر دورا تاريخيا ضدّ الإنجليز فكذلك الأمر بالنسبة لجامع الزيتونة.
وكان العديد من رجال العلم والإصلاح في الجزائر يتوجهّون إلى تونس لإكمال دراساتهم العليا في الدراسات الشرعية والأدبية، كما أنّ تونس تحولّت إلى قاعدة خلفيّة للثورة الجزائرية، حيث كان قادة الثورة الجزائرية يتنقلّون إلى تونس إذا أرادوا التوجّه إلى عاصمة عربية أو غربية، كما أنّ الأسلحة التي كانت تصل إلى الثوّار الجزائريين كانت تعبر الأراضي التونسية ومنه إلى الجبال حيث يقيم الثوّار في الجزائر و لوضع حدّ لتهريب الأسلحة إلى الثورة الجزائرية أقامت السلطات الاستعمارية الفرنسية سياجّا حديديّا شائكا على امتداد الحدود الجزائرية – التونسية، إلاّ أنّه لم يؤد إلى قطع جسور التواصل بين الثورة الجزائرية والحركة الوطنية التونسية.
وكانت الحركة الوطنية التونسية في ذلك الوقت تضمّ عناصر تكونّت في الزيتونة وتشبعّت بالثقافة العربية والإسلامية وتفاعلت مع الحركات الإصلاحية في المشرق العربي، ولم يكن لهذه العناصر أدنى نصيب في دوائر الحكم غداة الاستقلال، وكان الزعيم الوطني الأوحد هو الحبيب بورقيبة أحد الشخصيات التونسية المعروفة.
وقد لعب الحبيب بورقيبة دورا كبيرا في تاريخ تونس المعاصرة لجهة اضطلاعه بصناعة القرار التونسي ولأزيد من ثلاثة عقود من الزمن، وقد أكمل بورقيبة تعليمه في جامعة السوربون في فرنسا والتي تخرجّ منها بشهادة البكالوريوس في الحقوق. وتجدر الإشارة إلى أنّ تونس لم تحصل على استقلالها عبر ثورة شعبية كما هو شأن الجزائر، بل إنّ فرنسا وافقت على منح الاستقلال الذاتي لتونس، وهذا لا يعني أنّ الحركة الوطنية التونسية لم يكن لها دور في محاربة الاستعمار الفرنسي، بل الأمر يعود إلى رغبة فرنسا في تخفيف العبء الاستعماري عنها والتفرغ لمجابهة الثورة الجزائرية التي أقضّت مضاجعها.
و بعد استقلال تونس وجد الحبيب بورقيبة نفسه على رأس الدولة التونسية الفتية والتي راح يصيغ ثوبها الفكري والسياسي والإيديولوجي صياغة لا تمت بصلة إلى الموروث العربي والإسلامي لتونس ولذلك كان الحبيب بورقيبة عرضة لكثير من الاتهامات من معارضيه من قبيل أنّه صنيعة فرنسية، وأنّ باريس لعبت دورا كبيرا في تعيينه على رأس الدولة التونسية، وكان لجوءه إلى سنّ مجموعة كبيرة من القوانين العلمانية يزيد في اتساع حجم هذه الاتهامات.
وقبل وصول الحبيب بورقيبة إلى سدّة الحكم في تونس عاشت الحركة الوطنية التونسية سلسلة من الانشقاقات والتصدعات أدّت إلى انسحاب العديد من الشخصيات من الحزب الدستوري الاشتراكي الذي تحولّ إلى حزب حاكم بعد الاستقلال وكان الوحيد في الساحة السياسية، لأنّ التعددية كانت ممنوعة في تونس و تمّت تصفية العديد من معارضي بورقيبة بعد الاستقلال ,وفرّ بعضهم إلى الجزائر والبعض الأخر توجهّ إلى بعض العواصم الأوروبية كباريس وجنيف وغيرهما.
وإذا كان خصوم الحبيب بورقيبة من الوطنيين و الإسلاميين يتهمونّه بجرّ تونس إلى حظيرة العلمانية المتوحشة فانّ بعض الثوّار الجزائريين كانوا يتهمون بورقيبة بأنّه كان يعمل على تطويق الثورة الجزائرية ويسرد عمار قليل وهو من المشاركين في الثورة الجزائرية في كتابه ملحمة الثورة الجزائرية هذه القصة التي مفادها أنّ البيت الأبيض في واشنطن استدعى في أواخر تشرين الثاني – نوفمبر – 1956 رئيس الحكومة التونسية الحبيب بورقيبة لزيارة واشنطن والذي لبىّ الدعوة حيث قابل في واشنطن الرئيس الأمريكي ايزنهاور، وحول مائدة ايزنهاور دارت مفاوضات ومساومات حول القضيّة الجزائرية، وتمّ الاتفاق في نهايتها على أن تدفع حكومة واشنطن مساعدة اقتصادية لتونس مقابل أن يقوم الحبيب بورقيبة بدور فعّال لإقناع قادة الثورة الجزائرية بالكفّ عن القتال وإعادة الهدوء والحياة الطبيعية إلى الجزائر في ظلّ فرنسا، و قد تعهدّ الحبيب بورقيبة بأن يقوم بوساطته لدى قادة الثورة الجزائرية في محاولة لإقناعهم بوقف القتال، كما فعل في تونس عندما قبل الاستقلال الذاتي، وكان أول تصريح له وهو على أدراج سلّم البيت الأبيض : نحن مع الغرب وسنظّل معه لا بحكم موقعنا الجغرافي فقط بل بحكم ثقافتنا وتقاليدنا، وحين عاد إلى تونس صرحّ قائلا : لقد إتفقت مع الرئيس الأمريكي ايزنهاور على أن نتوسطّ لحلّ القضية الجزائرية، وكان الرئيس التونسي على الدوام إلى جانب المشاريع السياسية المتعلقة بكيفية حلّ الأزمة الجزائرية التي كان يطرحها الجنرال شارل ديغول رئيس فرنسا في ذلك الوقت.
ورد في كتاب الملحمة الجزائرية للأستاذ عمار قليل أنّ بورقيبة عندما عاد من واشنطن إلى تونس بدأ يجري اتصالات مع السياسيين في كل من مراكش والجزائر وليبيا وتونس، وأوضح لهم بورقيبة أنّ هناك مشروعا لإقامة حلف جديد يجمع أقاليم الشمال الإفريقي بالإضافة إلى فرنسا و إسبانيا وايطاليا، وترعاه أمريكا وبريطانيا ويكون مكملاّ للحلف الأطلسي.وقد حاول بورقيبة إقناع المسؤولين في شمال إفريقيا بقبول المساهمة في الحلف الجديد الذي كان يحمل اسم حلف غربي البحر الأبيض المتوسط، وكاد هذا الحلف الجديد أن يتحولّ إلى واقع سياسي لكنّ الثورة الجزائرية نسفت فكرة هذا الحلف من أساسه. لقد أقترح الحبيب بورقيبة على قادة الثورة الجزائرية أن يوقفوا إطلاق النار، ويقبلوا بتشكيل حكومة في نطاق الاتحاد الفرنسي، ومن بعد ذلك تدخل الجزائر في حلف مع فرنسا بالاشتراك مع دول الشمال الإفريقي.
وكان بورقيبة يؤكّد لقادة جبهة التحرير الوطني على ضرورة القبول بهذه الفكرة كما كان ينوّه بمزايا الحلف. و ظلّ بورقيبة على امتداد ثلاثة أسابيع يحاول إقناع قادة الثورة الجزائرية بالفكرة، ولم تجد محاولاته على الإطلاق فتلاشى المشروع الأمريكي كما تلاشت محاولات بورقيبة.
في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات بدأت تتأسّس في تونس النواة الأولى للحركة الإسلامية التونسية، وقد تأثرّ مجموعة من المثقفين في ذلك الوقت بفكر المفكر الجزائري مالك بن نبي صاحب التصانيف الكثيرة من قبيل الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وشروط النهضة، وغيرها من التصانيف.
كما تأثرت هذه النخبة التونسية بفكر سيد قطب أحد أبرز منظرّي تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، والمفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي، وأبرز قطب في هذه النخبة راشد الغنوشي وصالح كركر وعبد الفتّاح مورو وغيرهم.
وشكلّ هؤلاء جمعية إسلامية هي أقرب إلى خلية منظمة ومهيكلة والتي أصبحت فيما بعد تعرف باسم حركة الاتجاه الإسلامي، وقد ركزّ الاتجاه الإسلامي عمله في الجامعات والثانويات والمعاهد التربوية والمساجد، وتمكنّ من استقطاب العديد من الأنصار، وكان أهداف هذه الجماعة :
1- إعادة إحياء القيّم والمبادئ ومفردات الثقافة الإسلامية.
2- مقاومة الغزو الفكري وإفرازات التأثر بالعلمانية الغربية، وذلك من خلال وسائل دعوية لا علاقة لها بالعنف إطلاقا.
وكان الاتجاه الإسلامي بزعامة راشد الغنوشي يتحاشى الدخول في صراع مع السلطة القائمة والتي كان يريدها الحبيب بورقيبة علمانية على الطراز الغربي الخالص، إلى درجة أنّ بورقيبة كان يقول : يا ليت تونس تقع جغرافيّا قرب السويد أو الدانمارك لتخرج نهائيا من هذا المحيط العربي والإسلامي.
و يعتبر زعيم حركة الاتجاه الإسلامي راشد الغنوشي من الإنتليجانسيا الإسلامية في تونس، درس الفلسفة في جامعة دمشق في سوريا وكان في بداياته الفكرية متأثرا بالفكر القومي العربي وبالخط الناصري ثمّ عدل عن هذا الفكر عندما توالت الانتكاسات على العالم العربي بعد النكسات المتتالية مع الكيان الصهيوني.وعندما شرع في قراءة الكتب الإسلامية أخذ يتأثر بالأدبيات الإسلامية إلى أن تحولّ كلية إلى تبني الفكر الإسلامي و أعتبر أنّ البديل الإسلامي هو الأصلح للعالم العربي والإسلامي.
ولأنّه تحاشى الاصطدام بالسلطة الإسلامية فقد أستطاع أن يبنيّ لتنظيمه الذي كان يعرف بالاتجاه الإسلامي، والذي تحولّ مع مرور الأيام إلى ظاهرة أثارت مخاوف المشرفين على الوضع العام في تونس، كما أثارت مخاوف الحبيب بورقيبة الذي لاحق الأعضاء البارزين في جماعة الاتجاه الإسلامي. وقد تعرضّ راشد الغنوشي للاعتقال وربما هذا الذي أدىّ إلى تكريسه كزعيم إسلامي تونسي، وبدأ رصيده يرتفع كأهمّ خصم لنظام الحبيب بورقيبة العلماني.
ويحظر الدستور التونسي تأسيس أحزاب على أساس ديني إسلامي، و كانت الساحة السياسية في تونس حكرا على حزب السلطة والأحزاب القريبة من دوائر السلطة.
وعندما بدأت الحركة الإسلامية الجزائرية تبرز بقوة في بداية الثمانينيات بدأت حركة الاتجاه الإسلامي تعرض قوتها، فراحت تدعو إلى تظاهرات طلابيّة في الثانويات والجامعات، ودخلت في جدال واسع مع السلطة التونسية خصوصا عندما أقرّت الحكومة التونسية ميثاق الأسرة والذي رأت فيه حركة الاتجاه الإسلامي خروجا صريحا عن الإسلام وتقليدا أعمى للمواثيق والدساتير الغربيّة.
في الثمانينات شهدت تونس مجموعة من التطورات الاجتماعية أفرزت ما يعرف بثورة الخبز في تونس، وكان الشارع التونسي عندها يغلي، وكانت الدوائر التونسية تخشى أن تستغل حركة الاتجاه الإسلامي هذا الوضع المزري وتخلط الأوراق خصوصا في ظلّ تتابع هواجس الثورة الإسلامية الإيرانية.
و كانت حركة الاتجاه الإسلامي تؤكد على حقها في الوجود ضمن الخارطة السياسية التونسية، وكانت تطالب فقط بتقويم الاعوجاج والتخلي عن سياسة التغريب و العملنة.
ولم يكن لحركة الاتجاه الإسلامي مشروع سياسي متكامل بل كانت تحرص على تفعيل المشروع الثقافي والاجتماعي بالدرجة الأولى، فبورقيبة كان حريصا على جعل تونس قطعة من الغرب، وكان يرفض حتى الانتماء العربي والإسلامي لتونس، وحتى جامع الزيتونة الذي لعب أكبر الأدوار في تاريخ تونس حولّه الحبيب بورقيبة إلى مجرّد متحف وأفرغه من دوره الحضاري. ولو أنّ بورقيبة انفتح إلى حدّ ما على القيم الإسلامية لما تمكنّت حركة الاتجاه الإسلامي من تهديد الوضع العام في يوم من الأيّام.
وما كان الحبيب بورقيبة الذي مارس سياسة الاستئصال مع حركة الاتجاه الإسلامي ليستمرّ في الحكم إذ أطاح به أقرب الناس إليه الجنرال زين العابدين بن علي أحد الضبّاط التونسيين الذين أنهوا تكوينهم العسكري في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولم يستوعب بعض المراقبين ما جرى في تونس، إذ أنّ الانقلاب الأبيض الذي أطاح بالحبيب بورقيبة تمّ بشكل سريع وكأنّه كان محضرّا له و قد فهم من هذا الانقلاب بأنّه انقلاب أمريكي على فرنسا في تونس، ولطالما كان الحبيب بورقيبة خريج جامعة السوربون صديقا حميما لفرنسا.
وقد اتسمّت بداية عهد زين العابدين بن علي في عام 1987 بالانفتاح على القوى السياسية والتأكيد على مبدأ الديموقراطية والتعددية السياسية، وبدورها حركة الاتجاه الإسلامي وتماشيّا مع المعطيات السياسية الجديدة غيرّت عنوانها لتحمل عنوانا جديدا هو حركة النهضة، لتؤكدّ أنّها لا تقوم على أساس ديني بل هي حزب كبقية الأحزاب التونسيّة. وفي المرحلة الأولى من حكم الرئيس زين العابدين بن علي شاركت حركة النهضة في الانتخابات البلديّة حيث فازت في بعض المناطق التونسيّة.
ويعتبر الرئيس زين العابدين بن علي من أكثر التونسيين معرفة بملّف التيارات الإسلامية في تونس حيث شغل منصب وزير الداخلية، وتولى العديد من المناصب الأمنيّة قبل إطاحته بالرئيس الحبيب بورقيبة.
