صالح الشورة*
تعرف القراء في العالم العربي على كتابات مالك بن نبي منذ أكثر من خمس وعشرين سنة إذ صدرت الترجمة العربية لكتاب "مستقبل الإسلام"عن المكتبة العصرية ببيروت. ولكن الترجمات العربية لكتب مالك بن نبي التي ألفها باللغة الفرنسية لم تظهر بصورة متتابعة، إلا ابتداء من عام 1957 عندما ظهر كتابه "شروط النهضة" في ذلك العام، ثم تتابعت مؤلفاته فيما بعد.
دارت أفكار مالك بن نبي حول محور الحضارة والنهضة، ولذلك نجد كتبه جميعها قد صدرت تحت عنوان ثابت هو"مشكلات الحضارة"، وقد تميز منهجه بالمنطق الصارم والتأمل العميق والقدرة على التحليل. ومن هنا فقد كره الثرثرة ونفر من الزخرفة اللفظية وفضل الصور العقلية فاتسم فكره بالحيوية والتركيز والفعالية. فكانت أفكاره بالأساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة، وكان ومفكرا معرفيا، استطاع إدراك أزمة الأمة الفكرية فطرح الحلول للنهوض بواقعها المؤلم فما كان في أمس مالك بن نبي انسحب على حاضر الأمة في واقعها المعاصر.
مالك بن نبي وحركة النهضة
رأى مالك بن نبي بأنه كان لجمال الدين الافغاني ومحمد عبده دور كبير في إذكاء حركة النهضة في العصر الحديث من الزاويتين السياسية والاجتماعية، إلا أنه خالفهما الرأي بأن قال: "أن المشكلة ليست أن نعلم المسلم عقيدة هو يمثلها وإنما المهم أن نرد الى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها"، وحدد بن نبي أسباب تعثر النهضة الأسلامية الحديثة في ثلاثة عوامل "عدم تشخيص غاية النهضة وعدم تحديد المشكلات الاجتماعية تحديدا جيدا وعدم تحديد الوسائل"، وأدى ذلك الى التيه والضياع مع التبذير في الوسائل لأن الحركة أصبحت تخضع للصدفة وبالتالي لم تات بنتيجة في اتجاه معين وفي وقت معقول. ورأى بن نبي بأن سير النهضة الإسلامية الحديثة يشير إلى أنها كانت تتجه نحو الحضارة ولكن خطأها أنها كانت تحاول تحقيق غايتها عن طريق الاشياء التي تستوردها من الحضارة الغربية ونسيت أن الأشياء لا تؤدي مفعولها الاجتماعي ولا تؤثر وحدها في بناء الحضارة ولكنها تؤثر بقدر ما يضاف اليها من دوافع نفسية وفكرية إذ أن البناء كما يقول بن نبي" يتم بالدوافع التي تحرك تلك الأشياء والفكرة التي ترتبها في العملية الاجتماعية".
ما يلفت الانتباه في أفكار بن نبي قوله بأن سبب الانحطاط في العالم الاسلامي لا يعود إلى الاستعمار، بل إلى القابلية للاستعمار، وقد ركز على هذا الجانب في أغلب مؤلفاته وظل يؤكد على هذا القاعدة حتى وصل إلى نتيجة في أواخر حياته إلى أن السبب في تأخر نهضة العالم الإسلامي يقع على عاتقي "الاستعمار وقابلية الاستعمار". وبالتالي وزع المسؤولية على هذين العاملين توزيعا منصفا،ً حين قال "إن الدهاء والمكر والخداع والنهم والشراسة من نصيب الاستعمار وأن الدناءة والسفالة والنجاسة والخبث والخيانة من نصيب القابلية للاستعمار".
حديث الحضارة عند مالك بن نبي.
