إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

جدلية المعرفي والسياسي في الفكر الإسلامي: مقاربة سياسية في علم الكلام

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • جدلية المعرفي والسياسي في الفكر الإسلامي: مقاربة سياسية في علم الكلام

    جدلية المعرفي والسياسي في الفكر الإسلامي: مقاربة سياسية في علم الكلام
    27-12-2006 12:00 am

    د. العربي إدناصر*

    " تعد قضية التراث إحدى خمس قضايا كبرى طرحت على النخبة المثقفة في العصر الحديث، فلم يكن هناك بُدٌّ من تناولها معا مع القضايا الأخرى: الدولة، الآخر، الوحي، اللغة1".

    ولعل هذا ما يفسر كثرة الإنتاجات الفكرية حول هذه القضية، فقد كتب في ذلك الدكتور محمد عابد الجابري مشروعه الكبير: نقد العقل العربي" بأجزائه الأربعة (التكوين، البنية، العقل السياسي، العقل الأخلاقي)، بالإضافة إلى دراسته الموسومة:" نحن والتراث"، وتوالت على مشروعه ردود عدة وبمناهج مختلفة، فكتب جورج طرابشي " نقد نقد العقل العربي" و"مذبحة التراث"وتبعه علي حرب في " نقد النص" وبعد ذلك ألف طه عبد الرحمن " تجديد المنهج في تقويم التراث. وهذه الكتابات من جهة هي عبارة عن ردود ولكنها من جهة أخرى هي طروحات جديدة ووجهات نظر أخرى في التناول، إلا أنها تلتقي جميعا في نقد المعرفة الدينية التي باتت في حاجة ماسة إلى تفسير و إعادة تقويم وخصوصا فيما علق بها من مخلفات اجتماعية و تاريخية لم يعد مسوغ للإبقاء عليها أو الاستمداد منها في حل القضايا والإشكاليات التي يعج بها المجتمع، ومن هذه الرؤية تنبع أهمية بحث إشكالية التداخل ما بين المعرفة والسياسة في الإسلام، ذلك أن نشأة الفكر الإسلامي لا بد وأن تكون حاملة لآثار الرقابة السياسية، لكون ذلك الفكر يؤسس لسلطة تشريعية لإصلاح أحوال الناس في "المعاش والمعاد"، مما يفرض على السلطة السياسية بذل مجهودات قصد استمالة حاملي العلم ليصطفوا إلى جانبها بدل أن يتكتلوا في شكل معارضة فكرية وسياسية لتوجهاتها، و هذا ما يعطي لطبيعة العلاقة بين المثقف والسلطة بعدين متناقضين: إما التلاحم والاحتواء، وإما الصراع والإقصاء.

    ولقد وعى الفكر المعاصرـ في بعض اتجاهاته ـ بخطورة هذه الإشكالية، فظهرت في ذلك عدة دراسات تبحث في علاقة الفكر بالواقع وبالنص الشرعي، أو في علاقة رجل العلم مع رجل السياسة في التاريخ الإسلامي، وهي تقريبا تتقاطع في تناول موضوعنا الرئيس "جدلية المعرفي و السياسي في الإسلام" بالرغم من اختلاف زوايا النظر فيها بحسب تعدد الخلفيات الإيديولوجية و المحفزات المعرفية التي تؤطرها، ولقد ساهم في كشف التباسات هذا الموضوع تطور تقنيات البحث التي حصلت في ميدان العلوم الإنسانية المعاصرة فلم يعد هناك فكر لا تفسير له أو كلام لا سياق له، فالمعارف ما هي إلا نتاج نسق ثقافي اجتماعي و اقتصادي معين مهما بلغت في التجريد و الافتراض.

    وللوقوف على هذه الإشكالية، نشرع في تسليط الضوء على واحدة من القضايا الثقافية التي حامت حولها الأوهام وزلت فيها الأفهام، ونقصد بذلك علم الكلام، وقد استقر في الذهنية العربية الإسلامية أنه علم يخوض في العقائد والإيمان بمنطق العقل والبرهان، ولكننا في هذه المحاولة سنتناوله من وجهة نظر أخرى مغايرة تتجاوز المعطيات الجاهزة وتطرح افتراضات جديدة وفق ما تتحمله الأحداث والوقائع دون تعسف في التفسير أو تحوير للنصوص.

    علـم الكـلام: كــلام في اللاهـوت، أم كــلام في السيـاسـة ؟:

    بعد وفاة الرسول r، بات مشكل الخلافة أو الإمامة مفهوما يثير كثيرا من الإشكالات المعرفية والتصورية فضلا عما يرتبه من نتائج سياسية على مستوى الفرد والجماعة، ولقد عرف نقلة نوعية بعد " مرحلة الفتنة" إذ على أساسه نشب صراع سياسي بين المسلمين، وعليه انطلقت موجة فكرية عقائدية لم يعرفها عصر الإسلام المبكر في شكل أحزابٍ و فرقٍ ولَّدت نقاشا سياسيا تحت غطاء فكري كلامي حول مسائل الاعتقاد بشكل تبعي، لكونه في الأصل أُنشئ على خلفية الشرعية السياسية للحكم الأموي الذي قَلَبَ نظام الحكم من الخلافة الراشدة القائمة على الشورى إلى الملك العضوض القائم على الغلبة2. وعلى أساس هذا التحول الجذري في النظام السياسي الإسلامي ظهرت فرق كلامية تبني مواقفها السياسية انطلاقا من تأصيلات فقهية وعقائدية مستوحاة من النص الديني أو من معطيات الواقع الاجتماعي السياسي، لكن اللافت للنظر أن هذه الفرق تم تقييمها على أنها مذاهب مستحدثة ابتدعت آراءً في قضايا الاعتقاد والإيمان، في حين تم تهميش أو تغافل أبعادها السياسية، و من هنا وقع السكوت على الهجمة الشرسة للسلطة على هذه الفرق " المعارضة" لحكمها تحت مسمى" حفظ الدين و العقائد من زيغ أصحاب الأهواء و الملل و النحل"، و انعكس ذلك على سمعة "الكلام" لدى العوام بالعزوف عن الخوض فيه مخافة الاصطدام مع السلطة أو الوقوع في الشك لأنه حسب الغزالي "يجب أن يتركوا على سلامة عقائدهم التي اعتقدوها مهما تلقنوا الاعتقاد الحق (…) فإن تعليمهم الكلام ضرر محض في حقهم، إذ ربما يثير لهم شكا، و يزلزل عليهم الاعتقاد و لا يمكن بعد ذلك بالإصلاح"3. وقد جمع السيوطي في كتابه "صون المنطق والكلام عن فن المنطق و الكلام" " مجموعة من مواقف السلف و الفقهاء الذين لم يروا في علم الكلام سوى مجرد ترف فكري يبحث في شؤون العقيدة، و يُغري بالجدال فيها، و يبعد الناس عن الاهتمام بالعمل"4.

    أما المتكلمون فبعد أن استوحشهم المجتمع وبطشت بهم يد السلطان بدأوا " يحولون بالتدريج التوجهات السياسية لعلمهم (مشكلة الإمامة، مشكلة مرتكب الكبيرة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مشكلة الخروج عن أئمة الجور...) و يخوضوا بالمقابل في مواضيع قريبة الصلة بالمشكلات الميتافيزيقية المجردة المتداولة في الخطاب الفلسفي في الإسلام "5 و عندئذ اعتدل موقف رجل السلطة تجاه شخص المتكلم الجديد إذ "مدَّ له يد المساعدة و أنشأ له المدارس بل و فتح له أبواب قصوره للمناظرة و المجادلة! و أنزله منه منزل النصيحة"6.

    بعد هذه اللمحة عن مقدمات ظهور علم الكلام و عن تطوره، سنتناول فيما يلي أبرز التيارات الفكرية و السياسية التي خاضت فيه بالإضافة إلى مناقشة وتحليل كُبرى القضايا التي تناولها الكلام.

    ? ـ نشـأة الفـرق: مخـاض سيـاسي عسـير:

    في غمرة الارتباك السياسي للمسلمين فيما بعد الفتنة شهدت الساحة الإسلامية ولادة أحزاب وتيارات ارتبط ظهورها في العمق بإشكالية الإمامة، و في هذا الصدد يمكن استدعاء كلمة مشهورة لمؤرخ الملل و النحل الإمام الشهرستاني أن " أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان!"7. و على هذا الأساس يذهب كثير من الباحثين المعاصرين إلى أن مبعث الكثير من الفرق الإسلامية سياسي و من بينهم: الدكتور عبد المجيد الصغير8 و الدكتور إبراهيم حركات9 و الدكتور لؤي صافي10 و الأستاذ أحمد أمين11 و غيرهم كثير... و تفسير هذه المسألة راجع إلى ارتباط الوعي السياسي لدى الفرق بالوعي الديني إذ ترسخ لديها التسليم بأهمية السلطة في التغيير الاجتماعي و الثقافي، فجل الأفكار التي راجت في المجتمع الإسلامي كان للسلطة دور في إفشائها والترويج لها أو إفشالها و التنكيل بها، و من هنا فإذا كان" انتقال السلطة يتم بوسيلة الصراع العسكري، كان انتقال الفكر من مرحلة إلى أخرى يتم بوسيلة الانقلاب"12.

    و هكذا فلن يكون انبعاث الظاهرة الخوارجية في المجتمع الإسلامي مفهوما ومستساغا ما لم نربطها بموقفها " السياسي" من قضية " التحكيم" بين علي و معاوية في معركة صفين، و بناءً على هذا الموقف السياسي عمدت إلى بناء نظريات في الاعتقاد أساسها الحكم على مُجريات الواقع السياسي، فمثلا ناهض الخوارج" نظرية التفويض الإلهي تجنبا لدكتاتورية الفردية و عوضوها بالحكم الجماعي"13، وبدأُوا يكفرون المسلمين حتى ولو كانوا من صحابة رسول الله لا لشيء إلا لأنهم لم يلتحقوا بصفوفهم ولم يؤيدوهم في مواقفهم السياسية، وقد كان التكفير يستخدم "من قبل الجماعات المناوئة للسلطة لتبرير الخروج عليها"14 ولسحب ثقة الناس منها و من شرعيتها. وكل ما سبق يدخل في البرنامج السياسي للخوارج حتى ولو ظهر أن بعض السلوكات لها صلة بالدين والعقيدة. وهذا ينطبق كذلك على حركة الشيعة المعارض السياسي القوي للنظرية السياسية السنية في الإمامة، فإرهاصاتها الأولية انطلقت مع اجتماع سقيفة بني ساعدة التي انتُخب فيها أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين في غياب علي الذي كان منشغلا بتجهيز جثمان النبي، وبسبب ذلك طعن الشيعة (ضمنيا أو صراحة) في شرعية الخليفة الأول و في شرعية من جاء بعده لكون حكمهم لم ينبعث من البيت النبوي و من سلالة الرسول r، و قد تطورت هذه الفكرة لدى الشيعة لتأخذ أبعاداً سياسية و فقهية و لاهوتية، فاستخدامهم" الوصية و النص كمبدأ لتعيين القيادة السياسية بدلا من الاختيار، يعود إلى رفض الإجماع السني الذي بارك اختيار أبي بكر الصديق خليفة رسول الله. و قولهم بعصمة الأئمة نابع من الحاجة إلى إضفاء الشرعية المطلقة على أقوال الأئمة التي تشكل العصب الرئيسي الذي يقوم عليه البناء التصوري الشيعي"15.

    أما الفرقة الثالثة التي ساهمت في إغناء الفكر الإسلامي بنظرياتها في العقيدة و السياسة فهي فرقة المعتزلة التي اختلف الدارسون في علة تسميتها بذلك الاسم من قائل بأن المعتزلة هم من اعتزلوا مجلس الحسن البصري بقيادة و اصل بن عطاء، إلى قائل بأنهم اعتزلوا الآراء المشهورة في مرتكب الكبيرة فقالوا بالمنزلة بين المنزلتين، إلى قائل بأنهم يقولون باعتزال صاحب الكبيرة للكافرين و المؤمنين16." هذا مع أن المعتزلة لا يسمون أنفسهم بالاعتزال بل يفضلون لقب "أهل العدل والتوحيد" على غيره من الألقاب. والمتتبع لمسارهم الفكري يجد أنهم كثيرا ما يميلون إلى العقل والتأويل حتى في مسائل تدرج عادة في مجال القطعيات ولذلك يرى بعض الباحثين في توجهاتهم أنها تمثل " محاولة لفهم العقيدة الإسلامية على ضوء العقل الإنساني"17.

    - ? مرتكـب الكبـيرة و تقييـم السلـوك السيـاسي:

    بعد تحويل نظام الحكم الإسلامي نحو تغليب منطق الشوكة والقهر، باتت مفردات "الفجور السياسي" من قتل و جور وهتك للأعراض وسلب للأموال عناوين تتصدر لائحة الكبائر السياسية التي يقترفها الحكام والخلفاء والولاة والوزراء والجند في حق الأبرياء والضعفاء من أبناء المجتمع مما أثار حفيظة المعارضة فبدأت تفكر في وضع أحكام فقهية عقائدية تلامس واقع الاستبداد، و هكذا انخرطت جل الفرق الإسلامية في جدل فكري سياسي مهمته تقييم الفعل السياسي للسلطة عبر ما يسمى " بحكم مرتكب الكبيرة" هل هو مؤمن أم كافر ؟.

    ولابد من التأكيد أولا على تداخل الأخلاقي والسياسي في الفكر الإسلامي و منه فإن " التحديد الميتافيزيقي لكل من الإيمان و الفسق و الكفر يتخذ بالضرورة بُعداً سياسيا يؤدي مباشرة إلى مسألة الحقوق و الواجبات المجتمعية و السياسية "18. و على هذا الأساس لا بد من قراءة مواقف الفرق من مرتكب الكبيرة قراءة مزدوجة تضم البعد الغيبي إلى جانب البعد السياسي. فالخوارج الذين يكفرون صاحب الكبيرة تنبع نظرتهم من موقفهم العام من مسألة الصراع السياسي على السلطة و من حكمهم على الأنظمة المتعاقبة على الحكم بعد الفتنة. أما الشيعة فقد ربطوا الإمامة بالإيمان و جعلوها من مقتضياته و من أصول الاعتقاد و بالتالي فطاعة الإمام من الإيمان. و أما بالنسبة للمرجئة فهم تساهلوا مع مرتكب الكبيرة فحكموا عليه بأنه مؤمن فاسق و كان ذلك حياداً منهم فلا يكفرون الخوارج و لا الشيعة و لا حكام الأمويين، كما لا يجزمون بكفر النصارى و اليهود لأن الإيمان عندهم لا يتعلق بظواهر الأفعال إنما محله القلب، و بالتالي يرجئون أفعال العباد إلى الله.

    و يبقى موقف المعتزلة حلاًّ و سطاً بين جل هذه الآراء إذ لم يحكموا على صاحب الكبيرة لا بالكفر ولا بالإيمان لكونه لم يستجمع شرائطهما، فلم يقعوا في الغلو والتشدد ولا في اللين والتساهل. و قد لاحظ زعيمهم و اصل بن عطاء " أن القرآن لا يذكر الإيمان إلا مقرونا بالعمل، في حين أنه يصف بالفسق فقط كل من كان ينتسب لأمة الإسلام بمحض الإيمان ويُسر مع ذلك بين أفرادها بالفساد!.وبهذا الاستقراء للغة القرآن و للغة الأمة تأكد لواصل بن عطاء أن النص و الإجماع و العقل توجب جميعا تسمية مرتكب الكبيرة فاسقا دون الإيمان والكفر"19 وهو ما يعرف لدى المعتزلة " بالمنزلة بين المنزلتين "، وهذه النظرية سببت لهم حرجا عند تكييفها مع وقائع الفتنة التي اشتعلت بمقتل عثمان وأفضت إلى القتال بين الصحابة مما استدعى البحث عن المصدر الحقيقي للخطأ ليلحق بدائرة الفسق.

    وعموما فإن " نظرية مرتكب الكبيرة" في الثقافة الإسلامية لن تكون مفهومة في أبعادها ما لم يلتحم في ثناياها جذورها السياسية والاجتماعية بآفاقها الفكرية الميتافيزيقية.

    ? ـ الجبـر و الاختيـار : خُدْعَـةٌ سياسيـة للهـروب من المسـاءلة الشعبيـة:

    بلغ الفساد على المستوى الدستوري والإداري والمالي بدولة الملك الأموي أوجه فأجج ذلك غضب جماهير المسلمين ولا يمكن امتصاصه هذا الأخير إلا عبر حيلة ذكية، وقد وزعتها السلطة على نمطين أحدهما ترفيهي و الآخر إيماني، فالأول جاء عبر تشجيع التفسخ والنهوض بفن الغناء أما النمط الثاني فكان بنشر عقيدة الجبر و القدر الإلهي السالب لإرادة الإنسان الأموي في كل ما يقوم به و لو كان من قبيل الظلم و الاستبداد. و هكذا عمل خلفاء بني أمية على بث مفاهيم الجبر في نفوس الناس فكان معاوية " أول من قال بالجبر و أظهره، ليجعله عذراً فيما يأتيه، و يوهم أنه مصيب فيه، و أن الله جعله إماما ولاَّه الأمر، وفشى ذلك في ملوك بني أمية " 20 وكان منطلق معاوية في هذه المسألة قراءته لحديث قراءة حرفية غير مقاصدية استنبط منه حتمية التسيير على التخيير، ومنطوق ذلك الحديث "(اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت و لا راد لما قضيت) ويقولون إن معاوية تلقف هذا الحديث و عممه على الجميع،(...) و بدأ في مقدمتهم يردده في الصباح و في المساء ويعتبره من الأمور المأثورة التي لا بد من تردادها في الصباح و المساء"21، و سيراً على هذه الإيديولوجية قام خلفاء بني أمية بترويجها في كل المناسبات وفي الحق و الباطل، و للتمثيل لذلك يعلن يزيد بن الوليد في إحدى كتبه إلى الأمصار أن الله "اختار الإسلام دينا لنفسه... واصطفى الملائكة رسلا... وانتهت كرامة الله في نبوته إلى محمد r... ثم استخلف خلفائه على منهاج نبوته... فتتابع خلفاء الله على ما أورثهم الله عليه من أمر أنبيائه واستخلفهم عليه منه لا يتعرض لحقهم أحد إلا صَرَعَه، ولا يفارق جماعتهم أحد إلا أهلكه، ولا يستخف بولايتهم ويتهم قضاء الله فيهم أحد إلا أمكنهم منه وسلَّطهم عليه وجعله موعظة ونكالاً لغيره..."22. وهنا يبرز مدى الإيهام بحلول إرادة الإنسان في إرادة الله كأن هناك إتحاداً في الفعل والممارسة السياسية، فحينما يفعل الحاكم أو يأمر فإنما ينفذ عن الله الفاعل والآمر الحقيقي وبالتالي يصير الله هو المسؤول عن كافة الجرائم السياسية و الأخلاقية التي يرتكبها بنو أمية، أما هم فليسوا سوى أدوات مسخرة لقضاء ما كان في سابق علم الله، و يلخص زياد بن أبيه هذه المعادلة في خطبة له قائلا " أيها الناس إنا قد أصبحنا لكم ساسة و عنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا و نذود عنكم بفيء الله الذي خولنا "23. ولما بالغ الأمويون في فحشهم الأخلاقي والسياسي وينسبون ذلك إلى مشيئة الله، استفسر الناس عبد الله بن عمر عن أفعال هؤلاء الإجرامية هل هي واقع مقدر من عند الله لا مناص منه إلا بالرضى و التسليم فأجابهم ابن عمر أن الله " قد كان في علمه أنهم يفعلونها، ولم يحملهم علم الله على فعلها "24.

    ? ـ خلـق القـرآن و الأيـادي الخفيـة للسلطـة:

    لم تكتف السلطة السياسية بالاستبداد السياسي على جماهير المسلمين و على النخبة المعارضة، و لم يكفها احتكارها التام للشأن السياسي، بل تدخلت في عقائد الناس و في مشاعرهم الدينية، فاستفز المسلمون في أعلى مصادر القيم العليا عندهم و هو القرآن الكريم كلام الله المنزل، حيث أصدرت السلطة أوامرها باختبار أعيان المجتمع من محدثين و فقهاء و قراء في مواقفهم من النص القرآني هل هو كلام قديم أم كلام حديث؟ و لقد تبنت السلطة الرأي الثاني مَسْنُودة في ذلك بعلماء المعتزلة الذين يضرب بهم المثل في العقلانية الدينية، و لكن لما اتحدوا مع السلطة تحولوا إلى متواطئين في محنة خلق القرآن خلال فترة حكم كل من الخلفاء العباسيين الثلاثة: المأمون و المعتصم و الواثق. و لقد وقع ضحية هذه الفتنة الكثير من أهل العلم و الفضل و بقية الناس، و تم تعذيبهم و إهانتهم و قتلهم في شكل بشع أشبه بسياسة تجفيف المنابع أو الإبادة الجماعية، و لقد جمع وقائعها و ناقش خلفياتها الأستاذ فهمي جذعان في دراسته الهامة: المحنة، بحث في جدلية الديني و السياسي في الإسلام25. و مما خلص إليه الباحث قوله أن هذه الفتنة تشكل " محنة بكل المقاييس إذ حصل فيها أكبر وأول خرق جماعي في تاريخ الإسلام لحرية الرأي و الفكر و المعتقد ممثلا بقيام السلطة السياسية بإجبار الناس على تغيير آرائهم بالقوة26". و المشكلة التي يثيرها هذا التدخل السافر في العقائد هي أن القضايا الشخصية المتعلقة بالتعبد باتت شأنا من شؤون " النظام العام" للدولة تقرر فيه كيف شاءت حسب ميولات رجل السلطة بدل الحوار الفكري الحر و المسؤول، و لذلك فالسلطة تتدخل تارة " باسم العقلانية في عصر الخليفة العباسي المأمون فاضطهدت القائلين بأن القرآن قديم لأنه كلام الله الأزلي وصفة من صفات ذاته الأزلية القديمة ثم تدخلت السلطة السياسية مرة أخرى في عصر الخليفة المتوكل و لكن بحجة درء الفتنة وناصرت أصحاب نظرية القدم واضطهدت القائلين بأن القرآن محدث مخلوق"27، و هذه المرة لم تعتمد فقط أسلوب العنف في فرض آرائها بل لجأت إلى التماس الدعم المعنوي من جهات علمية و وازنة، فوظفت العلماء فاستصدرت منهم فتوى تحرم القول بخلق القرآن وترسم الملامح الكبرى للعقيدة، وتعرف " بالاعتقاد القادري القائمي" نسبة إلى صاحبها القادر بالله (381 ـ 442هـ) وذلك سنة 433هـ، وهي وثيقة رسمية زكَّتها السلطة و تعبر عن آراء " جماعة المسلمين" آنذاك، وكل من خالفها فقد فسد اعتقاده وخرج من الملة و مما جاء فيها: "من قال أنه [ القرآن] مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر حلال الدم بعد الاستتابة منه"28. وبذلك تصير العقيدة أُلعوبة سياسية لا قدسية لها إلا بقدر ما تحققه وتجلبه من الأنصار وشرعية سياسية، لأن الثابت لدى السلطة هو المصلحة والنفعية والمتغير هو الفكر والعقيدة.

    وفي ختام هذه الدراسة المركزة والمختزلة، يظهر جليا من خلال تناولنا لعلم الكلام مدى الحاجة إلى قراءة جديدة لمختلف الحقول المعرفية داخل الثقافة الإسلامية التي لن تكون سوى انعكاسات طبيعية لظروفها السياسية والاجتماعية…، ولذلك وجب قراءة التراث في ضوء التاريخ وخصوصا التاريخ السياسي لأنه "إذا كان التاريخ هو مفتاح العقل، فإن السلطة هي مفتاح التاريخ"29، أما التعامل "الطوباوي" مع الماضي فلن يزيد إلا مفاصلة بين التصور والواقع، و يضيف إلى الذاكرة "مقدسا جديد" يمنع تجديد الفكر و يحيل الذات على زمن مضى وولَّى و يكرس الجمود و يُعطِّل الحواس بدعاوى توظف في غير سياقها من قبيل الزعم بأنه "لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" أو الدعوة إلى الكف عن افتحاص الماضي ومحاسبته بحجة كون تلك "دماء طهر الله منها أسيافنا فلا نلوث بها ألسنتنا" دون الإدراك بأن التاريخ ملك للجميع وللأجيال وإلا فما معنى أن ينتسب المرء إلى تاريخ لا يساهم في نقده وتطويره

    44:4 44:4 22:2 22:2 13:13

  • #2
    شكرا شكرا شكرا شكرا ............... يا حمزة
    بارك الله فيك على هذا غالمقال الرائع

    تعليق

    يعمل...
    X