وغداة استيلائه على السلطة أختار أن يكون خطابه السياسي منفتحا على الجميع، الأمر الذي دعا زعيم حركة النهضة إلى الترحيب بالعهد الجديد في تونس بزعامة زين العابدين بن علي.
لكنّ هذا الودّ المتبادل بين حركة النهضة والنظام الجديد بقيادة زين العابدين بن علي لم يستمر كثيرا، واللغم الذي فجرّ العلاقة بين الطرفين كان إعلان الجهات الرسمية في تونس عن اعتقالها لعناصر قياديّة من حركة النهضة والمتهمة بمحاولة اغتيال الرئيس زين العابدين بن علي بصواريخ ستنغر الأمريكية. وحسب رواية الجهات الرسمية فانّ مجموعة مسلحة قطنت في شقّة على مقربة من قصر قرطاج الرئاسي الذي يقطنه زين العابدين بن علي، وكانت تستعد لإطلاق صاروخ على القصر الرئاسي حيث ستنتهي المسألة باغتيال الرئيس التونسي، وبسبب هذا السيناريو الذي أوردته السلطة التونسية وكأنّه سيناريو فيلم أمريكي، راحت وزارة الداخليّة تعتقل مئات العناصر النهضوية، وفرّت قيادات النهضة إلى الخارج فيما توجّه راشد الغنوشي إلى الجزائر، وكانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في ذلك الوقت في أوج تألقها السياسي.
وعندما أصدرت المحكمة العليا التونسية حكما يقضي بإعدام راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، أوفدت الحكومة التونسية إلى الجزائر من يطالب برأس الغنوشي بشكل رسمي،
وقد كشفت مجلة البديل الجزائرية الناطقة بلسان الحركة من أجل الديموقراطية التي كان يترأسها الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة أنّ تونس أوفدت إلى الجزائر فرقة أمنية يطلق عليها اسم فرقة النمور السود وذلك لتنفيذ حكم الإعدام في حقّ راشد الغنوشي لكنّها لم تفلح في هذه المهمة.
وأضطّر الغنوشي عندها إلى مغادرة الجزائر وتوجّه إلى السودان، حيث منحته الخرطوم جواز سفر دبلوماسي كان يستخدمه الغنوشي في تنقلاته هنا وهناك إلى أن توجّه إلى العاصمة البريطانيّة لندن وهناك طلب اللجوء السياسي.
وكانت الحكومة التونسيّة تتهم الغنوشي بأنّه كان يتلقى أموالا من الحكومة الإيرانيّة, وأنّه يريد تنفيذ مشروع إسلامي في تونس مماثل للمشروع الإيراني.
وفي منفاه البريطاني يواصل راشد الغنوشي الإشراف على حركة النهضة التونسية بعد أن نجحت السلطة التونسية في استئصالها من الواقع السياسي التونسي، ولجأت من أجل تحقيق ذلك إلى أفظع الأساليب الأمنية باعتراف منظمات حقوقيّة دولية.
تونس : نبذة تاريخية
تعدّ تونس من أصغر بلدان المغرب العربي مساحة وهي عبارة عن جيب جغرافي بين الجزائر وليبيا، وتبلغ مساحة تونس 163610 كلم مربع، ومعظم أراضيها منخفضة يحدّها البحر الأبيض المتوسط من الشمال والشرق.
تمتاز تونس بسهولة الوصول إليها برا وبحرا ممّا جعلها عبر تاريخها عرضة لتأثيرات خارجية لعبت دورها في تكوين خصائص مجتمعها، ويبلغ عدد سكان تونس 07 ملايين نسمة يتكلمّون اللغة العربية وللغة الفرنسية انتشار واسع للغاية، والديانة السائدة في تونس هي الإسلام الذي هو دين الغالبية من السكان.
والعاصمة التونسية هي تونس وأهم المدن فيها هي سوسة وصفاقس وبنزرت والقيروان وهي العاصمة العربية القديمة.
يبدأ تاريخ تونس مع إقامة المستعمرات الفينيقية ونشوء إمبراطورية قرطاجة على شواطئها وقد أحرزت قرطاجة التفوّق البحري والتجاري في البحر الأبيض المتوسط في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، ومدّت مستعمراتها التجارية حتى جنوب البرتغال وحكمت قسما من جزيرة صقلية وبلغت الإمبراطورية أوجها في القرن الرابع قبل الميلاد إلى أن اصطدمت بالدولة الرومانية الصاعدة بسبب السيطرة على المتوسط واشتبكت الدولتان في الحروب البونيّة الثلاث التي برز في ثانيها غزو هنيبعل لايطاليا والتي انتهت بتدمير قرطاجة وإلحاقها بأمبراطورية روما.
ظلّت قرطاجة مهجورة طوال قرن ونصف إلى أن أعاد بناءها الأمبراطور أغسطس في بداية القرن الأول الميلادي، وخلال القرنين الأولين بعد الميلاد أصبحت مقاطعة إفريقيا -- وهو الاسم الذي أطلقه الرومان على تونس – مزدهرة جدا وغدت قرطاجة المدينة الثانية بعد روما .
وبعد انحسار الأمبراطورية الرومانية غزاها الوندال عام 439 وبقيت تحت سيطرتهم إلى أن أستعادتها الأمبراطورية البيزنطية بين عامي 533-534. وطوال القرنين والنصف التاليين شكلّت تونس جزءا من شمال إفريقيا البيزنطية التي امتاز حكامها المحليون بنزوع واضح للاستقلال عن القسطنطينية، كما أمروا باعتناق المذاهب المسيحية غير الأرثوذكسيّة وهو المذهب المسيحي الذي كانت عليه القسطنطينية.
وقد بدأ الفتح العربي الإسلامي لشمال إفريقيا في 647 وأستتبّ عام 698 مع فتح قرطاجة وتأسيس مدينة تونس، وانتشر الإسلام بسرعة بين سكان تونس وخاصة البربر منهم. غير أنّ النزعات الاستقلالية عن مركز الخلافة ظلّت تبرز من وقت لأخر طوال القرن الثامن في شكل مذاهب خارجية – نسبة إلى الخوارج -، وبدأت تونس تتمرّد على السلطة المركزية، وفي أواخر الحكم الأموي وبداية الحكم العبّاسي خرجت تونس من الخلافة الأموية، ولكنّ العباسيين استعادوها ثمّ أخرجوا منها في عام 767 ميلادية إلى أن أخضعوها مجددا في سنة 800 بقيادة إبراهيم بن أغلب والذي عينّه هارون الرشيد حاكما لإفريقيا أي مقاطعة إفريقيا الرومانية سابقا.
أمنّت دولة الأغالبة الاستقرار والازدهار لتونس وشرعت في غزو صقليّة في ايطاليا عام 827 وبنت مساجد كبرى في المدن وشبكة متقنة من السدود والخزّانات لتأمين المياه لعاصمتها القيروان، غير أنّ حكم الأغالبة بدأ بالانهيار في أواخر القرن التاسع رغم استكماله لغزو صقلية عام 878، وقد أطاحت به ثورة دينية اندلعت في المناطق الواقعة غربي تونس في مطلع القرن العاشر .
وقد خضعت تونس للحكم الفاطمي الشيعي حيث أقام الفاطميّون على الساحل التونسي عاصمتهم التي حملت اسم المهديّة، وقضى الفاطميّون على ثورة " خطرة " التي قام بها البربر بين عامي 943-947 وسيطروا على مصر وسوريا في 969- 970، وبعد ثلاث سنوات نقلوا عاصمتهم إلى مدينة القاهرة التي شيدوها وتركوا حكم تونس لأمراء البربر المعروفين باسم الزيريين حيث تمتعّت تونس في عهدهم بالازدهار والتقدم.
وأنتعشت في تونس الفنون والعلوم والتجارة والصناعة، وفي عام 1050 ميلادي أعلن الزيريون عن ولائهم للخليفة في بغداد، فردّ الفاطميون على ذلك بإرسال مئات الألوف من البدو العرب الهلاليين الذين قضوا على سلطة الزيريين فيها ومزقّوا وحدة تونس السياسية.
وفي عام 1087 إحتلت قوات إيطالية من مدينتي بيزا وجنوا في ايطاليا العاصمة المهديّة، ثمّ أحتلها النورمانديون في سنة 1148 و طردوا الزيريين منها. و في سنة 1160 أصبحت تونس جزءا من دولة الموحدين في مراكش، ومن تمّ استعادها العباسيون لفترة وجيزة في مطلع القرن الثالث عشر ونصبّوا لإمرتها الحفصيين وهم من أسرة البربر والذين ظلّوا أهمّ قوة فيها إلى بداية السيطرة العثمانية.
وطوال معظم القرن 13 سيطر الحفصيون على شمال إفريقيا من طرابلس إلى وسط الجزائر, وأقاموا علاقات تجارية ودبلوماسية مع دول الساحل الشمالي للمتوسط ومدنه.
وقد اصطدم الحفصيون بمحاولات الدول الأوروبيّة للتوسع وقاموا بعمليات هجومية ضد مالطا إلى أن تورطوا في النزاع بين الملكة الإسبانية والسلطنة العثمانية، هذا النزاع الذي كان حاسما في مستقبل تونس.
الحكم العثماني في تونس :
بدأ الحكم العثماني في تونس في 1516 وأستتبّ في 1574 أقام فيها العثمانيون إدارة إقليمية دامت 17 سنة، إلى أن قامت ثورة عسكرية في عام 1591 حدّت من سلطة الباشا العثماني ونقلت السلطة الفعلية إلى الداي وهو لقب كان يحمله حوالي أربعين ضابطا كبيرا في الجيش العثماني، وفي سنة 1600 أصبحت السلطة في تونس حكرا على الدايات الذين أقاموا علاقات ديبلوماسية مع فرنسا دون علم السلطة العثمانية.
كان وضع تونس في النصف الأول من القرن 17 مزدهرا حيث انتعشت التجارة والمبادلات الاقتصادية مع مارسيليا وليفورنو وأقيمت علاقات تجارية مع أنجلترا وهولندا، وبعد عام 1650 انحسرت سلطة الدايات وحلّ محلهم البايات الذين كانوا أدنى منهم رتبة في الأصل، وقد أسسّ الباي حمودة في عام 1659 سلطة المراديين و أستمرت هذه السلطة تحكم تونس كلها إلى عام 1702 وبعد عام 1705 حكمت تونس سلالة جديدة من البايات عرفت البلاد عندها استقرارا نسبيّا رغم توتر العلاقات مع الجزائر وبداية ظهور الأساطيل الأوروبية في البحر الأبيض المتوسط.
وبعد الحروب النابوليونية أحسّت تونس بوطأة أوروبا الاستعمارية عليها بشكل حاسم،
ففي مؤتمري فيينا وأيكن 1815 – 1817 فرضت الدول الأوروبية على الباي محمود وضع حدّ لنشاطات القراصنة الذين كانوا يؤمنّون لتونس قسطا من مداخيل الدولة، وفي عام 1830 احتلّ الفرنسيون الجزائر، وقد شهدت الخمسون سنة التالية بعد هذا التاريخ محاولات تونسية لتجنّب نفسها المصير نفسه. وفي سنة 1881 حسمت فرنسا موضوع احتلالها لتونس بحجة وقوع حوادث على الحدود مع الجزائر وفرضت معاهدة قصر سعيد والتي صار الباي التونسي بموجبها حاكما اسميا لتونس.
وفي عام 1883 أجبر الباي علي الرابع على التوقيع على اتفاقية مرسى التي كرسّت الحماية الفرنسية لتونس، ونقلت السلطة إلى المقيم العام الفرنسي، وقد شجعّ الفرنسيون مجيئ مستوطنين أوروبين إلى تونس حيث منحتهم السلطات الاستعمارية في تونس الأراضي الخصبة بعد أن سرقتها وأغتصبتها من الفلاحين التونسيين الذين لم يكونوا يملكون غيرها لإعالة أنفسهم ووسط هذا المناخ الاستعماري الغاشم بدأت الحركة الوطنية التونسية تتشكّل وتتأسس مستلهمة الموروث الحضاري لتونس، وسوف تلعب بعد حين أكبر الأدوار في تاريخ تونس المعاصرة.
في شهر أيّار – مايو 1881 احتلّت الجيوش الفرنسية تونس ودخلتها عن طريق البر والبحر وقد أحتلّ الفرنسيون مدينة بنزرت وتوجهوا إلى تونس العاصمة لمقابلة الباي وقدموا له نسختين من معاهدة فرنسية معدّة سلفا، وقد أرغم الباي على التوقيع على المعاهدة الفرنسية التي عرفت باسم معاهدة باردو والتي أخضعت تونس رسميا للسيطرة الفرنسية.
ونصّت هذه المعاهدة على أنّ الاحتلال مؤقت وأنّ القوات الفرنسية سوف تحتل فقط جهات على الحدود والشواطئ تراها لازمة لتوطيد الأمن، وأنّ هذه القوات سترحل عندما تكون الإدارة التونسية قادرة على حفظ الاستقرار والأمن والنظام وأنّ فرنسا ملتزمة حماية الباي وأسرته وأنّه لا يحق له بأن يعقد أي عقد مع أي أجنبي بغير علم فرنسا والتفاهم معها مسبقا، وأنّه سينوب عن فرنسا وزير فرنسي مقيم يراقب تنفيذ ما تضمنته المعاهدة، وأنّ على حكومة الباي أن تتعهدّ بمنع إدخال الأسلحة إلى البلاد.
وفي فترة احتلالها لتونس سيطرت فرنسا على التعليم فأخضعته لنظم فرنسيّة حتى أصبح الطالب التونسي يتقن اللغة الفرنسية ويفقه أسرارها ويتذوق أدبها، ونفس المشروع التغريبي الذي نفذته فرنسا في الجزائر قامت باستنساخه في تونس، حيث قضت على المعاهد الأصلية التي كانت تخرّج علماء اللغة والشريعة وأبقت على الجزء اليسير منها، وفي محاولة لإخضاع تونس للثقافة الفرانكفونية الاستعمارية قامت فرنسا بمحاربة كل مظاهر التديّن لدى الشعب التونسي وعملت على القضاء على اللغة العربيّة وشيدّت مدارس ومعاهد فرنسية. وباعتبار أنّ مساحة تونس صغيرة جدا إذا ما قورنت بمساحة الجزائر أو المغرب فقد تمكنّت السلطات الفرنسية من بسط نفوذها بسرعة على كل الأراضي التونسية وهو ما شكلّ خرقا صريحا للمعاهدة الفرنسية التي أجبر الباي على توقيعها.