شغلت قضية النهضة في العالم الإسلامي الحديث، المفكرين والمصلحين وكان مفكرنا أحد هؤلاء بل اعتبره البعض أبرز المفكرين العرب الذين اهتموا بقضية الحضارة بعد ابن خلدون، إذ ركز تفكيره حول هذه القضية من أجل تأصيلها ودراسة مشكلاتها مدركاً بأن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته. فاشتق تعريفا واسعا للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة " توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه ".
ظل مالك يهمس في وعي الأمة بلغة القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة على الأمم المستضعفة، وخاصة المسلمين، ووضع لهم معادلات وقوانين "الإقلاع الحضاري" ولكن الأمة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها، وإما لضعف المحرك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين معا. ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين نظريات مفيدة للمحركين الذي يهتمون بانطلاق المشروع الحضاري للأمة.
رأى بن نبي أن بناء الحضارة لا يكون عن طريق تكديس منتجات حضارة أخرى إذ أن ذلك يؤدي الى عملية مستحيلة كماً وكيفاً إذ لا يمكن لحضارة أن تبيعنا روحها وأفكارها كما انه لا يمكن شراء كل أشياء الحضارة ولو تم ذلك جدلا فأننا نحصل على حضارة شيئية أو تكديس لمنتجاتها. ولهذا فالحضارة لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لأن الحضارة إبداع، وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى.
أدرك مالك بن نبي أن الحضارة لا تتم بصورة تلقائية بمجرد وجود العناصر الثلاثة، التي ركز عليها في فكرته وهي"الإنسان والتراب والوقت". بل رأى بأن وجودها يقتضي وجود عامل آخر يؤثر في مزج هذه العناصر وهو الفكرة الدينية أو العقيدة حيث قال "إن الوسيلة الى الحضارة متوفرة ما دامت هناك فكرة دينية تؤلف بين العوامل الثلاثة الإنسان والتراب والوقت لتركب منها كتلة تسمى في التاريخ حضارة".
لم يدعُ بن نبي الى تقليد الحضارة الغربية لأن هذه الحضارة في رأيه قد انتهت الى إفلاس محزن. فلكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها، وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الأشياء ولم يعد العالم ينتظر الخلاص على يديها، بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها، امتد خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة أي نحو الأفكار.
فمن أهم الخصوصيات التي ميزت نشوء الحضارة الإسلامية هو أن نشوءها سببه "الوحي الرباني" مما جعلها حضارة خالدة خلود المبادئ والتعاليم التي تحملها، لذلك دعا بن نبي الى حضارة أصيلة متميزة, الذي بدوره رتب على العالم الإسلامي أن يقطع المسافة التي تفصله عن التقدم بالتخطيط المنظم الواعي الهادف إلى استغلال إمكانياته بطريقة صحيحة. على أن يتم تقدمه على أساس من التعادل بين الكم والكيف، بين الروح والمادة، وبين الغاية والسبب وان يبقى محافظا على معنى"القيمة الخلقية" التي فقدها الفكر الغربي الحديث، ومتحللاً من الفوضى والأوهام، متحرراً من عقدتي الاستحالة والتساهل مؤمناً بأن الحضارة مرهونة بتغيير النفس إذ أنها لا تنبع إلا من ذات الفرد وداخل الجماعة مع التفهم الواعي لواقعه وأن يبدأ حركته على ضوء فكرة دينية تحددها تربية اجتماعية تستلهم قواعدها من علوم التاريخ والنفس والمجتمع لتحقيق المثل الأعلى.
كانت هذه الأفكار أنموذجا يسيرا لأفكار مالك بن نبي، الذي تميز برؤية جديدة وعمق في التحليل وتأمل في التاريخ والاجتماع وعلم النفس، بهدف إحداث بناء فكري متكامل يحدد الشروط النفسية والموضوعية للبناء الحضاري، ويرسم شروط النهضة داعيا الى اتباع سبيل الأصالة وعدم تقليد الآخرين لأن التميز والابتعاد عن التبعية هما الشرطان الأولان لبناء الحضارة. فكان بذلك أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، وابتعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ.