وتجدر الإشارة إلى أن يهود تونس لعبوا دورا كبيرا في التمكين للغازي الفرنسي، حيث كان اليهود التونسيون والذين يكثر وجودهم في معظم المناطق التونسية وتحديدا في منطقة جزيرة جربة حيث مقام الغريبة اليهودية التي يحج إليها اليهود سنويا وبعشرات الآلاف، وقد كافأتهم السلطات التونسية بمنحهم الجنسيّة الفرنسية.
وقد نجحت السلطة الاستعمارية الفرنسية في تكريس مشروعها الثقافي كما السياسي في تونس، ومازالت الآثار الثقافية الفرنسية قائمة إلى يومنا هذا، وبالإضافة إلى هذا فقد نجحت السلطات الفرنسية في شقّ الحركة الوطنية التونسية التي كان فيها جناحان، جناح يؤمن بالثورة على الطريقة الجزائرية لدحر المستعمر الفرنسي، وجناح لا يعترض على الوجود الاستعماري الفرنسي لكن يطالب بإصلاحات سياسية وتكريس حقوق الإنسان التونسي.
والحبيب بورقيبة الذي كان على رأس الحركة الوطنية التونسية تخرجّ من جامعة السوربون في فرنسا، ومعروف أن فرنسا كانت حريصة على تعليم بعض الشخصيات التونسية اللامعة في جامعاتها تمهيدا لاستيعابها ومن تمّ توظيفها، كما حدث مع العديد من الزعماء المغاربة والأفارقة الذين درسوا في المعاهد الفرنسية وعادوا رؤساء إلى بلادهم.
وبالتوازي مع بسط مشروعها الثقافي عملت السلطات الفرنسية على إقامة سيّاج أمني على امتداد الحدود الجزائرية –التونسية، وكان هذا الخط الفاصل بين الجزائر وتونس مكهربا ويحمل اسم خط موريس، وهذا الخط الحديدي المكهرب لم يحل دون تهريب الأسلحة إلى الثورة الجزائرية.
ومع مرور الوقت تأكدّ للسلطات الفرنسية أنّها لا يمكن أن تتفرغّ للثورة الجزائرية دون أن ترفع يدها عن تونس والمغرب، فجاء الاستقلال التونسي على شكل صفقة سياسية بين أطراف في الحركة الوطنية التونسية وعلى رأسها الحبيب بورقيبة و السلطات الاستعمارية الفرنسية.
الحركة الوطنية التونسيّة في عهد الاستعمار الفرنسي :
تفجرّت المقاومة الشعبية في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي، وتنادى الناس إلى الجهاد ودارت معارك المقاومة الشعبية ضدّ عدوين اثنين في أن واحد، ضدّ الباي وجنوده وضدّ المحتل الفرنسي، وفي كل مكان من البلاد هبّ الشعب التونسي يدافع ويقاوم وبرز زعماء شعبيون في كل منطقة، ولم يؤد استسلام الباي التونسي الكامل للسلطات الفرنسية إلى تركيع الشعب التونسي الذي تبنىّ النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي.
وبرز اتجاهان في الحركة الوطنيّة، الاتجاه الأول كان يدعو إلى المفاوضات والتصالح مع الاستعمار الفرنسي، وكان على رأس هذا الاتجاه المثقفون التونسيون الذين غلبت عليهم الثقافة الفرانكفونية، وكانت كل مطالبهم محصورة في تحسين حالة التونسيين ورفع الضيم عنهم وإلغاء الفوارق بينهم وبين الفرنسيين، ومثلّ هذا الاتجاه الحزب الدستوري الجديد.
و أول من بادر إلى مقاومة السلطات الفرنسية في تونس هو الشيخ محمد السنوسي الذي قاد الحركة الوطنية وشكلّ وفودا شعبية ذهبت تطالب الباي بوقف الفرنسيين عند حدهّم,
فما كان من السلطات الفرنسية إلاّ أن نفت الشيخ محمد السنوسي خارج تونس، وتولىّ قيادة الحركة الوطنية بعده الشيخ المكي بن عزوز أحد شيوخ جامع الزيتونة الثوريين، وكونّ مجموعة من الشباب التونسيين الثوريين وعبأّهم ضدّ القوات الاستعمارية الفرنسية، وتمّ نفي الشيخ مكي بن عزوز خارج تونس حيث أدركته المنيّة في المشرق العربي.
وقد حمل أفكاره الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي كان الى جانبه الشيخ علي كاهية والشيخ زروق والهادي السبعي.
ولم تنتظم الحركة الوطنيّة في تنظيم ذي محتوى سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي إلاّ بعد تجارب مريرة في خضمّ النضال الوطني ضدّ الاستعمار الفرنسي. وفي سنة 1907 تأسسّت أول حركة وطنية سياسية ومنظمة بقيادة علي باش حانبه والشيخ عبد العزيز الثعالبي، وكان عنوان هذه المنظمة هو تونس الفتاة حيث تأثرّ مؤسسوها بحزب تركيا الفتاة التركي الذي كان وراء العديد من المتغيرات التي حصلت في تركيا في بداية القرن العشرين. وفي سنة 1911 وعندما غزت ايطاليا ليبيا، تحركت منظمة تونس الفتاة من منطلق دعم النضال الليبي، وأخذت تمدّ المجاهدين الليبيين بالأموال والمتطوعين، والى جانب هذا أصدرت الحركة الوطنيّة جريدة تحمل اسم : الاتحاد الإسلامي وأسندت رئاسة تحريرها إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي. والى جانب مشاركة القبائل التونسيّة في الجهاد وحمل السلاح ضدّ الفرنسيين، فقد اندلعت معارك طاحنة بين التونسيين والإيطاليين، وكانت أخر معركة بين الطرفين عرفت باسم معركة الجلاّز، وتحركت السلطات الفرنسية عندما رأت أن زمام الأمور ستفلت من يدها بعد المعارك التي نشبت عقب معركة الجلاّز، فصبّت فرنسا جام غضبها على الحركة الوطنية التي حملتها فرنسا مسؤولية الانتفاضات وتمّ اعتقال الشيخ علي باش حانبه و عبد العزيز الثعالبي والشاذلي درغوت ومحمد العروي ومحمد نعمان والمختار كاهية وقد هاجر علي باش حانبه إلى تركيا فيما هاجر عبد العزيز الثعالبي إلى الجزائر ومنها إلى مصر.
وكانت السلطات الفرنسية تتوقع أن تنتهي المقاومة الشعبية بعد نفي زعماء الحركة الوطنية الى الخارج، إلا أنّ ثورة مسلحة اندلعت سنة 1915 واستمرّت الى سنة 1918 بقيادة الحاج سعيد بن عبد اللطيف، وفي عام 1919 وأثناء انعقاد مؤتمر الصلح بباريس اتصلّ الشيخ عبد العزيز الثعالبي بالمؤتمر وقدمّ إليه مذكرة تتعلق باستقلال تونس وطالب بتطبيق مبادئ ويلسون الأربعة عشر ونشر في باريس كتابا بعنوان : تونس الشهيدة، فضح فيه دسائس الاستعمار الفرنسي وجرائمه في حق شعب تونس، وقد تلقفّ المثقفون في المغرب العربي هذا الكتاب، وبسبب هذا الكتاب ألقت فرنسا القبض على عبد العزيز الثعالبي وأرجعته إلى تونس وألقته في أحد سجونها، والثعالبي الذي ساهم إلى أبعد الحدود في النهوض بالوعي السياسي للتونسيين لم يذهب جهده سدى، إذ أنّ الشعب التونسي لجأ إلى التظاهرات والإضرابات وطالب بضرورة إخلاء سبيل الشيخ عبد العزيز الثعالبي وأجبر فرنسا على ضرورة إطلاق سراحه، وبعد خروجه من السجن تمّ تعيينه رئيسا للحزب الحر الدستوري التونسي، كما جرى تعيين المحامي أحمد الصافي أمينا عاما للحزب. وشرع هذا الحزب في فتح الفروع والمكاتب في مختلف البلاد التونسية ووضع برنامجا ثقافيا وفكريا يقضي بغرس الوطنية في نفوس التونسيين تمهيدا لإشراكهم في الكفاح المسلح ضدّ الاستعمار الفرنسي.
وقد قام الحزب الدستوري التونسي سنة 1920 على مبادئ تطالب بنظام دستوري لتونس وتأليف حكومة وطنية مسؤولة أمام الشعب باعتبار أنّ تونس أول بلد عربي أعلن دستورا في سنة 1865 يمنح نواب الشعب حق المشاركة في الحكم وحتى حق خلع الباي.
من هو عبد العزيز الثعالبي :
يعتبر عبد العزيز الثعالبي أحد روّاد الإصلاح في تونس ويشبه إلى حدّ كبير في تفكيره رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الحميد بن باديس، فالثعالبي كان يرى أنّ مصدر التشريع في البلاد العربية والإسلامية يجب أن يكون الثقافة الإسلامية، ورغم كونه أحد أعلام جامع الزيتونة إلاّ أنّه كان ضالعا في القضايا السياسيّة ولم يكن يرى فرقا بين الدين والسياسة، وكان يرى أنّ الدين جاء لإصلاح شؤون الناس وإدارة حياتهم، ولم يكن الثعالبي مجرد زعيم سياسي بل كان مصلحا اجتماعيّا ودينيّا، وكان متأثرا بفكر محمد عبده و رشيد رضا وقد تسنىّ له الإطلاع على فكرهما عندما أقام في مصر غداة نفيه من قبل السلطات الفرنسية من تونس.
وتمكن من ملامسة الهمّ العربي والإسلامي من خلال تنقله بين مصر وبغداد وفلسطين، وقد أكسبه هذا التجوال المزيد من التجارب خصوصا فيما يتعلق بزعماء الإصلاح وروّاد التنوير في المشرق العربي.
وقد أثار الجمود الذي أصاب الحزب الدستوري التونسي بعد نفي زعيمه الثعالبي نفرا من الشبّان التونسيين المنضوين تحت لواء الحزب الدستوري فقاموا بتأسيس جريدة صوت التونسي في سنة 1928 وتولى إدارتها الشاذلي خير الله، وفي سنة 1929 أصبحت هذه الجريدة تحمل اسم العمل التونسي وكلتاهما كانتا تصدران باللغة الفرنسية، لأنّ الصحف العربية كانت ممنوعة.
وفي سنة 1932 عقد الحزب الحر الدستوري التونسي مؤتمرا استثنائيّا وأنتخب أسرة تحرير العمل التونسي في اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري وهم الدكتور محمود الماطري، والمحامي الطاهر صفر والمحامي البحري قيقة والمحامي محمد بورقيبة و شقيقه الأصغر الحبيب بورقيبة.
ويتجلى من خلال التطورات التي حصلت داخل الحزب الدستوري التونسي أنّ قيادته الأولى كانت من علماء الدين وخريجي جامع الزيتونة العريق في تونس، وكان الرعيل الأول مشبعا بالثقافة الإسلامية والعربية، وبعد نفي الشيخ الثعالبي تولى قيادة هذا الحزب مجموعة من الشباب التونسي المتأثر بالثقافة الفرانكفونية وكثير من شخصيات الرعيل الثاني أتمّت تعليمها في الجامعات والمعاهد الفرنسية.
ويمكن القول أنّ النضال التونسي الذي بدأه علماء جامع الزيتونة قد صودر بوصول نخبة مثقفة بالثقافة الفرنسية وعلمانية إلى مواقع التأثير في أهم حزب في تونس.
وإذا كان عبد العزيز الثعالبي قد بنى الحزب الدستوري التونسي على أسس فكرية تمتد جذورها الى الفكر السلفي الإصلاحي الذي بلوره جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وربط الحركة النضالية التونسية بحركات التحرر في المغرب والمشرق العربيين. فان الذين جاؤوا بعده لم يكونوا على منواله.
وفي الضفة الأخرى يقف الشباب الذين أنشقوا في وقت لاحق عن الحزب الدستوري الأم وأسسوا الحزب الدستوري الجديد وكانوا قد درسوا في أوروبا وتربّوا على الفكر التنظيمي الغربي، والخلاف بين الثقافتين أدّى إلى اختلاف في منهج العمل وأسلوب التحرك السياسي.وقد تمكنّ التيار السياسي الجديد وهو الحزب الدستوري الجديد من فرض نفسه في الساحة السياسية التونسية، ودعا هذا الحزب إلى سلسلة من الإضرابات والتظاهرات ثمّ دعا إلى العصيان المدني وبسبب هذا العصيان وقعت صدامات دموية بين المواطنين التونسيين والجيش الفرنسي.
وفي عام 1954 عرضت حكومة منديس فرانس الفرنسية على التونسيين مشروع منح تونس الحكم الذاتي مع احتفاظ فرنسا بمسؤوليّة الدفاع والشؤون الخارجية، ولقيت هذه المقترحات القبول من جانب الحبيب بورقيبة، وبموجبه تشكلّت حكومة فرنسية برئاسة طاهر بن عمّار وضمّت هذه الحكومة عناصر معتدلة و ثلاثة أعضاء من الحزب الدستوري الجديد، وبدأت المفاوضات مع الفرنسيين لتسفر عن اتفاق نهائي في 02 حزيران – جوان سنة 1955.
وكانت بعض الشخصيات الوطنية تعتبر هذا الحكم الذاتي استمرارا للاستعمار وتنازلا صريحا عن تونس ومنحها على طبق من ذهب للفرنسيين. وقد تزعمّ معارضة ها الاتفاق صالح بن يوسف الذي تمكنّ من تحريك مئات التونسيين الذين دخلوا في مواجهات مع الجيش الفرنسي والقوات الحكومية التونسية والتي ألقت القبض على كل مؤيدي صالح بن يوسف الذي تمكنّ من الفرار إلى طرابلس.
وفي تلك الظروف التي كانت تشبه ظروف الحرب الأهلية توجهّ وفد تونسي برئاسة الحبيب بورقيبة إلى باريس لإجراء مفاوضات جديدة مع الفرنسيين، وفي 20 آذار – مارس 1956 وقعّ الطرفان بروتوكولا أقرّت فيه فرنسا رسميا باستقلال تونس وحقها في تولّي الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الداخلي وتشكيل جيش وطني وتضمنّ الاتفاق أن القوات الفرنسية تبقى في فرنسا في فترة انتقالية تنسحب بعدها من تونس.
وقد أدّت الانتخابات العامة التي وقعت في تونس بعد الاتفاق مع فرنسا إلى فوز الحزب الدستوري الحاكم، وأصبح الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة التونسية، وأصبح الحزب الدستوري بقيادة بورقيبة حزبا حاكما، وتمّ إبعاد كل أنصار صالح بن يوسف أو اليوسفيين من الحكم وخصوصا بعد ن قاطعوا الإنتخابات العامة.
التطورات السياسية في تونس :
في 01 حزيران – جوان 1959 تمّ وضع دستور جديد في تونس كرسّ بشكل مطلق النظام الرئاسي حيث بات الرئيس الحبيب بورقيبة يتمتع بصلاحيات واسعة بدون منازع، ونصّ الدستور الجديد على انتخاب الرئيس كل خمس سنوات مع إمكانية انتخابه ثلاث مرات متتالية، ونصّ الدستور التونسي الأول الذي وضع في حزيران –جوان في سنة 1959 على أنّ الرئيس التونسي له كل الصلاحيات في رسم سياسة الدولة الداخليّة والخارجية واختيار أعضاء الحكومة وتولّي القيادة العليا للجيش والقيام بالتعيينات لجميع المراكز المدنيّة والعسكرية، كما نصّ الدستور على انتخاب جمعية وطنية – برلمان – مرة كل خمس سنوات.
وفي 08 تشرين الثاني –نوفمبر 1959 أعيد انتخاب الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة بدون منافسة وفي هذه الأثناء شهدت العلاقات التونسية –الفرنسية تحسنا كبيرا، ووقعّ البلدان على إتقاقيّات في مجال التجارة والتعرفة الجمركيّة. وفي سنة 1961 قام الحبيب بورقيبة بزيارة إلى العاصمة الفرنسية باريس، والتقى آنذاك بالرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول. وبعد استقلال الجزائر في 05 تموز 1962 تدهورت العلاقات الجزائرية –التونسية بسبب خلاف الإيديولوجيات، حيث كان الحبيب بورقيبة مغرقا في إعجابه بالعلمانية الغربية، فيما كان أحمد بن بلة الرئيس الجزائري يميل إلى الخط الناصري الثوري، وكان أحمد بن بلة دائم الخلاف مع الحبيب بورقيبة، وكان بن بلة يعتقد أن بورقيبة لطالما تحركّ ضدّ الثورة الجزائرية، وكانت الجزائر في ذلك الوقت تدعم صالح بن يوسف أحد أبرز خصوم الحبيب بورقيبة. وفي كانون الثاني – يناير 1963 استدعت تونس سفيرها في الجزائر بحجة تواطؤ الجزائر مع عناصر عسكرية تابعة لبن يوسف حاولت اغتيال الحبيب بورقيبة في تونس.
وفي أيّار – مايو 1968 وبعد اتهام بورقيبة بمعارضة الكفاح الفلسطيني من أجل فلسطين طلبت تونس من القائم بأعمال سوريا في تونس مغادرة تونس بعد أن أتهمته بتحريض المواطنين التونسيين للقيام بأعمال تخريبية ضد الحكومة التونسية.
وفي أيلول – سبتمبر سنة 1968 رفضت الجامعة العربية الاستماع لوجهة نظر تونس التي تضمنّت انتقاد المواقف العربية والمصرية تجاه فلسطين، وردّت تونس بإعلان مقاطعتها لاجتماعات الجامعة العربية، وأكدّت في الوقت نفسه تأييدها لحركة المقاومة الفلسطينية.
وعادت العلاقات الجزائرية – التونسية إلى التدهور مجددا بسبب موقف تونس من الصراع العربي – الإسرائيلي. وقد منحت تونس بسبب هذه السياسة الجزائرية المناوئة لها حق اللجوء السياسي للعقيد الطاهر الزبيري رئيس هيئة الأركان في الجيش الجزائري والذي قاد محاولة انقلاب ضدّ حكم الرئيس هواري بومدين الذي كان قد أطاح بدوره بنظام أحمد بن بلة في حزيران –جوان 1965.
ويتضح من خلال ما ذكر أنّ علاقات تونس بمحيطها العربي كانت مضطربة بسبب تسرّع الحبيب بورقيبة في الميل نحو رغبات المعسكر الغربي الذي كان يكّن له كل الإعجاب.
وعلى صعيد داخل تونس فانّ الحبيب بورقيبة لم يكرّس مبدأ التداول على السلطة ، ولم يفسح المجال للأحزاب السياسية التونسية بالعمل السياسي وعمل على تدجين الصحافة، كما كان يلاحق كل من كان يشمّ فيه رائحة عدم الولاء. فأحمد بن صالح وزير المالية والتخطيط والذي كان أحد أبرز أعضاء الحزب الدستوري، وأحد المرشحين لخلافة الحبيب بورقيبة نقل سنة 1969 إلى وزارة التربية ثمّ جرّد من كل مناصبه، وبعدها تمّ اعتقاله وحوكم بتهم متعددة، وفي 10 أيّار – مايو 1970 حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات مع الأشغال الشاقة، غير أنّه فرّ من السجن في سنة 1973 ولجأ إلى أوروبا وقاد هناك المعارضة ضدّ نظام الحبيب بورقيبة.
وقد كان أحمد بن صالح الأول بين عدة وزراء أقيلوا بصورة مفاجئة، ففي سنة 1969 أقيل الباهي الأدغم من رئاسة الحكومة بعد أن رشحته التوقعات لخلافة بورقيبة وخصوصا بعد أن تولّى الحكم الفعلي لمدة ست أشهر أثناء غياب بورقيبة لأسباب صحية، إلى جانب رئاسة الباهي الأدغم للجنة اتفاقية القاهرة المعقودة بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية والتي أكسبته شهرة واسعة في الوطن العربي .
وفي تشرين الأول –أكتوبر سنة 1970 عينّ الهادي نويرة رئيسا للحكومة، وأعلن الرئيس بورقيبة أنّ الهادي نويرة سيكون خليفته في الحكم، وكان باهي الأدغم قد استقال من جميع مناصبه السياسية وتبعه أحمد المستيري الذي كان وزيرا للداخلية بين 1970 –1971.
وفي أيلول – سبتمبر 1974 انتخب المؤتمر التاسع للحزب الدستوري الحبيب بورقيبة رئيسا للحزب مدى الحياة، وعين الهادي نويرة كأمين عام للحزب، وعينّ الحبيب بورقيبة مكتبا سياسيا من عشرين عضوا.
وفي تشرين الثاني – نوفمبر 1974 أعيد انتخاب الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة التونسية بدون منافس، وبعد ذلك بسنة واحدة أقرت إصلاحات دستورية واسعة عززّت ديكتاتورية الحبيب بورقيبة.
أماّ المعارضة التونسية فقد عاشت أسوأ أيّامها في هذه المرحلة من تاريخ تونس، ففي 1974 صدرت أحكام بالسجن ضد 175 شخصا أغلبهم طلاّب بعثيون وماركسيون وإسلاميون لإنتمائهم إلى فصائل سياسية غير معترف بها.
و في مطلع كانون الأول –ديسمبر 1975 وقع إضراب عام في الجامعة التونسية ووقعت أثناءها اشتباكات عنيفة بين قوات الأمن والطلاب التونسيين، وتجددّت الاشتباكات العنيفة بين قوات الأمن والطلاب سنة 1977، وقادت النقابات العمالية المعارضة ضدّ نظام الحبيب بورقيبة، وشهدت سنة 1976 إضرابات مالية مكثفة في تونس، وبين 1977 – 1978 تمّ اعتقال 28 شخصا بتهمة الانتماء إلى حركة الوحدة الشعبية المرتبطة بأحمد بن صالح.
و في سنة 1977 انتعشت المعارضة الليبيرالية التي تعتبر أحمد المستيري أبرز أعضائها وفي نفس السنة وفي شهر نيسان – أبريل شكلّ الليبيراليون لجنة الدفاع عن حقوق الانسان.
و أبرز حدث داخلي شهدته تونس منذ استقلالها كان الانفجار السياسي الذي شاركت فيه النقابات العمالية حول قضايا سياسية واجتماعية متعددة، وقد بلغ هذا الانفجار ذروته يوم الخميس الأسود في 26 كانون الثاني – يناير 1978 حينما خرج الجيش التونسي من ثكناته الى الشوارع وأدت المواجهات بينه وبين المتظاهرين الى مقتل العشرات.
وتمّ اعتقال قادة الحركة النقابية ومحاكمتهم وعلى رأسهم الحبيب عاشور، وقد سبقت هذه المواجهات والإضرابات سلسلة استقالات في صفوف الوزراء والذين عبروا عن تفسخ النظام من الداخل.
وفي 12 كانون الثاني – يناير 1974 وقع تطور مفاجئ في تونس كاد يغيّر الأوضاع السياسية رأسا على عقب، وتمثلّ هذا التطور أنّه في أعقاب اجتماع بين الحبيب بورقيبة والعقيد الليبي معمّر القذافي رئيس ليبيا أعلن عن وحدة سياسية بين تونس وليبيا، على أن يكون بورقيبة رئيسا للدولة الموحدة و القذافي نائبا له.
ولم يبصر هذا المشروع النور بسبب معارضة بورقيبة الدائم له، والواقع أنّ الذي كان متحمسا للمشروع هو وزير خارجية تونس محمد المصمودي الذي عمل منذ تعيينه على رأس الخارجية التونسية سنة 1970 على ترميم العلاقات العربية – التونسية، وقد نجح في مهمته إلى أبعد الحدود، وتمكن بحنكته من بعث الروح في العلاقات التونسية مع كل من مصر وسوريا ودول المحور الاشتراكي في ذلك الوقت.
الصراع بين الأصالة والتغريب في تونس :
لجأت النخبة الحاكمة في تونس بعد الاستقلال الى تطبيق الأنماط الغربية في تسيير شؤون الدولة والمجتمع، وكان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة يتفاخر بالعلمانية الغربية التي كان يطبقّها في تونس، وكان بورقيبة يتمنى لو كان موقع تونس الجغرافي على مقربة من الدول الإسكندينافية.
وفي حديثه لصحيفة الأمان اللبنانية قال زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي أنّ الحركة الإسلامية في تونس واجهت المصاب الجلل بآلاف المساجين والتعذيب الرهيب والذي أفضى إلى استشهاد العشرات من الأخوة وتجويع العائلات ومنع كل عون عنهم من أجل إضعاف صمود المساجين ودفع الزوجة إلى طلب الطلاق وما إلى ذلك من الأساليب الهمجية ( 1 ) .
فالحبيب بورقيبة الذي كان مشبعا بالثقافة الفرنسية و أحد أبرز المعجبين بالطرح العلماني حاول بناء دولة تونسية علمانية على غرار ما فعله مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، ولجأ في بداية حكمه إلى تجميد دور جامع الزيتونة الذي لعب أكبر الأدوار في تاريخ تونس المعاصر وأحتضن روّاد حركات التحرير من كل دول المغرب العربي، حيث كان دعاة الثورة على فرنسا من أقطار المغرب العربي يزاولون تعليمهم في جامع الزيتونة.
و لم يقم بورقيبة بأي خطوة في سبيل استرجاع الاستقلال الثقافي بل ظلّت تونس خاضعة ثقافيّا للغرب، والأكثر من ذلك فقد أقصى الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة كل المحسوبين على التيار الوطني والعروبي ووضع الكثير منهم في المعتقلات ( 2 ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حوار أجرته صحيفة الأمان البيروتية مع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في العدد 229 بتاريخ 01 تشرين الثاني – نوفمبر 1991.
(2) راجع كتاب يحدث في تونس للصحفي قصي صالح الدرويش.
و كان الحبيب بورقيبة يوصف بأنّه الصديق الحميم لفرنسا ووطدّ علاقات تونس بالمحور الغربي وهو ما جلب له السخط من قبل بعض جيرانه ومن قبل العديد من الدول العربية.
ولم يكتف الرئيس الحبيب بورقيبة بتكريس العلمانية بشكلها الغربي والمتوحش بل ألغى كل قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية، كقانون تعدد الزوجات والإرث والطلاق وحتى فريضة الصوم أراد إلغاءها بحجّة أنّ الصوم يضعف الإنتاج.
وفي عهد الحبيب بورقيبة ازدهر دور الجاليّة اليهودية في تونس وخصوصا بعد أن أصبح بعض اليهود التونسيين وزراء في أول حكومة تونسية ومنهم ألبير بسيسي وتجدر الإشارة إلى أن أندري باروش مؤسس الحزب الشيوعي التونسي هو من اليهود التونسيين.
وهذا الاتجاه السياسي الذي تبنّاه الحبيب بورقيبة ساهم إلى أبعد الحدود في انبلاج التيار الإسلامي الذي حمل على عاتقه لواء المحافظة على الهويّة المصادرة و القيّم الضائعة وقاوم بكل ما أوتيّ من إمكانات الغزو الفكري والمسخ الثقافي لتونس.
وفي سنة 1970 وفي جامع سيدي يوسف بالعاصمة التونسية التقى راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو لتقديم مفاهيم عن البديل الإسلامي في مواجهة البديل التغريبي (1).
ويذهب بعض الباحثين ومنهم الدكتور إبراهيم حيدر علي إلى القول بأنّ التغريب في تونس ليس وليد البورقيبية، بل أنّ احتكاك تونس بالحضارة الغربية تمّ في مرحلة متقدمة من العهد البورقيبي، وتعتبر تونس ومصر من أقدم الدول العربية في احتكاكها بالحضارة الغربية ومحاولة تبنيّ عناصرها العملية والمفيدة فيما يخص المؤسسات والوسائل المادية (2).
والصراع بين القديم والجديد، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الأسلمة والتغريب ظاهرة
لا تقتصر على تونس وحدها بل هي ظاهرة عمّت البلاد العربية والإسلامية نظرا للغزو الاستعماري الغربي لهذه البلدان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر كتاب الإسلام الاحتجاجي في تونس لمحمد عبد الباقي الهرماسي.
(2) أنظر كتاب التيارات الإسلامية وقضية الديموقراطية لإبراهيم حيدر علي.
إسلامنا – يحيى أبو زكريا *
المحتويات.
1- مدخل.
2- تونس : نبذة تاريخيّة.
3- الحركة الوطنيّة التونسية في عهد الاستعمار.
4- الصراع بين الأصالة والمعاصرة.
5- الحركة الحزبية والسياسية في تونس.
6- عهد الجنرال زين العابدين بن علي.
7- الحركة الإسلامية في تونس.
8- الجماعة الإسلامية التونسية.
9- حركة الاتجاه الإسلامي.
10- الأداء السياسي لحركة الاتجاه الإسلامي.
11- حركة الاتجاه الإسلامي والعنف.
12- حركة النهضة الإسلامية والحركات الإسلامية الأخرى.
13- مستقبل الحركات الإسلامية في المغرب العربي.
مدخل :
خضعت تونس كما الجزائر للهيمنة الاستعمارية الفرنسية، وتعرضّت هويتها العربية إلى كثير من المسخ الأمر الذي جعل الحركة الوطنية تركّز على تحقيق الاستقلال الثقافي والسياسي على حدّ سواء، وقد لعب جامع الزيتونة العريق في تونس دورا كبيرا في صقل الشخصية الوطنية وخاض صراعا مريرا ضدّ الاستعمار الفرنسي، و مثلما لعب الأزهر الشريف في مصر دورا تاريخيا ضدّ الإنجليز فكذلك الأمر بالنسبة لجامع الزيتونة.
وكان العديد من رجال العلم والإصلاح في الجزائر يتوجهّون إلى تونس لإكمال دراساتهم العليا في الدراسات الشرعية والأدبية، كما أنّ تونس تحولّت إلى قاعدة خلفيّة للثورة الجزائرية، حيث كان قادة الثورة الجزائرية يتنقلّون إلى تونس إذا أرادوا التوجّه إلى عاصمة عربية أو غربية، كما أنّ الأسلحة التي كانت تصل إلى الثوّار الجزائريين كانت تعبر الأراضي التونسية ومنه إلى الجبال حيث يقيم الثوّار في الجزائر و لوضع حدّ لتهريب الأسلحة إلى الثورة الجزائرية أقامت السلطات الاستعمارية الفرنسية سياجّا حديديّا شائكا على امتداد الحدود الجزائرية – التونسية، إلاّ أنّه لم يؤد إلى قطع جسور التواصل بين الثورة الجزائرية والحركة الوطنية التونسية.
وكانت الحركة الوطنية التونسية في ذلك الوقت تضمّ عناصر تكونّت في الزيتونة وتشبعّت بالثقافة العربية والإسلامية وتفاعلت مع الحركات الإصلاحية في المشرق العربي، ولم يكن لهذه العناصر أدنى نصيب في دوائر الحكم غداة الاستقلال، وكان الزعيم الوطني الأوحد هو الحبيب بورقيبة أحد الشخصيات التونسية المعروفة.
وقد لعب الحبيب بورقيبة دورا كبيرا في تاريخ تونس المعاصرة لجهة اضطلاعه بصناعة القرار التونسي ولأزيد من ثلاثة عقود من الزمن، وقد أكمل بورقيبة تعليمه في جامعة السوربون في فرنسا والتي تخرجّ منها بشهادة البكالوريوس في الحقوق. وتجدر الإشارة إلى أنّ تونس لم تحصل على استقلالها عبر ثورة شعبية كما هو شأن الجزائر، بل إنّ فرنسا وافقت على منح الاستقلال الذاتي لتونس، وهذا لا يعني أنّ الحركة الوطنية التونسية لم يكن لها دور في محاربة الاستعمار الفرنسي، بل الأمر يعود إلى رغبة فرنسا في تخفيف العبء الاستعماري عنها والتفرغ لمجابهة الثورة الجزائرية التي أقضّت مضاجعها.
و بعد استقلال تونس وجد الحبيب بورقيبة نفسه على رأس الدولة التونسية الفتية والتي راح يصيغ ثوبها الفكري والسياسي والإيديولوجي صياغة لا تمت بصلة إلى الموروث العربي والإسلامي لتونس ولذلك كان الحبيب بورقيبة عرضة لكثير من الاتهامات من معارضيه من قبيل أنّه صنيعة فرنسية، وأنّ باريس لعبت دورا كبيرا في تعيينه على رأس الدولة التونسية، وكان لجوءه إلى سنّ مجموعة كبيرة من القوانين العلمانية يزيد في اتساع حجم هذه الاتهامات.
وقبل وصول الحبيب بورقيبة إلى سدّة الحكم في تونس عاشت الحركة الوطنية التونسية سلسلة من الانشقاقات والتصدعات أدّت إلى انسحاب العديد من الشخصيات من الحزب الدستوري الاشتراكي الذي تحولّ إلى حزب حاكم بعد الاستقلال وكان الوحيد في الساحة السياسية، لأنّ التعددية كانت ممنوعة في تونس و تمّت تصفية العديد من معارضي بورقيبة بعد الاستقلال ,وفرّ بعضهم إلى الجزائر والبعض الأخر توجهّ إلى بعض العواصم الأوروبية كباريس وجنيف وغيرهما.
وإذا كان خصوم الحبيب بورقيبة من الوطنيين و الإسلاميين يتهمونّه بجرّ تونس إلى حظيرة العلمانية المتوحشة فانّ بعض الثوّار الجزائريين كانوا يتهمون بورقيبة بأنّه كان يعمل على تطويق الثورة الجزائرية ويسرد عمار قليل وهو من المشاركين في الثورة الجزائرية في كتابه ملحمة الثورة الجزائرية هذه القصة التي مفادها أنّ البيت الأبيض في واشنطن استدعى في أواخر تشرين الثاني – نوفمبر – 1956 رئيس الحكومة التونسية الحبيب بورقيبة لزيارة واشنطن والذي لبىّ الدعوة حيث قابل في واشنطن الرئيس الأمريكي ايزنهاور، وحول مائدة ايزنهاور دارت مفاوضات ومساومات حول القضيّة الجزائرية، وتمّ الاتفاق في نهايتها على أن تدفع حكومة واشنطن مساعدة اقتصادية لتونس مقابل أن يقوم الحبيب بورقيبة بدور فعّال لإقناع قادة الثورة الجزائرية بالكفّ عن القتال وإعادة الهدوء والحياة الطبيعية إلى الجزائر في ظلّ فرنسا، و قد تعهدّ الحبيب بورقيبة بأن يقوم بوساطته لدى قادة الثورة الجزائرية في محاولة لإقناعهم بوقف القتال، كما فعل في تونس عندما قبل الاستقلال الذاتي، وكان أول تصريح له وهو على أدراج سلّم البيت الأبيض : نحن مع الغرب وسنظّل معه لا بحكم موقعنا الجغرافي فقط بل بحكم ثقافتنا وتقاليدنا، وحين عاد إلى تونس صرحّ قائلا : لقد إتفقت مع الرئيس الأمريكي ايزنهاور على أن نتوسطّ لحلّ القضية الجزائرية، وكان الرئيس التونسي على الدوام إلى جانب المشاريع السياسية المتعلقة بكيفية حلّ الأزمة الجزائرية التي كان يطرحها الجنرال شارل ديغول رئيس فرنسا في ذلك الوقت.
ورد في كتاب الملحمة الجزائرية للأستاذ عمار قليل أنّ بورقيبة عندما عاد من واشنطن إلى تونس بدأ يجري اتصالات مع السياسيين في كل من مراكش والجزائر وليبيا وتونس، وأوضح لهم بورقيبة أنّ هناك مشروعا لإقامة حلف جديد يجمع أقاليم الشمال الإفريقي بالإضافة إلى فرنسا و إسبانيا وايطاليا، وترعاه أمريكا وبريطانيا ويكون مكملاّ للحلف الأطلسي.وقد حاول بورقيبة إقناع المسؤولين في شمال إفريقيا بقبول المساهمة في الحلف الجديد الذي كان يحمل اسم حلف غربي البحر الأبيض المتوسط، وكاد هذا الحلف الجديد أن يتحولّ إلى واقع سياسي لكنّ الثورة الجزائرية نسفت فكرة هذا الحلف من أساسه. لقد أقترح الحبيب بورقيبة على قادة الثورة الجزائرية أن يوقفوا إطلاق النار، ويقبلوا بتشكيل حكومة في نطاق الاتحاد الفرنسي، ومن بعد ذلك تدخل الجزائر في حلف مع فرنسا بالاشتراك مع دول الشمال الإفريقي.
وكان بورقيبة يؤكّد لقادة جبهة التحرير الوطني على ضرورة القبول بهذه الفكرة كما كان ينوّه بمزايا الحلف. و ظلّ بورقيبة على امتداد ثلاثة أسابيع يحاول إقناع قادة الثورة الجزائرية بالفكرة، ولم تجد محاولاته على الإطلاق فتلاشى المشروع الأمريكي كما تلاشت محاولات بورقيبة.
في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات بدأت تتأسّس في تونس النواة الأولى للحركة الإسلامية التونسية، وقد تأثرّ مجموعة من المثقفين في ذلك الوقت بفكر المفكر الجزائري مالك بن نبي صاحب التصانيف الكثيرة من قبيل الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وشروط النهضة، وغيرها من التصانيف.
كما تأثرت هذه النخبة التونسية بفكر سيد قطب أحد أبرز منظرّي تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، والمفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي، وأبرز قطب في هذه النخبة راشد الغنوشي وصالح كركر وعبد الفتّاح مورو وغيرهم.
وشكلّ هؤلاء جمعية إسلامية هي أقرب إلى خلية منظمة ومهيكلة والتي أصبحت فيما بعد تعرف باسم حركة الاتجاه الإسلامي، وقد ركزّ الاتجاه الإسلامي عمله في الجامعات والثانويات والمعاهد التربوية والمساجد، وتمكنّ من استقطاب العديد من الأنصار، وكان أهداف هذه الجماعة :
1- إعادة إحياء القيّم والمبادئ ومفردات الثقافة الإسلامية.
2- مقاومة الغزو الفكري وإفرازات التأثر بالعلمانية الغربية، وذلك من خلال وسائل دعوية لا علاقة لها بالعنف إطلاقا.
وكان الاتجاه الإسلامي بزعامة راشد الغنوشي يتحاشى الدخول في صراع مع السلطة القائمة والتي كان يريدها الحبيب بورقيبة علمانية على الطراز الغربي الخالص، إلى درجة أنّ بورقيبة كان يقول : يا ليت تونس تقع جغرافيّا قرب السويد أو الدانمارك لتخرج نهائيا من هذا المحيط العربي والإسلامي.
و يعتبر زعيم حركة الاتجاه الإسلامي راشد الغنوشي من الإنتليجانسيا الإسلامية في تونس، درس الفلسفة في جامعة دمشق في سوريا وكان في بداياته الفكرية متأثرا بالفكر القومي العربي وبالخط الناصري ثمّ عدل عن هذا الفكر عندما توالت الانتكاسات على العالم العربي بعد النكسات المتتالية مع الكيان الصهيوني.وعندما شرع في قراءة الكتب الإسلامية أخذ يتأثر بالأدبيات الإسلامية إلى أن تحولّ كلية إلى تبني الفكر الإسلامي و أعتبر أنّ البديل الإسلامي هو الأصلح للعالم العربي والإسلامي.
ولأنّه تحاشى الاصطدام بالسلطة الإسلامية فقد أستطاع أن يبنيّ لتنظيمه الذي كان يعرف بالاتجاه الإسلامي، والذي تحولّ مع مرور الأيام إلى ظاهرة أثارت مخاوف المشرفين على الوضع العام في تونس، كما أثارت مخاوف الحبيب بورقيبة الذي لاحق الأعضاء البارزين في جماعة الاتجاه الإسلامي. وقد تعرضّ راشد الغنوشي للاعتقال وربما هذا الذي أدىّ إلى تكريسه كزعيم إسلامي تونسي، وبدأ رصيده يرتفع كأهمّ خصم لنظام الحبيب بورقيبة العلماني.
ويحظر الدستور التونسي تأسيس أحزاب على أساس ديني إسلامي، و كانت الساحة السياسية في تونس حكرا على حزب السلطة والأحزاب القريبة من دوائر السلطة.
وعندما بدأت الحركة الإسلامية الجزائرية تبرز بقوة في بداية الثمانينيات بدأت حركة الاتجاه الإسلامي تعرض قوتها، فراحت تدعو إلى تظاهرات طلابيّة في الثانويات والجامعات، ودخلت في جدال واسع مع السلطة التونسية خصوصا عندما أقرّت الحكومة التونسية ميثاق الأسرة والذي رأت فيه حركة الاتجاه الإسلامي خروجا صريحا عن الإسلام وتقليدا أعمى للمواثيق والدساتير الغربيّة.
في الثمانينات شهدت تونس مجموعة من التطورات الاجتماعية أفرزت ما يعرف بثورة الخبز في تونس، وكان الشارع التونسي عندها يغلي، وكانت الدوائر التونسية تخشى أن تستغل حركة الاتجاه الإسلامي هذا الوضع المزري وتخلط الأوراق خصوصا في ظلّ تتابع هواجس الثورة الإسلامية الإيرانية.
و كانت حركة الاتجاه الإسلامي تؤكد على حقها في الوجود ضمن الخارطة السياسية التونسية، وكانت تطالب فقط بتقويم الاعوجاج والتخلي عن سياسة التغريب و العملنة.
ولم يكن لحركة الاتجاه الإسلامي مشروع سياسي متكامل بل كانت تحرص على تفعيل المشروع الثقافي والاجتماعي بالدرجة الأولى، فبورقيبة كان حريصا على جعل تونس قطعة من الغرب، وكان يرفض حتى الانتماء العربي والإسلامي لتونس، وحتى جامع الزيتونة الذي لعب أكبر الأدوار في تاريخ تونس حولّه الحبيب بورقيبة إلى مجرّد متحف وأفرغه من دوره الحضاري. ولو أنّ بورقيبة انفتح إلى حدّ ما على القيم الإسلامية لما تمكنّت حركة الاتجاه الإسلامي من تهديد الوضع العام في يوم من الأيّام.
وما كان الحبيب بورقيبة الذي مارس سياسة الاستئصال مع حركة الاتجاه الإسلامي ليستمرّ في الحكم إذ أطاح به أقرب الناس إليه الجنرال زين العابدين بن علي أحد الضبّاط التونسيين الذين أنهوا تكوينهم العسكري في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولم يستوعب بعض المراقبين ما جرى في تونس، إذ أنّ الانقلاب الأبيض الذي أطاح بالحبيب بورقيبة تمّ بشكل سريع وكأنّه كان محضرّا له و قد فهم من هذا الانقلاب بأنّه انقلاب أمريكي على فرنسا في تونس، ولطالما كان الحبيب بورقيبة خريج جامعة السوربون صديقا حميما لفرنسا.
وقد اتسمّت بداية عهد زين العابدين بن علي في عام 1987 بالانفتاح على القوى السياسية والتأكيد على مبدأ الديموقراطية والتعددية السياسية، وبدورها حركة الاتجاه الإسلامي وتماشيّا مع المعطيات السياسية الجديدة غيرّت عنوانها لتحمل عنوانا جديدا هو حركة النهضة، لتؤكدّ أنّها لا تقوم على أساس ديني بل هي حزب كبقية الأحزاب التونسيّة. وفي المرحلة الأولى من حكم الرئيس زين العابدين بن علي شاركت حركة النهضة في الانتخابات البلديّة حيث فازت في بعض المناطق التونسيّة.
ويعتبر الرئيس زين العابدين بن علي من أكثر التونسيين معرفة بملّف التيارات الإسلامية في تونس حيث شغل منصب وزير الداخلية، وتولى العديد من المناصب الأمنيّة قبل إطاحته بالرئيس الحبيب بورقيبة.
وغداة استيلائه على السلطة أختار أن يكون خطابه السياسي منفتحا على الجميع، الأمر الذي دعا زعيم حركة النهضة إلى الترحيب بالعهد الجديد في تونس بزعامة زين العابدين بن علي.
لكنّ هذا الودّ المتبادل بين حركة النهضة والنظام الجديد بقيادة زين العابدين بن علي لم يستمر كثيرا، واللغم الذي فجرّ العلاقة بين الطرفين كان إعلان الجهات الرسمية في تونس عن اعتقالها لعناصر قياديّة من حركة النهضة والمتهمة بمحاولة اغتيال الرئيس زين العابدين بن علي بصواريخ ستنغر الأمريكية. وحسب رواية الجهات الرسمية فانّ مجموعة مسلحة قطنت في شقّة على مقربة من قصر قرطاج الرئاسي الذي يقطنه زين العابدين بن علي، وكانت تستعد لإطلاق صاروخ على القصر الرئاسي حيث ستنتهي المسألة باغتيال الرئيس التونسي، وبسبب هذا السيناريو الذي أوردته السلطة التونسية وكأنّه سيناريو فيلم أمريكي، راحت وزارة الداخليّة تعتقل مئات العناصر النهضوية، وفرّت قيادات النهضة إلى الخارج فيما توجّه راشد الغنوشي إلى الجزائر، وكانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في ذلك الوقت في أوج تألقها السياسي.
وعندما أصدرت المحكمة العليا التونسية حكما يقضي بإعدام راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، أوفدت الحكومة التونسية إلى الجزائر من يطالب برأس الغنوشي بشكل رسمي،
وقد كشفت مجلة البديل الجزائرية الناطقة بلسان الحركة من أجل الديموقراطية التي كان يترأسها الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة أنّ تونس أوفدت إلى الجزائر فرقة أمنية يطلق عليها اسم فرقة النمور السود وذلك لتنفيذ حكم الإعدام في حقّ راشد الغنوشي لكنّها لم تفلح في هذه المهمة.
وأضطّر الغنوشي عندها إلى مغادرة الجزائر وتوجّه إلى السودان، حيث منحته الخرطوم جواز سفر دبلوماسي كان يستخدمه الغنوشي في تنقلاته هنا وهناك إلى أن توجّه إلى العاصمة البريطانيّة لندن وهناك طلب اللجوء السياسي.
وكانت الحكومة التونسيّة تتهم الغنوشي بأنّه كان يتلقى أموالا من الحكومة الإيرانيّة, وأنّه يريد تنفيذ مشروع إسلامي في تونس مماثل للمشروع الإيراني.
وفي منفاه البريطاني يواصل راشد الغنوشي الإشراف على حركة النهضة التونسية بعد أن نجحت السلطة التونسية في استئصالها من الواقع السياسي التونسي، ولجأت من أجل تحقيق ذلك إلى أفظع الأساليب الأمنية باعتراف منظمات حقوقيّة دولية.
تونس : نبذة تاريخية
تعدّ تونس من أصغر بلدان المغرب العربي مساحة وهي عبارة عن جيب جغرافي بين الجزائر وليبيا، وتبلغ مساحة تونس 163610 كلم مربع، ومعظم أراضيها منخفضة يحدّها البحر الأبيض المتوسط من الشمال والشرق.
تمتاز تونس بسهولة الوصول إليها برا وبحرا ممّا جعلها عبر تاريخها عرضة لتأثيرات خارجية لعبت دورها في تكوين خصائص مجتمعها، ويبلغ عدد سكان تونس 07 ملايين نسمة يتكلمّون اللغة العربية وللغة الفرنسية انتشار واسع للغاية، والديانة السائدة في تونس هي الإسلام الذي هو دين الغالبية من السكان.
والعاصمة التونسية هي تونس وأهم المدن فيها هي سوسة وصفاقس وبنزرت والقيروان وهي العاصمة العربية القديمة.
يبدأ تاريخ تونس مع إقامة المستعمرات الفينيقية ونشوء إمبراطورية قرطاجة على شواطئها وقد أحرزت قرطاجة التفوّق البحري والتجاري في البحر الأبيض المتوسط في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، ومدّت مستعمراتها التجارية حتى جنوب البرتغال وحكمت قسما من جزيرة صقلية وبلغت الإمبراطورية أوجها في القرن الرابع قبل الميلاد إلى أن اصطدمت بالدولة الرومانية الصاعدة بسبب السيطرة على المتوسط واشتبكت الدولتان في الحروب البونيّة الثلاث التي برز في ثانيها غزو هنيبعل لايطاليا والتي انتهت بتدمير قرطاجة وإلحاقها بأمبراطورية روما.
ظلّت قرطاجة مهجورة طوال قرن ونصف إلى أن أعاد بناءها الأمبراطور أغسطس في بداية القرن الأول الميلادي، وخلال القرنين الأولين بعد الميلاد أصبحت مقاطعة إفريقيا -- وهو الاسم الذي أطلقه الرومان على تونس – مزدهرة جدا وغدت قرطاجة المدينة الثانية بعد روما .
وبعد انحسار الأمبراطورية الرومانية غزاها الوندال عام 439 وبقيت تحت سيطرتهم إلى أن أستعادتها الأمبراطورية البيزنطية بين عامي 533-534. وطوال القرنين والنصف التاليين شكلّت تونس جزءا من شمال إفريقيا البيزنطية التي امتاز حكامها المحليون بنزوع واضح للاستقلال عن القسطنطينية، كما أمروا باعتناق المذاهب المسيحية غير الأرثوذكسيّة وهو المذهب المسيحي الذي كانت عليه القسطنطينية.
وقد بدأ الفتح العربي الإسلامي لشمال إفريقيا في 647 وأستتبّ عام 698 مع فتح قرطاجة وتأسيس مدينة تونس، وانتشر الإسلام بسرعة بين سكان تونس وخاصة البربر منهم. غير أنّ النزعات الاستقلالية عن مركز الخلافة ظلّت تبرز من وقت لأخر طوال القرن الثامن في شكل مذاهب خارجية – نسبة إلى الخوارج -، وبدأت تونس تتمرّد على السلطة المركزية، وفي أواخر الحكم الأموي وبداية الحكم العبّاسي خرجت تونس من الخلافة الأموية، ولكنّ العباسيين استعادوها ثمّ أخرجوا منها في عام 767 ميلادية إلى أن أخضعوها مجددا في سنة 800 بقيادة إبراهيم بن أغلب والذي عينّه هارون الرشيد حاكما لإفريقيا أي مقاطعة إفريقيا الرومانية سابقا.
أمنّت دولة الأغالبة الاستقرار والازدهار لتونس وشرعت في غزو صقليّة في ايطاليا عام 827 وبنت مساجد كبرى في المدن وشبكة متقنة من السدود والخزّانات لتأمين المياه لعاصمتها القيروان، غير أنّ حكم الأغالبة بدأ بالانهيار في أواخر القرن التاسع رغم استكماله لغزو صقلية عام 878، وقد أطاحت به ثورة دينية اندلعت في المناطق الواقعة غربي تونس في مطلع القرن العاشر .
وقد خضعت تونس للحكم الفاطمي الشيعي حيث أقام الفاطميّون على الساحل التونسي عاصمتهم التي حملت اسم المهديّة، وقضى الفاطميّون على ثورة " خطرة " التي قام بها البربر بين عامي 943-947 وسيطروا على مصر وسوريا في 969- 970، وبعد ثلاث سنوات نقلوا عاصمتهم إلى مدينة القاهرة التي شيدوها وتركوا حكم تونس لأمراء البربر المعروفين باسم الزيريين حيث تمتعّت تونس في عهدهم بالازدهار والتقدم.
وأنتعشت في تونس الفنون والعلوم والتجارة والصناعة، وفي عام 1050 ميلادي أعلن الزيريون عن ولائهم للخليفة في بغداد، فردّ الفاطميون على ذلك بإرسال مئات الألوف من البدو العرب الهلاليين الذين قضوا على سلطة الزيريين فيها ومزقّوا وحدة تونس السياسية.
وفي عام 1087 إحتلت قوات إيطالية من مدينتي بيزا وجنوا في ايطاليا العاصمة المهديّة، ثمّ أحتلها النورمانديون في سنة 1148 و طردوا الزيريين منها. و في سنة 1160 أصبحت تونس جزءا من دولة الموحدين في مراكش، ومن تمّ استعادها العباسيون لفترة وجيزة في مطلع القرن الثالث عشر ونصبّوا لإمرتها الحفصيين وهم من أسرة البربر والذين ظلّوا أهمّ قوة فيها إلى بداية السيطرة العثمانية.
وطوال معظم القرن 13 سيطر الحفصيون على شمال إفريقيا من طرابلس إلى وسط الجزائر, وأقاموا علاقات تجارية ودبلوماسية مع دول الساحل الشمالي للمتوسط ومدنه.
وقد اصطدم الحفصيون بمحاولات الدول الأوروبيّة للتوسع وقاموا بعمليات هجومية ضد مالطا إلى أن تورطوا في النزاع بين الملكة الإسبانية والسلطنة العثمانية، هذا النزاع الذي كان حاسما في مستقبل تونس.
الحكم العثماني في تونس :
بدأ الحكم العثماني في تونس في 1516 وأستتبّ في 1574 أقام فيها العثمانيون إدارة إقليمية دامت 17 سنة، إلى أن قامت ثورة عسكرية في عام 1591 حدّت من سلطة الباشا العثماني ونقلت السلطة الفعلية إلى الداي وهو لقب كان يحمله حوالي أربعين ضابطا كبيرا في الجيش العثماني، وفي سنة 1600 أصبحت السلطة في تونس حكرا على الدايات الذين أقاموا علاقات ديبلوماسية مع فرنسا دون علم السلطة العثمانية.
كان وضع تونس في النصف الأول من القرن 17 مزدهرا حيث انتعشت التجارة والمبادلات الاقتصادية مع مارسيليا وليفورنو وأقيمت علاقات تجارية مع أنجلترا وهولندا، وبعد عام 1650 انحسرت سلطة الدايات وحلّ محلهم البايات الذين كانوا أدنى منهم رتبة في الأصل، وقد أسسّ الباي حمودة في عام 1659 سلطة المراديين و أستمرت هذه السلطة تحكم تونس كلها إلى عام 1702 وبعد عام 1705 حكمت تونس سلالة جديدة من البايات عرفت البلاد عندها استقرارا نسبيّا رغم توتر العلاقات مع الجزائر وبداية ظهور الأساطيل الأوروبية في البحر الأبيض المتوسط.
وبعد الحروب النابوليونية أحسّت تونس بوطأة أوروبا الاستعمارية عليها بشكل حاسم،
ففي مؤتمري فيينا وأيكن 1815 – 1817 فرضت الدول الأوروبية على الباي محمود وضع حدّ لنشاطات القراصنة الذين كانوا يؤمنّون لتونس قسطا من مداخيل الدولة، وفي عام 1830 احتلّ الفرنسيون الجزائر، وقد شهدت الخمسون سنة التالية بعد هذا التاريخ محاولات تونسية لتجنّب نفسها المصير نفسه. وفي سنة 1881 حسمت فرنسا موضوع احتلالها لتونس بحجة وقوع حوادث على الحدود مع الجزائر وفرضت معاهدة قصر سعيد والتي صار الباي التونسي بموجبها حاكما اسميا لتونس.
وفي عام 1883 أجبر الباي علي الرابع على التوقيع على اتفاقية مرسى التي كرسّت الحماية الفرنسية لتونس، ونقلت السلطة إلى المقيم العام الفرنسي، وقد شجعّ الفرنسيون مجيئ مستوطنين أوروبين إلى تونس حيث منحتهم السلطات الاستعمارية في تونس الأراضي الخصبة بعد أن سرقتها وأغتصبتها من الفلاحين التونسيين الذين لم يكونوا يملكون غيرها لإعالة أنفسهم ووسط هذا المناخ الاستعماري الغاشم بدأت الحركة الوطنية التونسية تتشكّل وتتأسس مستلهمة الموروث الحضاري لتونس، وسوف تلعب بعد حين أكبر الأدوار في تاريخ تونس المعاصرة.
في شهر أيّار – مايو 1881 احتلّت الجيوش الفرنسية تونس ودخلتها عن طريق البر والبحر وقد أحتلّ الفرنسيون مدينة بنزرت وتوجهوا إلى تونس العاصمة لمقابلة الباي وقدموا له نسختين من معاهدة فرنسية معدّة سلفا، وقد أرغم الباي على التوقيع على المعاهدة الفرنسية التي عرفت باسم معاهدة باردو والتي أخضعت تونس رسميا للسيطرة الفرنسية.
ونصّت هذه المعاهدة على أنّ الاحتلال مؤقت وأنّ القوات الفرنسية سوف تحتل فقط جهات على الحدود والشواطئ تراها لازمة لتوطيد الأمن، وأنّ هذه القوات سترحل عندما تكون الإدارة التونسية قادرة على حفظ الاستقرار والأمن والنظام وأنّ فرنسا ملتزمة حماية الباي وأسرته وأنّه لا يحق له بأن يعقد أي عقد مع أي أجنبي بغير علم فرنسا والتفاهم معها مسبقا، وأنّه سينوب عن فرنسا وزير فرنسي مقيم يراقب تنفيذ ما تضمنته المعاهدة، وأنّ على حكومة الباي أن تتعهدّ بمنع إدخال الأسلحة إلى البلاد.
وفي فترة احتلالها لتونس سيطرت فرنسا على التعليم فأخضعته لنظم فرنسيّة حتى أصبح الطالب التونسي يتقن اللغة الفرنسية ويفقه أسرارها ويتذوق أدبها، ونفس المشروع التغريبي الذي نفذته فرنسا في الجزائر قامت باستنساخه في تونس، حيث قضت على المعاهد الأصلية التي كانت تخرّج علماء اللغة والشريعة وأبقت على الجزء اليسير منها، وفي محاولة لإخضاع تونس للثقافة الفرانكفونية الاستعمارية قامت فرنسا بمحاربة كل مظاهر التديّن لدى الشعب التونسي وعملت على القضاء على اللغة العربيّة وشيدّت مدارس ومعاهد فرنسية. وباعتبار أنّ مساحة تونس صغيرة جدا إذا ما قورنت بمساحة الجزائر أو المغرب فقد تمكنّت السلطات الفرنسية من بسط نفوذها بسرعة على كل الأراضي التونسية وهو ما شكلّ خرقا صريحا للمعاهدة الفرنسية التي أجبر الباي على توقيعها.
وتجدر الإشارة إلى أن يهود تونس لعبوا دورا كبيرا في التمكين للغازي الفرنسي، حيث كان اليهود التونسيون والذين يكثر وجودهم في معظم المناطق التونسية وتحديدا في منطقة جزيرة جربة حيث مقام الغريبة اليهودية التي يحج إليها اليهود سنويا وبعشرات الآلاف، وقد كافأتهم السلطات التونسية بمنحهم الجنسيّة الفرنسية.
وقد نجحت السلطة الاستعمارية الفرنسية في تكريس مشروعها الثقافي كما السياسي في تونس، ومازالت الآثار الثقافية الفرنسية قائمة إلى يومنا هذا، وبالإضافة إلى هذا فقد نجحت السلطات الفرنسية في شقّ الحركة الوطنية التونسية التي كان فيها جناحان، جناح يؤمن بالثورة على الطريقة الجزائرية لدحر المستعمر الفرنسي، وجناح لا يعترض على الوجود الاستعماري الفرنسي لكن يطالب بإصلاحات سياسية وتكريس حقوق الإنسان التونسي.
والحبيب بورقيبة الذي كان على رأس الحركة الوطنية التونسية تخرجّ من جامعة السوربون في فرنسا، ومعروف أن فرنسا كانت حريصة على تعليم بعض الشخصيات التونسية اللامعة في جامعاتها تمهيدا لاستيعابها ومن تمّ توظيفها، كما حدث مع العديد من الزعماء المغاربة والأفارقة الذين درسوا في المعاهد الفرنسية وعادوا رؤساء إلى بلادهم.
وبالتوازي مع بسط مشروعها الثقافي عملت السلطات الفرنسية على إقامة سيّاج أمني على امتداد الحدود الجزائرية –التونسية، وكان هذا الخط الفاصل بين الجزائر وتونس مكهربا ويحمل اسم خط موريس، وهذا الخط الحديدي المكهرب لم يحل دون تهريب الأسلحة إلى الثورة الجزائرية.
ومع مرور الوقت تأكدّ للسلطات الفرنسية أنّها لا يمكن أن تتفرغّ للثورة الجزائرية دون أن ترفع يدها عن تونس والمغرب، فجاء الاستقلال التونسي على شكل صفقة سياسية بين أطراف في الحركة الوطنية التونسية وعلى رأسها الحبيب بورقيبة و السلطات الاستعمارية الفرنسية.
الحركة الوطنية التونسيّة في عهد الاستعمار الفرنسي :
تفجرّت المقاومة الشعبية في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي، وتنادى الناس إلى الجهاد ودارت معارك المقاومة الشعبية ضدّ عدوين اثنين في أن واحد، ضدّ الباي وجنوده وضدّ المحتل الفرنسي، وفي كل مكان من البلاد هبّ الشعب التونسي يدافع ويقاوم وبرز زعماء شعبيون في كل منطقة، ولم يؤد استسلام الباي التونسي الكامل للسلطات الفرنسية إلى تركيع الشعب التونسي الذي تبنىّ النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي.
وبرز اتجاهان في الحركة الوطنيّة، الاتجاه الأول كان يدعو إلى المفاوضات والتصالح مع الاستعمار الفرنسي، وكان على رأس هذا الاتجاه المثقفون التونسيون الذين غلبت عليهم الثقافة الفرانكفونية، وكانت كل مطالبهم محصورة في تحسين حالة التونسيين ورفع الضيم عنهم وإلغاء الفوارق بينهم وبين الفرنسيين، ومثلّ هذا الاتجاه الحزب الدستوري الجديد.
و أول من بادر إلى مقاومة السلطات الفرنسية في تونس هو الشيخ محمد السنوسي الذي قاد الحركة الوطنية وشكلّ وفودا شعبية ذهبت تطالب الباي بوقف الفرنسيين عند حدهّم,
فما كان من السلطات الفرنسية إلاّ أن نفت الشيخ محمد السنوسي خارج تونس، وتولىّ قيادة الحركة الوطنية بعده الشيخ المكي بن عزوز أحد شيوخ جامع الزيتونة الثوريين، وكونّ مجموعة من الشباب التونسيين الثوريين وعبأّهم ضدّ القوات الاستعمارية الفرنسية، وتمّ نفي الشيخ مكي بن عزوز خارج تونس حيث أدركته المنيّة في المشرق العربي.
وقد حمل أفكاره الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي كان الى جانبه الشيخ علي كاهية والشيخ زروق والهادي السبعي.
ولم تنتظم الحركة الوطنيّة في تنظيم ذي محتوى سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي إلاّ بعد تجارب مريرة في خضمّ النضال الوطني ضدّ الاستعمار الفرنسي. وفي سنة 1907 تأسسّت أول حركة وطنية سياسية ومنظمة بقيادة علي باش حانبه والشيخ عبد العزيز الثعالبي، وكان عنوان هذه المنظمة هو تونس الفتاة حيث تأثرّ مؤسسوها بحزب تركيا الفتاة التركي الذي كان وراء العديد من المتغيرات التي حصلت في تركيا في بداية القرن العشرين. وفي سنة 1911 وعندما غزت ايطاليا ليبيا، تحركت منظمة تونس الفتاة من منطلق دعم النضال الليبي، وأخذت تمدّ المجاهدين الليبيين بالأموال والمتطوعين، والى جانب هذا أصدرت الحركة الوطنيّة جريدة تحمل اسم : الاتحاد الإسلامي وأسندت رئاسة تحريرها إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي. والى جانب مشاركة القبائل التونسيّة في الجهاد وحمل السلاح ضدّ الفرنسيين، فقد اندلعت معارك طاحنة بين التونسيين والإيطاليين، وكانت أخر معركة بين الطرفين عرفت باسم معركة الجلاّز، وتحركت السلطات الفرنسية عندما رأت أن زمام الأمور ستفلت من يدها بعد المعارك التي نشبت عقب معركة الجلاّز، فصبّت فرنسا جام غضبها على الحركة الوطنية التي حملتها فرنسا مسؤولية الانتفاضات وتمّ اعتقال الشيخ علي باش حانبه و عبد العزيز الثعالبي والشاذلي درغوت ومحمد العروي ومحمد نعمان والمختار كاهية وقد هاجر علي باش حانبه إلى تركيا فيما هاجر عبد العزيز الثعالبي إلى الجزائر ومنها إلى مصر.
وكانت السلطات الفرنسية تتوقع أن تنتهي المقاومة الشعبية بعد نفي زعماء الحركة الوطنية الى الخارج، إلا أنّ ثورة مسلحة اندلعت سنة 1915 واستمرّت الى سنة 1918 بقيادة الحاج سعيد بن عبد اللطيف، وفي عام 1919 وأثناء انعقاد مؤتمر الصلح بباريس اتصلّ الشيخ عبد العزيز الثعالبي بالمؤتمر وقدمّ إليه مذكرة تتعلق باستقلال تونس وطالب بتطبيق مبادئ ويلسون الأربعة عشر ونشر في باريس كتابا بعنوان : تونس الشهيدة، فضح فيه دسائس الاستعمار الفرنسي وجرائمه في حق شعب تونس، وقد تلقفّ المثقفون في المغرب العربي هذا الكتاب، وبسبب هذا الكتاب ألقت فرنسا القبض على عبد العزيز الثعالبي وأرجعته إلى تونس وألقته في أحد سجونها، والثعالبي الذي ساهم إلى أبعد الحدود في النهوض بالوعي السياسي للتونسيين لم يذهب جهده سدى، إذ أنّ الشعب التونسي لجأ إلى التظاهرات والإضرابات وطالب بضرورة إخلاء سبيل الشيخ عبد العزيز الثعالبي وأجبر فرنسا على ضرورة إطلاق سراحه، وبعد خروجه من السجن تمّ تعيينه رئيسا للحزب الحر الدستوري التونسي، كما جرى تعيين المحامي أحمد الصافي أمينا عاما للحزب. وشرع هذا الحزب في فتح الفروع والمكاتب في مختلف البلاد التونسية ووضع برنامجا ثقافيا وفكريا يقضي بغرس الوطنية في نفوس التونسيين تمهيدا لإشراكهم في الكفاح المسلح ضدّ الاستعمار الفرنسي.
وقد قام الحزب الدستوري التونسي سنة 1920 على مبادئ تطالب بنظام دستوري لتونس وتأليف حكومة وطنية مسؤولة أمام الشعب باعتبار أنّ تونس أول بلد عربي أعلن دستورا في سنة 1865 يمنح نواب الشعب حق المشاركة في الحكم وحتى حق خلع الباي.
من هو عبد العزيز الثعالبي :
يعتبر عبد العزيز الثعالبي أحد روّاد الإصلاح في تونس ويشبه إلى حدّ كبير في تفكيره رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الحميد بن باديس، فالثعالبي كان يرى أنّ مصدر التشريع في البلاد العربية والإسلامية يجب أن يكون الثقافة الإسلامية، ورغم كونه أحد أعلام جامع الزيتونة إلاّ أنّه كان ضالعا في القضايا السياسيّة ولم يكن يرى فرقا بين الدين والسياسة، وكان يرى أنّ الدين جاء لإصلاح شؤون الناس وإدارة حياتهم، ولم يكن الثعالبي مجرد زعيم سياسي بل كان مصلحا اجتماعيّا ودينيّا، وكان متأثرا بفكر محمد عبده و رشيد رضا وقد تسنىّ له الإطلاع على فكرهما عندما أقام في مصر غداة نفيه من قبل السلطات الفرنسية من تونس.
وتمكن من ملامسة الهمّ العربي والإسلامي من خلال تنقله بين مصر وبغداد وفلسطين، وقد أكسبه هذا التجوال المزيد من التجارب خصوصا فيما يتعلق بزعماء الإصلاح وروّاد التنوير في المشرق العربي.
وقد أثار الجمود الذي أصاب الحزب الدستوري التونسي بعد نفي زعيمه الثعالبي نفرا من الشبّان التونسيين المنضوين تحت لواء الحزب الدستوري فقاموا بتأسيس جريدة صوت التونسي في سنة 1928 وتولى إدارتها الشاذلي خير الله، وفي سنة 1929 أصبحت هذه الجريدة تحمل اسم العمل التونسي وكلتاهما كانتا تصدران باللغة الفرنسية، لأنّ الصحف العربية كانت ممنوعة.
وفي سنة 1932 عقد الحزب الحر الدستوري التونسي مؤتمرا استثنائيّا وأنتخب أسرة تحرير العمل التونسي في اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري وهم الدكتور محمود الماطري، والمحامي الطاهر صفر والمحامي البحري قيقة والمحامي محمد بورقيبة و شقيقه الأصغر الحبيب بورقيبة.
ويتجلى من خلال التطورات التي حصلت داخل الحزب الدستوري التونسي أنّ قيادته الأولى كانت من علماء الدين وخريجي جامع الزيتونة العريق في تونس، وكان الرعيل الأول مشبعا بالثقافة الإسلامية والعربية، وبعد نفي الشيخ الثعالبي تولى قيادة هذا الحزب مجموعة من الشباب التونسي المتأثر بالثقافة الفرانكفونية وكثير من شخصيات الرعيل الثاني أتمّت تعليمها في الجامعات والمعاهد الفرنسية.
ويمكن القول أنّ النضال التونسي الذي بدأه علماء جامع الزيتونة قد صودر بوصول نخبة مثقفة بالثقافة الفرنسية وعلمانية إلى مواقع التأثير في أهم حزب في تونس.
وإذا كان عبد العزيز الثعالبي قد بنى الحزب الدستوري التونسي على أسس فكرية تمتد جذورها الى الفكر السلفي الإصلاحي الذي بلوره جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وربط الحركة النضالية التونسية بحركات التحرر في المغرب والمشرق العربيين. فان الذين جاؤوا بعده لم يكونوا على منواله.
وفي الضفة الأخرى يقف الشباب الذين أنشقوا في وقت لاحق عن الحزب الدستوري الأم وأسسوا الحزب الدستوري الجديد وكانوا قد درسوا في أوروبا وتربّوا على الفكر التنظيمي الغربي، والخلاف بين الثقافتين أدّى إلى اختلاف في منهج العمل وأسلوب التحرك السياسي.وقد تمكنّ التيار السياسي الجديد وهو الحزب الدستوري الجديد من فرض نفسه في الساحة السياسية التونسية، ودعا هذا الحزب إلى سلسلة من الإضرابات والتظاهرات ثمّ دعا إلى العصيان المدني وبسبب هذا العصيان وقعت صدامات دموية بين المواطنين التونسيين والجيش الفرنسي.
وفي عام 1954 عرضت حكومة منديس فرانس الفرنسية على التونسيين مشروع منح تونس الحكم الذاتي مع احتفاظ فرنسا بمسؤوليّة الدفاع والشؤون الخارجية، ولقيت هذه المقترحات القبول من جانب الحبيب بورقيبة، وبموجبه تشكلّت حكومة فرنسية برئاسة طاهر بن عمّار وضمّت هذه الحكومة عناصر معتدلة و ثلاثة أعضاء من الحزب الدستوري الجديد، وبدأت المفاوضات مع الفرنسيين لتسفر عن اتفاق نهائي في 02 حزيران – جوان سنة 1955.
وكانت بعض الشخصيات الوطنية تعتبر هذا الحكم الذاتي استمرارا للاستعمار وتنازلا صريحا عن تونس ومنحها على طبق من ذهب للفرنسيين. وقد تزعمّ معارضة ها الاتفاق صالح بن يوسف الذي تمكنّ من تحريك مئات التونسيين الذين دخلوا في مواجهات مع الجيش الفرنسي والقوات الحكومية التونسية والتي ألقت القبض على كل مؤيدي صالح بن يوسف الذي تمكنّ من الفرار إلى طرابلس.
وفي تلك الظروف التي كانت تشبه ظروف الحرب الأهلية توجهّ وفد تونسي برئاسة الحبيب بورقيبة إلى باريس لإجراء مفاوضات جديدة مع الفرنسيين، وفي 20 آذار – مارس 1956 وقعّ الطرفان بروتوكولا أقرّت فيه فرنسا رسميا باستقلال تونس وحقها في تولّي الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الداخلي وتشكيل جيش وطني وتضمنّ الاتفاق أن القوات الفرنسية تبقى في فرنسا في فترة انتقالية تنسحب بعدها من تونس.
وقد أدّت الانتخابات العامة التي وقعت في تونس بعد الاتفاق مع فرنسا إلى فوز الحزب الدستوري الحاكم، وأصبح الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة التونسية، وأصبح الحزب الدستوري بقيادة بورقيبة حزبا حاكما، وتمّ إبعاد كل أنصار صالح بن يوسف أو اليوسفيين من الحكم وخصوصا بعد ن قاطعوا الإنتخابات العامة.
التطورات السياسية في تونس :
في 01 حزيران – جوان 1959 تمّ وضع دستور جديد في تونس كرسّ بشكل مطلق النظام الرئاسي حيث بات الرئيس الحبيب بورقيبة يتمتع بصلاحيات واسعة بدون منازع، ونصّ الدستور الجديد على انتخاب الرئيس كل خمس سنوات مع إمكانية انتخابه ثلاث مرات متتالية، ونصّ الدستور التونسي الأول الذي وضع في حزيران –جوان في سنة 1959 على أنّ الرئيس التونسي له كل الصلاحيات في رسم سياسة الدولة الداخليّة والخارجية واختيار أعضاء الحكومة وتولّي القيادة العليا للجيش والقيام بالتعيينات لجميع المراكز المدنيّة والعسكرية، كما نصّ الدستور على انتخاب جمعية وطنية – برلمان – مرة كل خمس سنوات.
وفي 08 تشرين الثاني –نوفمبر 1959 أعيد انتخاب الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة بدون منافسة وفي هذه الأثناء شهدت العلاقات التونسية –الفرنسية تحسنا كبيرا، ووقعّ البلدان على إتقاقيّات في مجال التجارة والتعرفة الجمركيّة. وفي سنة 1961 قام الحبيب بورقيبة بزيارة إلى العاصمة الفرنسية باريس، والتقى آنذاك بالرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول. وبعد استقلال الجزائر في 05 تموز 1962 تدهورت العلاقات الجزائرية –التونسية بسبب خلاف الإيديولوجيات، حيث كان الحبيب بورقيبة مغرقا في إعجابه بالعلمانية الغربية، فيما كان أحمد بن بلة الرئيس الجزائري يميل إلى الخط الناصري الثوري، وكان أحمد بن بلة دائم الخلاف مع الحبيب بورقيبة، وكان بن بلة يعتقد أن بورقيبة لطالما تحركّ ضدّ الثورة الجزائرية، وكانت الجزائر في ذلك الوقت تدعم صالح بن يوسف أحد أبرز خصوم الحبيب بورقيبة. وفي كانون الثاني – يناير 1963 استدعت تونس سفيرها في الجزائر بحجة تواطؤ الجزائر مع عناصر عسكرية تابعة لبن يوسف حاولت اغتيال الحبيب بورقيبة في تونس.
وفي أيّار – مايو 1968 وبعد اتهام بورقيبة بمعارضة الكفاح الفلسطيني من أجل فلسطين طلبت تونس من القائم بأعمال سوريا في تونس مغادرة تونس بعد أن أتهمته بتحريض المواطنين التونسيين للقيام بأعمال تخريبية ضد الحكومة التونسية.
وفي أيلول – سبتمبر سنة 1968 رفضت الجامعة العربية الاستماع لوجهة نظر تونس التي تضمنّت انتقاد المواقف العربية والمصرية تجاه فلسطين، وردّت تونس بإعلان مقاطعتها لاجتماعات الجامعة العربية، وأكدّت في الوقت نفسه تأييدها لحركة المقاومة الفلسطينية.
وعادت العلاقات الجزائرية – التونسية إلى التدهور مجددا بسبب موقف تونس من الصراع العربي – الإسرائيلي. وقد منحت تونس بسبب هذه السياسة الجزائرية المناوئة لها حق اللجوء السياسي للعقيد الطاهر الزبيري رئيس هيئة الأركان في الجيش الجزائري والذي قاد محاولة انقلاب ضدّ حكم الرئيس هواري بومدين الذي كان قد أطاح بدوره بنظام أحمد بن بلة في حزيران –جوان 1965.
ويتضح من خلال ما ذكر أنّ علاقات تونس بمحيطها العربي كانت مضطربة بسبب تسرّع الحبيب بورقيبة في الميل نحو رغبات المعسكر الغربي الذي كان يكّن له كل الإعجاب.
وعلى صعيد داخل تونس فانّ الحبيب بورقيبة لم يكرّس مبدأ التداول على السلطة ، ولم يفسح المجال للأحزاب السياسية التونسية بالعمل السياسي وعمل على تدجين الصحافة، كما كان يلاحق كل من كان يشمّ فيه رائحة عدم الولاء. فأحمد بن صالح وزير المالية والتخطيط والذي كان أحد أبرز أعضاء الحزب الدستوري، وأحد المرشحين لخلافة الحبيب بورقيبة نقل سنة 1969 إلى وزارة التربية ثمّ جرّد من كل مناصبه، وبعدها تمّ اعتقاله وحوكم بتهم متعددة، وفي 10 أيّار – مايو 1970 حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات مع الأشغال الشاقة، غير أنّه فرّ من السجن في سنة 1973 ولجأ إلى أوروبا وقاد هناك المعارضة ضدّ نظام الحبيب بورقيبة.
وقد كان أحمد بن صالح الأول بين عدة وزراء أقيلوا بصورة مفاجئة، ففي سنة 1969 أقيل الباهي الأدغم من رئاسة الحكومة بعد أن رشحته التوقعات لخلافة بورقيبة وخصوصا بعد أن تولّى الحكم الفعلي لمدة ست أشهر أثناء غياب بورقيبة لأسباب صحية، إلى جانب رئاسة الباهي الأدغم للجنة اتفاقية القاهرة المعقودة بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية والتي أكسبته شهرة واسعة في الوطن العربي .
وفي تشرين الأول –أكتوبر سنة 1970 عينّ الهادي نويرة رئيسا للحكومة، وأعلن الرئيس بورقيبة أنّ الهادي نويرة سيكون خليفته في الحكم، وكان باهي الأدغم قد استقال من جميع مناصبه السياسية وتبعه أحمد المستيري الذي كان وزيرا للداخلية بين 1970 –1971.
وفي أيلول – سبتمبر 1974 انتخب المؤتمر التاسع للحزب الدستوري الحبيب بورقيبة رئيسا للحزب مدى الحياة، وعين الهادي نويرة كأمين عام للحزب، وعينّ الحبيب بورقيبة مكتبا سياسيا من عشرين عضوا.
وفي تشرين الثاني – نوفمبر 1974 أعيد انتخاب الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة التونسية بدون منافس، وبعد ذلك بسنة واحدة أقرت إصلاحات دستورية واسعة عززّت ديكتاتورية الحبيب بورقيبة.
أماّ المعارضة التونسية فقد عاشت أسوأ أيّامها في هذه المرحلة من تاريخ تونس، ففي 1974 صدرت أحكام بالسجن ضد 175 شخصا أغلبهم طلاّب بعثيون وماركسيون وإسلاميون لإنتمائهم إلى فصائل سياسية غير معترف بها.
و في مطلع كانون الأول –ديسمبر 1975 وقع إضراب عام في الجامعة التونسية ووقعت أثناءها اشتباكات عنيفة بين قوات الأمن والطلاب التونسيين، وتجددّت الاشتباكات العنيفة بين قوات الأمن والطلاب سنة 1977، وقادت النقابات العمالية المعارضة ضدّ نظام الحبيب بورقيبة، وشهدت سنة 1976 إضرابات مالية مكثفة في تونس، وبين 1977 – 1978 تمّ اعتقال 28 شخصا بتهمة الانتماء إلى حركة الوحدة الشعبية المرتبطة بأحمد بن صالح.
و في سنة 1977 انتعشت المعارضة الليبيرالية التي تعتبر أحمد المستيري أبرز أعضائها وفي نفس السنة وفي شهر نيسان – أبريل شكلّ الليبيراليون لجنة الدفاع عن حقوق الانسان.
و أبرز حدث داخلي شهدته تونس منذ استقلالها كان الانفجار السياسي الذي شاركت فيه النقابات العمالية حول قضايا سياسية واجتماعية متعددة، وقد بلغ هذا الانفجار ذروته يوم الخميس الأسود في 26 كانون الثاني – يناير 1978 حينما خرج الجيش التونسي من ثكناته الى الشوارع وأدت المواجهات بينه وبين المتظاهرين الى مقتل العشرات.
وتمّ اعتقال قادة الحركة النقابية ومحاكمتهم وعلى رأسهم الحبيب عاشور، وقد سبقت هذه المواجهات والإضرابات سلسلة استقالات في صفوف الوزراء والذين عبروا عن تفسخ النظام من الداخل.
وفي 12 كانون الثاني – يناير 1974 وقع تطور مفاجئ في تونس كاد يغيّر الأوضاع السياسية رأسا على عقب، وتمثلّ هذا التطور أنّه في أعقاب اجتماع بين الحبيب بورقيبة والعقيد الليبي معمّر القذافي رئيس ليبيا أعلن عن وحدة سياسية بين تونس وليبيا، على أن يكون بورقيبة رئيسا للدولة الموحدة و القذافي نائبا له.
ولم يبصر هذا المشروع النور بسبب معارضة بورقيبة الدائم له، والواقع أنّ الذي كان متحمسا للمشروع هو وزير خارجية تونس محمد المصمودي الذي عمل منذ تعيينه على رأس الخارجية التونسية سنة 1970 على ترميم العلاقات العربية – التونسية، وقد نجح في مهمته إلى أبعد الحدود، وتمكن بحنكته من بعث الروح في العلاقات التونسية مع كل من مصر وسوريا ودول المحور الاشتراكي في ذلك الوقت.
الصراع بين الأصالة والتغريب في تونس :
لجأت النخبة الحاكمة في تونس بعد الاستقلال الى تطبيق الأنماط الغربية في تسيير شؤون الدولة والمجتمع، وكان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة يتفاخر بالعلمانية الغربية التي كان يطبقّها في تونس، وكان بورقيبة يتمنى لو كان موقع تونس الجغرافي على مقربة من الدول الإسكندينافية.
وفي حديثه لصحيفة الأمان اللبنانية قال زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي أنّ الحركة الإسلامية في تونس واجهت المصاب الجلل بآلاف المساجين والتعذيب الرهيب والذي أفضى إلى استشهاد العشرات من الأخوة وتجويع العائلات ومنع كل عون عنهم من أجل إضعاف صمود المساجين ودفع الزوجة إلى طلب الطلاق وما إلى ذلك من الأساليب الهمجية ( 1 ) .
فالحبيب بورقيبة الذي كان مشبعا بالثقافة الفرنسية و أحد أبرز المعجبين بالطرح العلماني حاول بناء دولة تونسية علمانية على غرار ما فعله مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، ولجأ في بداية حكمه إلى تجميد دور جامع الزيتونة الذي لعب أكبر الأدوار في تاريخ تونس المعاصر وأحتضن روّاد حركات التحرير من كل دول المغرب العربي، حيث كان دعاة الثورة على فرنسا من أقطار المغرب العربي يزاولون تعليمهم في جامع الزيتونة.
و لم يقم بورقيبة بأي خطوة في سبيل استرجاع الاستقلال الثقافي بل ظلّت تونس خاضعة ثقافيّا للغرب، والأكثر من ذلك فقد أقصى الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة كل المحسوبين على التيار الوطني والعروبي ووضع الكثير منهم في المعتقلات ( 2 ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حوار أجرته صحيفة الأمان البيروتية مع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في العدد 229 بتاريخ 01 تشرين الثاني – نوفمبر 1991.
(2) راجع كتاب يحدث في تونس للصحفي قصي صالح الدرويش.
و كان الحبيب بورقيبة يوصف بأنّه الصديق الحميم لفرنسا ووطدّ علاقات تونس بالمحور الغربي وهو ما جلب له السخط من قبل بعض جيرانه ومن قبل العديد من الدول العربية.
ولم يكتف الرئيس الحبيب بورقيبة بتكريس العلمانية بشكلها الغربي والمتوحش بل ألغى كل قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية، كقانون تعدد الزوجات والإرث والطلاق وحتى فريضة الصوم أراد إلغاءها بحجّة أنّ الصوم يضعف الإنتاج.
وفي عهد الحبيب بورقيبة ازدهر دور الجاليّة اليهودية في تونس وخصوصا بعد أن أصبح بعض اليهود التونسيين وزراء في أول حكومة تونسية ومنهم ألبير بسيسي وتجدر الإشارة إلى أن أندري باروش مؤسس الحزب الشيوعي التونسي هو من اليهود التونسيين.
وهذا الاتجاه السياسي الذي تبنّاه الحبيب بورقيبة ساهم إلى أبعد الحدود في انبلاج التيار الإسلامي الذي حمل على عاتقه لواء المحافظة على الهويّة المصادرة و القيّم الضائعة وقاوم بكل ما أوتيّ من إمكانات الغزو الفكري والمسخ الثقافي لتونس.
وفي سنة 1970 وفي جامع سيدي يوسف بالعاصمة التونسية التقى راشد الغنوشي وعبد الفتّاح مورو لتقديم مفاهيم عن البديل الإسلامي في مواجهة البديل التغريبي (1).
ويذهب بعض الباحثين ومنهم الدكتور إبراهيم حيدر علي إلى القول بأنّ التغريب في تونس ليس وليد البورقيبية، بل أنّ احتكاك تونس بالحضارة الغربية تمّ في مرحلة متقدمة من العهد البورقيبي، وتعتبر تونس ومصر من أقدم الدول العربية في احتكاكها بالحضارة الغربية ومحاولة تبنيّ عناصرها العملية والمفيدة فيما يخص المؤسسات والوسائل المادية (2).
والصراع بين القديم والجديد، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الأسلمة والتغريب ظاهرة
لا تقتصر على تونس وحدها بل هي ظاهرة عمّت البلاد العربية والإسلامية نظرا للغزو الاستعماري الغربي لهذه البلدان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر كتاب الإسلام الاحتجاجي في تونس لمحمد عبد الباقي الهرماسي.
(2) أنظر كتاب التيارات الإسلامية وقضية الديموقراطية لإبراهيم حيدر علي.
تعليق