تعرف القراء في العالم العربي على كتابات مالك بن نبي منذ أكثر من خمس وعشرين سنة إذ صدرت الترجمة العربية لكتاب "مستقبل الإسلام"عن المكتبة العصرية ببيروت. ولكن الترجمات العربية لكتب مالك بن نبي التي ألفها باللغة الفرنسية لم تظهر بصورة متتابعة، إلا ابتداء من عام 1957 عندما ظهر كتابه "شروط النهضة" في ذلك العام، ثم تتابعت مؤلفاته فيما بعد.
دارت أفكار مالك بن نبي حول محور الحضارة والنهضة، ولذلك نجد كتبه جميعها قد صدرت تحت عنوان ثابت هو"مشكلات الحضارة"، وقد تميز منهجه بالمنطق الصارم والتأمل العميق والقدرة على التحليل. ومن هنا فقد كره الثرثرة ونفر من الزخرفة اللفظية وفضل الصور العقلية فاتسم فكره بالحيوية والتركيز والفعالية. فكانت أفكاره بالأساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة، وكان ومفكرا معرفيا، استطاع إدراك أزمة الأمة الفكرية فطرح الحلول للنهوض بواقعها المؤلم فما كان في أمس مالك بن نبي انسحب على حاضر الأمة في واقعها المعاصر.
مالك بن نبي وحركة النهضة
رأى مالك بن نبي بأنه كان لجمال الدين الافغاني ومحمد عبده دور كبير في إذكاء حركة النهضة في العصر الحديث من الزاويتين السياسية والاجتماعية، إلا أنه خالفهما الرأي بأن قال: "أن المشكلة ليست أن نعلم المسلم عقيدة هو يمثلها وإنما المهم أن نرد الى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها"، وحدد بن نبي أسباب تعثر النهضة الأسلامية الحديثة في ثلاثة عوامل "عدم تشخيص غاية النهضة وعدم تحديد المشكلات الاجتماعية تحديدا جيدا وعدم تحديد الوسائل"، وأدى ذلك الى التيه والضياع مع التبذير في الوسائل لأن الحركة أصبحت تخضع للصدفة وبالتالي لم تات بنتيجة في اتجاه معين وفي وقت معقول. ورأى بن نبي بأن سير النهضة الإسلامية الحديثة يشير إلى أنها كانت تتجه نحو الحضارة ولكن خطأها أنها كانت تحاول تحقيق غايتها عن طريق الاشياء التي تستوردها من الحضارة الغربية ونسيت أن الأشياء لا تؤدي مفعولها الاجتماعي ولا تؤثر وحدها في بناء الحضارة ولكنها تؤثر بقدر ما يضاف اليها من دوافع نفسية وفكرية إذ أن البناء كما يقول بن نبي" يتم بالدوافع التي تحرك تلك الأشياء والفكرة التي ترتبها في العملية الاجتماعية".
ما يلفت الانتباه في أفكار بن نبي قوله بأن سبب الانحطاط في العالم الاسلامي لا يعود إلى الاستعمار، بل إلى القابلية للاستعمار، وقد ركز على هذا الجانب في أغلب مؤلفاته وظل يؤكد على هذا القاعدة حتى وصل إلى نتيجة في أواخر حياته إلى أن السبب في تأخر نهضة العالم الإسلامي يقع على عاتقي "الاستعمار وقابلية الاستعمار". وبالتالي وزع المسؤولية على هذين العاملين توزيعا منصفا،ً حين قال "إن الدهاء والمكر والخداع والنهم والشراسة من نصيب الاستعمار وأن الدناءة والسفالة والنجاسة والخبث والخيانة من نصيب القابلية للاستعمار".
حديث الحضارة عند مالك بن نبي.
شغلت قضية النهضة في العالم الإسلامي الحديث، المفكرين والمصلحين وكان مفكرنا أحد هؤلاء بل اعتبره البعض أبرز المفكرين العرب الذين اهتموا بقضية الحضارة بعد ابن خلدون، إذ ركز تفكيره حول هذه القضية من أجل تأصيلها ودراسة مشكلاتها مدركاً بأن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته. فاشتق تعريفا واسعا للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة " توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه ".
ظل مالك يهمس في وعي الأمة بلغة القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة على الأمم المستضعفة، وخاصة المسلمين، ووضع لهم معادلات وقوانين "الإقلاع الحضاري" ولكن الأمة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها، وإما لضعف المحرك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين معا. ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين نظريات مفيدة للمحركين الذي يهتمون بانطلاق المشروع الحضاري للأمة.
رأى بن نبي أن بناء الحضارة لا يكون عن طريق تكديس منتجات حضارة أخرى إذ أن ذلك يؤدي الى عملية مستحيلة كماً وكيفاً إذ لا يمكن لحضارة أن تبيعنا روحها وأفكارها كما انه لا يمكن شراء كل أشياء الحضارة ولو تم ذلك جدلا فأننا نحصل على حضارة شيئية أو تكديس لمنتجاتها. ولهذا فالحضارة لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لأن الحضارة إبداع، وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى.
أدرك مالك بن نبي أن الحضارة لا تتم بصورة تلقائية بمجرد وجود العناصر الثلاثة، التي ركز عليها في فكرته وهي"الإنسان والتراب والوقت". بل رأى بأن وجودها يقتضي وجود عامل آخر يؤثر في مزج هذه العناصر وهو الفكرة الدينية أو العقيدة حيث قال "إن الوسيلة الى الحضارة متوفرة ما دامت هناك فكرة دينية تؤلف بين العوامل الثلاثة الإنسان والتراب والوقت لتركب منها كتلة تسمى في التاريخ حضارة".
لم يدعُ بن نبي الى تقليد الحضارة الغربية لأن هذه الحضارة في رأيه قد انتهت الى إفلاس محزن. فلكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها، وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الأشياء ولم يعد العالم ينتظر الخلاص على يديها، بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها، امتد خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة أي نحو الأفكار.
فمن أهم الخصوصيات التي ميزت نشوء الحضارة الإسلامية هو أن نشوءها سببه "الوحي الرباني" مما جعلها حضارة خالدة خلود المبادئ والتعاليم التي تحملها، لذلك دعا بن نبي الى حضارة أصيلة متميزة, الذي بدوره رتب على العالم الإسلامي أن يقطع المسافة التي تفصله عن التقدم بالتخطيط المنظم الواعي الهادف إلى استغلال إمكانياته بطريقة صحيحة. على أن يتم تقدمه على أساس من التعادل بين الكم والكيف، بين الروح والمادة، وبين الغاية والسبب وان يبقى محافظا على معنى"القيمة الخلقية" التي فقدها الفكر الغربي الحديث، ومتحللاً من الفوضى والأوهام، متحرراً من عقدتي الاستحالة والتساهل مؤمناً بأن الحضارة مرهونة بتغيير النفس إذ أنها لا تنبع إلا من ذات الفرد وداخل الجماعة مع التفهم الواعي لواقعه وأن يبدأ حركته على ضوء فكرة دينية تحددها تربية اجتماعية تستلهم قواعدها من علوم التاريخ والنفس والمجتمع لتحقيق المثل الأعلى.
كانت هذه الأفكار أنموذجا يسيرا لأفكار مالك بن نبي، الذي تميز برؤية جديدة وعمق في التحليل وتأمل في التاريخ والاجتماع وعلم النفس، بهدف إحداث بناء فكري متكامل يحدد الشروط النفسية والموضوعية للبناء الحضاري، ويرسم شروط النهضة داعيا الى اتباع سبيل الأصالة وعدم تقليد الآخرين لأن التميز والابتعاد عن التبعية هما الشرطان الأولان لبناء الحضارة. فكان بذلك أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، وابتعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ.