للشيخ حامد بن عبدالله العلي (حفظه الله)
الحمد لله ربّ العالمين، أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له وليّ المتقين، وأشهد أنّ محمداً صلـــى الله عليه وسلـم عبده ورسوله، قائد المجاهدين، وسيد الغـرّ المحجّلين..
وبعــد:
إنّ حكاية جهاد أمّتنا المشرف اليوم، هي والله حكاية إنتصار رايات الحق الظافرة، المتجلّلة بالآيات الباهرة، وهي ذاتها قصة إنتصار الحق الأوحد الذي يحمله الإسلام، في معركته مع باطل الجاهلية، في كلّ زمان و مكان.
حيث تتراجع المعايير المادية، فتتحوّل إلى آيات تثبت أن هذه المعركة محسومة النتيجة قبل أن تبدأ، فالحقّ وأهله منصورون، والعاقبة لهم مقطوعٌ بها، ولكنّ الشأنّ فقط، فيمن يستعمله الله تعالى في هذه المعركة، وفيمن يُبعد عن الصفّ، أعاذنا الله سبحانه و تعالى من ذلك.
و قبل أن أبدأ سأضربْ مثلاً من التاريخ، للمنهزمين الذين يقولون كيف تقاتلون عدواً لاطاقة لأحدٍ بقتاله! كما قال المنافقون و الذين في قلوبهم مرضٌ من قبل: {غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُم}.
فقد حكى لنا التاريخ قصة فيها عبرة تذكّرنا بقوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّـهِ}.
فمن أحداث التاريخ ما ذكره المؤرخون الإسلاميون أنه خرج ارمانوس ملك الروم عام 463هـ، إلى بلاد المسلمين في مائتي ألف مقاتل، ومعه خليط من الروم، والفرنجة، والروس، والصرب، والأرمن، والبوشناق، وسلك سبيله إلى العراق، وقد أقطع من غروره، بطارقته الأرض حتى بغداد، وعين له نائبا على بغداد أيضا، وذلك كله قبل أن يسير إليها، وقد عزم أن يبيد الإسلام وأهله، وإذا انتهى من العراق مال إلى الشام.
ووصل الخبر إلى القائد الإسلامي المجاهد ألب أرسلان، وكان في أذربيجان حينئذٍ فلم يتمكن من جمع الجند، ولم يكن معه إلا خمسةَ عشر ألفا فقط، فانطلق بهم إلى أرمانوس الذي كان قد نزل في ملاذ كرد في تركيا.
وقال ألب أرسلان: إنّي أقاتل محتسبا صابرا، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملكشاه ولي عهدي، وجد في السير، وأرسل مقدمته أمامه، فالتقت بمقدمة الروس، وكان عددهم عشرة آلاف فهُزم الروس، بإذن الله، وأُسر قائدهم.
واقترب الجمعان، وأرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب الهدنة، فقد خافه لكثرة من معه، ذلك أن فمن مع ملك الروم خمسة عشر ضعفا أكثر من جيش المسلمين، فرد عليه ملك الروم لا هدنة إلا في الري.
فاستشار ملك المسلمين إمام الجند أبا نصر محمد بن عبدالملك البخاري، فأجابه:
إنك تقاتل عن وعد الله بنصره، وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب بإسمك هذا الفتح، فالقهَم يوم الجمعة بعد الزوال، في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.
فلما جاء يوم الجمعة وحان وقت الزوال فصلى أبو نصر بالناس، وبكى السلطان، وبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معـه بعد الصلاة، وقال لهم : من أراد الإنصراف، فلينصرف فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وإنما جهاد ورغبة في لقاء الله.
ثم ألقى القوس و النشاب، وأخذ السيف، ولبس البياض، وتحنط، وقال: (إن قُتِلت فهذا كفني)، وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما اقترب منهم ترجّل، ومرّغ وجهه في التراب، وبكى وأكثر من الدعاء، وطلب النصر من الله، ثم ركب، وحمل على الروم، وحمل المسلمون حتى وصلوا إلى وسط الروم وحجز الغبار بينهم.
وما هي إلا جولة حتى أنزل الله نصره، وهُزِمَ الروم، ومنحوا المسلمين أكتافهم، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، حتى امتلأت الأرض بالجثث، وقدر عدد القتلى بمائة وخمسين ألفا، أي أن كل مسلم قتل عشرة من الروم، ووقع ملك الروم وبطارقته جميعا أسرى بين يدي المسلمين.
واليوم و غداً، و إلى أن يلاقي المؤمنون مع عيسى عليه السلام، جحافل الباطل التي تملأ الأرض آنذاك، فتضمحل أمام صولة الإسلام، ستبقى هذه هي المعادلة الوحيدة في دائرة أرض المعركة؛ النصر أو الشهادة، والعاقبة محسومة لنا.
وفي جهاد أمتنا اليوم، آياتٌ كثيرة، تجلِّي هذه الحقيقة العظيمة؛ آياتٌ في الأحداث، وآياتٌ في الأشخاص.
والأشخاص العظام هم الذين يُجري الله تعالى على أيدهم الأحداث العظيمة، فيصنعون تاريخ الأمم.
ولهذا كان الحديث عن رموز الأمة، في غاية الأهمية، وتتضاعف أهميته، عندما تكون هذه الرموز في حال الجهاد، وتتضاعف أكثر وأكثر عندما تكون الأمة في جهاد تحدد عاقبتُه مصيرها، كما هو اليوم.
فعنوان المرحلة التي تمر بأمّتنا، هجمة صهيو-صليبية تستهدف كلّ مقدساتنا، شديدة المكر، بالغة القوة، مسخرةٌ لها وسائلُ ومادياتٌ على مستوى إمكانات الدول، إستطاعت أن توظِّف حتى الخطاب الديني -المزيف بلا ريب- ليسهّل وصولها إلى أهدافها الخبيثة.
ويقابل هذه الهجمة مشروع واحد، هو مشروع الجهاد العالمي، المنطلق من شعوب امتنا، فالدول سُخِرت للحملة الصهيو-صليبة، بما لم يعهد مثله في تاريخ الإسلام.
والمشرع الجهادي يشمل جهاد اللسان، وجهاد السنان.
وهدفه صدّ هذه الهجمة، وحماية الإسلام من آثارها المدمرة.
والمعركة تدور رحاها اليوم في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وغيرها.
وهذه المعركة يقودها رجالٌ عظماء، كما ذكرنا أن الشخصيات العظيمة، هي التي تصنع التاريخ، ويجب علينا أن نشير إلى هؤلاء الرموز بما يستحقونه، ونضعهم في مكانتهم، ونلقي الضوء على إنجازاتهم، وجوانب العبقرية والتميّز فيهم.
يجب أن نصنع نحن ذلك، انطلاقا من فهمنا للمعركة وطبيعتها، ولانسمح أبدا لأعداءنا أن يفرضوا علينا بالترهيب أن نلغي رموزنا، ونتكتم عن دورهم المُشَرِف في امتنا، فإن هذا من أعظم الإنهزام والوهن والضعف.
وعندما يكون الحديث عن قادة عظمت تضحياتهم في أرض هذه المعركة، فإن الخلافات الجانبية، والثانوية، وتعدد الرؤى في جزئيات مشروع المواجهة، يجب ان يختفي عند الحديث عنهم.
فقد تجاوزوا برمزيتهم هذه الجزئيات، عندما وصلوا إلى مستوى أن صارت مجرد أسماءٍهم ترجمةً لمشروع صراع أمة تواجه هجمة على سويداء هويتها.
ولنتحدث الآن عن معاني استشهاد أمير الإستشهاديين -نحسبه ونحسبهم كذلك- أبو مصعب الزرقاوي، تنويها لرمز من رموز أمة الجهاد، وإغاظة للصليبين والصهاينة، وللمنافقين، وللذين في قلوبهم مرض، وللذين أعماهم الحسد، وألقت الأحقاد على أبصارهم بغشاوة، فلم يروا الإبداع المتمثل في هذه الشخصية الجهاديّة الفذة.
فدعنا نسجّل عند الله تعالى، في هذه الليلة، كلمة حق نقولها فيه، ودع التاريخ يرقمها، ودعنا نحتسبها عند الله تعالى، ابتغاء ثوابه، وطلبا لرضوانه.
المعنى الأول:
إذا قيل إن العمر الحقيقي لكلّ شخصية، هي مقدار ما قدمته من إنجازات، فهذه الشخصية، أعني أبو مصعب الزرقاوي، قد ضرب مثلا على مستوى التاريخ، في بركة العمر، فهو لم يُعرف على مستوى الأمة، إلاّ مدة ثلاث سنوات في جهاده بالعراق، لكنها كانت كأنها عصارة تاريخ جيـل.
ولم يكن المحتل الصليبي وأولياءه من العلاقمة الصفويين المتآمرين على العراق، أشد حرصا على شيء منهم على القضاء على هذا الرمز الجهادي، بما يعلمون من دلالات الرموز وآثارها العظيمة على أي أمة، فقد استطاع الزرقاوي أن يرمي بأقل الإمكانات التي في يده كما قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} المشروع الصهيو-صليبي في العراق بصواعق أوقفت زحفه، وبعثرت مشروعه، وأدخلته في مستنقع الهزيمة.
ولو لــم يكن ثمة عنوان يوضع للزرقاوي في تاريخ الإسلام إلاّ هذا العنوان، لكفاه والله شرفا ورفعة.
وسيبقى هذا عنوانه رغما عن أنوف أعداءه، وسيطويهم التاريخ فينساهم، ويبقى إنجاز الزرقاوي محفورا على جبين تاريخ الإسلام مع عظماء من صنعوا تاريخه، نعــم {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُم}.
المعنى الثاني:
قد ضرب أيضا مثلا لثمرة العلم المبارك، فالرجل لم ينل شهادات يطرّز بها المكاتب، وينال بها المناصب، ولا علّق المشالح يتباهى بها على المنابر، تعلم من الوحي الذي هو حياة أمة الجهاد، ما فيه بركة الإخلاص -نحسبه كذلك- تعلمه في السجن.
وتعلم معه أن المرحلة التي يمر بها الإسلام، سهلة أن تفهم طبيعتها، وسهل أن تفهم طريق النصر فيها؛
فقضيتها الفكرية المركزية هي؛ العدوان الصيهو-صليبي على امتنا المستمر من قرن من الزمان، وقد جعل أولياءه ووكلاءه من الأنظمة الفاسدة أدوات لحرب هذه الأمّة.
وهدفه؛ استلاب حضارتها، وطمس هويتها، وتخريب ثقافتها، وتحويل بلادها، ومكتسباتها إلى ملحقات بمشروعـه الصيهو-صليبي. إنه نفس مخطط كفرة أهل الكتاب منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
وأما الحلّ؛ فهو الجهاد المبارك، الذي يجدّد في أمتنا اليوم، جهاد أمثال عمر المختار، والقسام، وكل المجاهدين الذين تصدوا للحملة الصليبية الماضية، التي زرعت في أمتنا هذا العد الصهيوني الخبيث.
وانطلق أبو مصعب يحمل شعلة العلـم، الذي كان أثره على لسانه وفكره واضحا عندما يخطب و يتكلم، فترجمه إلى واقع عملي، وخاض معاركه على أرض الرافدين، فضرب مثلاً لحملة العلم لو كانوا يعقلون.
المعنى الثالث:
ضرب مثلا للإبداع في أقسى ظروف حلبة الصراع، فالرجل استطاع أن يكون من المجموعات المقاتلة، قليلة العدد، والعدّة، وفي أرض يسيطر عليها أقوى وأعتى جيش في العالم على جميع المستويات، استطاع أن يكون منها سدا منيعا أمام تلك القوة العاتية، واستعمل من التكتيكات العسكرية ما تحت يده، فسخّر كلّ ما يمكن أن ينكى في العدوّ، وأردف ذلك بجهاد إعلامي متميّز، يلقي الوهن في عزيمة عدوه، وينفخ روح التضحية في أنصار الجهاد، وأثبت جهاده أنه مهما كان العدو متجبرا، فإنه يبقى ثمة نقاط ضعف فيه، يمكن أن تقود إلى هزيمته.
وهذه في الحقيقة هي أهـم جوانب إبداع الشخصية، أعني كيـف تصنع الأحداث الكبيرة من المعطيات المتوفرة مهما كانت ضئيلة، فإذا أردت أن تضرب مثلا لهذا الإبداع، فاذكر اسم ابو مصعب الزقاوي عنواناً له.
المعنى الرابع:
الوهن لم يكن يعرف إلى قلبه سبيلا، والعزيمة كانت في نفسه أرسخ من الجبال الراسيات، حتى إنه لم يكن يحسب لعدوّ رصد لقتله أكبر جائزة، لم يكن يحسب لها أي حساب، إذ كان متيقنا أن حارس كلّ امرئ أجله، وأنّ أجله بيد الله تعالى، وأنّ الموت لن يتأخر ثانية إن حانت ساعته، فالشأن ليس متى، ولكن كيف يموت الرجل.
فهذه كانت أعظم جوانب شخصيّته، وهذا هو حجر الأساس في معادلة النصر بالنسبة لأمّتنا، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
وأمّتنا لاينقصها اليوم رجالٌ، ولا مالٌ، ولا إمكانات مادية، بل بلاؤها من شيء واحد، ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الوهن، حبّ الدنيا، وكراهية الموت.
فمتى تخلّصَت منه انتصرت بإذن الله تعالى.
المعنى الخامس:
أن الرجل ذكر الأمّة بحقيقة مفهوم القيادة في الإسلام، والذي نسيته من زمن طويل، فقد أسفر عن وجهه الكريم، وقاد معاركه بنفسه، وتحدّى عدوّه، وهو بين أظهرهم، يتحدّاهم، مستبشرا بالشهادة، مُرحباً بالموت في سبيل قضيته، زاهداً في الدنيا، مؤثرا إحياء أمته على إبقاء نفسه.
فكأنّ حاله يقول؛ عندما يكون قادتكم بهذه المثابة، ستنالون العزّة.
المعنى السادس:
تأمّلوا هذا الإنجاز الكبير الذي يحمله جثمانه!
عجباً والله لك يا أبا مصعب، أربعين مسلحاً يحرسون جثمانك، وأنت مسجّى في أرض الرافدين، ثم يخشون من دخول الجثمان إلى أرض قومك، فيحدث ثورةً في الناس، وتنقاد إليه أفئدتهم، ويبقى قبره يذكّر الأمّة ببطلها، ويهيّج النفوس إلى كسر أغلال الرقّ؛ رقّ الإنظمة، والتطلع إلى عزّة الجهاد و نهضة الأمة، وكذا خافوا من دفنـك جهرا في الأرض التي سقيت شرفها بدماءك، فما دفنت إلا سرا!
بينما هؤلاء الزعماء قــد أُلقي في شعوب الأمة بغضُهم، فلم تنفعهم جيوشهم، وحرسهم، وثرواتهم، ومات ذِكرهم بموتهم، وتعفّنـت جثثهم التي حملت عفن حياتهم المليئة بالخيانة.
المعنى السابع:
كان الزرقاوي يلهج بالشهادة، ويطلبها، ويدعو إليها، ويحضّ المجاهدين عليها، فأظهر الله صدقه باستشهاده، ولنتأمّل كيف أظهر الله تعالى صورته للعالم، ووجهه مشرق، وعليها لمحة الراحة بعد العناء، والرضا بعد الكرب.
فكأنّ حال لسان حاله يقول:
فياربِّ إن حانت وفاتي فلا تكن *** على شرجع يُعلى بخضر المطارف
ولكنّ قبري بطنُ نسر مقيلـُه *** بجوّ السمــاء في نسور عواكف
وأُمسي شهيدا ثاويا في عصابة *** يصابون في فـجّ من الأرض خائف
فوارس من بغداد ألّف بينهـم *** تقى الله، نزّالون، عند التزاحـف
إذا فارقوا دنياهمُ فارقوا الأذى *** وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
وبهذا أحيا بإستشهاده -نحسبه كذلك- مسيرة مشروعه، وختم عليه بختم النجاح، وسقاه سقيا النصر.
المعنى الثامن:
لنتأمّل كيف أنه لم يفرح بإستشهاده إلاّ الصهاينة، والصليبيون، والعلاقمة الصفيون، والمنافقون، من حمير الحملة الصليبية، فهذه والله آية على صدقه، وعظمة شخصيته، ومن العجائب التي تذكرنا بأمجاد الأمة فيما مضى من تاريخ عزتها، أن شخصا حدثني عن صهره الذي قدم من أمريكا، أنه فوجىء بأولاده يخبرونه أن المعلمة في المدرسة الأمريكية أحضرت كعكة عليها صورة الزرقاوي مبشرة التلاميذ الصغار بمصرعه! وأنّه كان يسمع الأمريكيين يخوفون أولادهم عند النوم بأن الزرقاوي سيأتيهم!
فسبحان الله، ورحمك الله يا أبا مصعب.
وأما الذين كانوا يتهمونه بقتل الأبرياء، فما أغباهم!!!، إذ جعلوا مستند تهمتهم أبواق الصليبية، ودعاوى وافتراءات إعلام العلاقمة مطايا الإحتلال الصلبيبي، فالرجل كان يصرح أنه لايستهدف إلاّ المحتلّ وأعوانه، وقد لهجت أشرطته بخوفه على المسلمين، وعلى أهل السنة، وغيرتِه على دماءهم، وتمنّيه أن لو قطع جسده إربا، ولا يقتل مسلم بغير حق، أو تمس امرأة مسلمة بسوء، وأنه لايعنيه إلاّ تطهير أرض الإسلام من دنس المحتل، ثم العراق هــو لأهله.
والحقيقة الجلية أن ما يجري اليوم على ارض الرافدين ليس هو حرب طائفية، أشعلها الزرقاوي، فهذا كذب زوره المحتلون وأعوانهم، إنه عدوان صليبي علقمي صفوي على مسلمي العراق، حتى شيعة العراق من كان منهم شريفا رفض المؤامرة الصليبية الصفوية لتقسيمه قـد اصطلى بنار هذا العدوان البغيض الذي يهدف إلى تقسيم العراق وإضعافه خدمة للصهاينة والغرب الصليبي الحاقد على أمّتنا.
والذين سفكوا دماء العراقيين هم فرق الموت التابعة لداخلية الدويلة الصفوية النابتة في تحت راية الصليب في العراق، كما صرح الشيخ حارث الضاري أن في ذمة الجعفري أكثر من أربعين ألفا من سنة العراق قَتَلَهم، ولا يزالون في إزدياد بسبب حملة الإبادة التي تمارسها أجهزة دولة الصفوية في العراق تحت إشراف الصليب.
وها هي تزداد يوما بعد يوم بعد استشهاد الزقاوي في فضيحة تفضح أكاذيب المحتل واعوانه، وتبين أنهم هم من يذبح أهل العراق في الظلام، ويرمي التهمة على غيره في النهار.
المعنى التاسع:
لا ننسى هنا أن ننوّه بدور زوجته المجاهدة التي رزقها الله الشهادة معه، فقد كانت هذه المرأة -والله اعلم- أشجع امرأة على وجه البسيطة، إذ رضيت أن تكون قرينة لأشدّ المطلوبين خطرا لإمبراطور الشر الصليبي وللصهاينة، وهي تعلم أن أيّةَ صاروخ قد يحرقها في أيّ لحظة، والموت متربص بـمن هو بجانبها في كلّ حين، وهو زوجها المجاهد أبو مصعب الزرقاوي.
وأكبر جيوش العالم، وأشدها قوة، وأعظمها عتادا، يبحث عنه في كل زاوية من أرض الرافدين، ليمزق جسده، وقـد امتلأ حنقا وغضبا عليه، من كثـرة ما أهرق من دماء هذا الجيش الكافر، وأصابهم بالمقاتل والجراح.
فرحمها الله، و نسأل الله سبحانه و تعالى أن يتقبلها شهيداً و أن يسكنها الفردوس الأعلى.
المعنى العاشر والأخير:
استشهد القائد أبو مصعب رحمه الله فمضى راشدا منصورا شهيدا إن شاء الله تعالى، وحمل رايته أبو حمزة، وإن استشهد سيحمل رايته غيره، ولن تسقط هذه الراية، لأنّ عاقد لواءها محمد صلى الله عليه وسلم، انتقل إلى الرفيق الأعلى، وقد أسلمها إلى أسامة ليقاتل الروم، وها هي عادت جذعة من جديد، حتى بأسماءها، وستبقى بقول الصادق المصدوق: (لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) رواه مسلم.
وهذا الجهاد الذي يقدم الرموز قرابين لله تعالى وهم راضون مستبشرون كارهون أن يبقوا في هذه الدنيا الحقيرة، مؤثرون رضا الله تعالى على كل ما سواه، جدير بنصر الله تعالى بإذنه.
وهذا الجهاد الذي يسقي شجرة النصر بدماء الشهداء، لن يوقفه شيء، وسيبقى شامخا، ويزداد، ويعلو، ويبلغ هدفه، وتخفق رايات نصره في عواصم الإسلام، ويوحّد الأمّـة بإمام واحد يُحَكِم شريعة الله تعالى في أرضـه، ويعيد إلى المسلمين عزتهّم، ويبني صرح مجدهم عاليا في السماء، ويحقّق فيهم قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وهذا الوعد قادم لامحالة، وما نراه اليوم من إرهاصات النهضة الإسلامية العارمة، على مستوى اختيار الشعوب للإسلام، وسيطرة الخطاب الإسلامي على عامة الأمة، وتقديمها رموز الجهاد الإسلامي وحبها للجهاد، واختيارها طريقه، كلّ ذلك دليل على أن الزمان قد استدار، ورياح التغيير هبت.
ولهذا قد رأتها الأرواح بالرؤى المبشرات، فهي قريبة والله قريبة.
ولم نعد نحمل هَمْ التغيير نحو الإسلام، لا والله، فهو قادم، لكننا نحمل هَمْ إجتماع الكلمة فيه، والتسامي عن حظوظ النفوس، وإيثار مصلحة الأمة على كل ما سواها،
لكننا نسأل الله تعالى أن يلهم قادة الأمة، سواء قادة الجهاد، أو قادة الفكر والعلم والرأي، أو قادة الدعوة والصحوة، أن مصير الأمّة يجب أن لايقبل المساومات، ولا يدخل في حسابات الأشخاص والأحزاب.
فهي أمّة الله تعالى؛ هو سبحانه الذي بعثها رحمة للعالمين، وهي نعمة لكلّ البشرية، يتمثل فيها سبيل الهدى، ويتجلى طريق الحق، وتترجم حضارة العدل والفضائل، وقد غدت البشرية بأمس الحاجة إلى أن تتولى أمتنا مسؤوليتها الحضارية التاريخية.
فالواجب اجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين، واتحاد فصائل الجهاد، وجماعات الدعوة، وتوحّد الأهداف، والتغاضي عن بنيّات الطريق، فلنتعاون فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضـا فيما اختلفنا فيه كما قال العقلاء و الحكماء.
ولنمض أيها الأخوة نحو الهدف فقد اقتربنا منه، ولنحذر مداخل الشيطان، ولنضع نصب أعيينا أن نلحق الهزيمة بهذه العدوّ الذي يستهدف أغلى ما لدينا، رسالة الإسلام الخالدة، التي استأمننا عليها محمد صلى الله عليه وسلم، وحملها إلينا أصحابه، وعبر الأجيال وصلت إلينا لنحملها إلى من بعدنا، كما وردت إلينا.
فلنبذل الغالي و الرخيص لنحفظ هذه الأمانة، ونرفعها عاليا لتمضي في مسيرة التاريخ إلى من بعدنا.
سائلين الله تعالى أن يكتبنا فيمن نصر دينه، وإلا فهو منصور بنـا أو بغيرنا، وأن يشرفنا أن نكون ممن وقف في صف أولياءه المجاهدين، وإلا فهم ماضون إلى ربهم الذي يستعملهم في مرضاته.
فاللهم استعملنا ولا تستبدلنا..
وأراني أسمــو بسعيي ووعيي *** عن جزاء من معدن الأرض بخس
حسب نفسي من الجزاء شعوري *** أنني فـي الإله أبذل نفســي
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
15 جمادى الثاني 1427 هـ
11-7-2006 م
__________________
الحمد لله ربّ العالمين، أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له وليّ المتقين، وأشهد أنّ محمداً صلـــى الله عليه وسلـم عبده ورسوله، قائد المجاهدين، وسيد الغـرّ المحجّلين..
وبعــد:
إنّ حكاية جهاد أمّتنا المشرف اليوم، هي والله حكاية إنتصار رايات الحق الظافرة، المتجلّلة بالآيات الباهرة، وهي ذاتها قصة إنتصار الحق الأوحد الذي يحمله الإسلام، في معركته مع باطل الجاهلية، في كلّ زمان و مكان.
حيث تتراجع المعايير المادية، فتتحوّل إلى آيات تثبت أن هذه المعركة محسومة النتيجة قبل أن تبدأ، فالحقّ وأهله منصورون، والعاقبة لهم مقطوعٌ بها، ولكنّ الشأنّ فقط، فيمن يستعمله الله تعالى في هذه المعركة، وفيمن يُبعد عن الصفّ، أعاذنا الله سبحانه و تعالى من ذلك.
و قبل أن أبدأ سأضربْ مثلاً من التاريخ، للمنهزمين الذين يقولون كيف تقاتلون عدواً لاطاقة لأحدٍ بقتاله! كما قال المنافقون و الذين في قلوبهم مرضٌ من قبل: {غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُم}.
فقد حكى لنا التاريخ قصة فيها عبرة تذكّرنا بقوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّـهِ}.
فمن أحداث التاريخ ما ذكره المؤرخون الإسلاميون أنه خرج ارمانوس ملك الروم عام 463هـ، إلى بلاد المسلمين في مائتي ألف مقاتل، ومعه خليط من الروم، والفرنجة، والروس، والصرب، والأرمن، والبوشناق، وسلك سبيله إلى العراق، وقد أقطع من غروره، بطارقته الأرض حتى بغداد، وعين له نائبا على بغداد أيضا، وذلك كله قبل أن يسير إليها، وقد عزم أن يبيد الإسلام وأهله، وإذا انتهى من العراق مال إلى الشام.
ووصل الخبر إلى القائد الإسلامي المجاهد ألب أرسلان، وكان في أذربيجان حينئذٍ فلم يتمكن من جمع الجند، ولم يكن معه إلا خمسةَ عشر ألفا فقط، فانطلق بهم إلى أرمانوس الذي كان قد نزل في ملاذ كرد في تركيا.
وقال ألب أرسلان: إنّي أقاتل محتسبا صابرا، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملكشاه ولي عهدي، وجد في السير، وأرسل مقدمته أمامه، فالتقت بمقدمة الروس، وكان عددهم عشرة آلاف فهُزم الروس، بإذن الله، وأُسر قائدهم.
واقترب الجمعان، وأرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب الهدنة، فقد خافه لكثرة من معه، ذلك أن فمن مع ملك الروم خمسة عشر ضعفا أكثر من جيش المسلمين، فرد عليه ملك الروم لا هدنة إلا في الري.
فاستشار ملك المسلمين إمام الجند أبا نصر محمد بن عبدالملك البخاري، فأجابه:
إنك تقاتل عن وعد الله بنصره، وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب بإسمك هذا الفتح، فالقهَم يوم الجمعة بعد الزوال، في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.
فلما جاء يوم الجمعة وحان وقت الزوال فصلى أبو نصر بالناس، وبكى السلطان، وبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معـه بعد الصلاة، وقال لهم : من أراد الإنصراف، فلينصرف فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وإنما جهاد ورغبة في لقاء الله.
ثم ألقى القوس و النشاب، وأخذ السيف، ولبس البياض، وتحنط، وقال: (إن قُتِلت فهذا كفني)، وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما اقترب منهم ترجّل، ومرّغ وجهه في التراب، وبكى وأكثر من الدعاء، وطلب النصر من الله، ثم ركب، وحمل على الروم، وحمل المسلمون حتى وصلوا إلى وسط الروم وحجز الغبار بينهم.
وما هي إلا جولة حتى أنزل الله نصره، وهُزِمَ الروم، ومنحوا المسلمين أكتافهم، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، حتى امتلأت الأرض بالجثث، وقدر عدد القتلى بمائة وخمسين ألفا، أي أن كل مسلم قتل عشرة من الروم، ووقع ملك الروم وبطارقته جميعا أسرى بين يدي المسلمين.
واليوم و غداً، و إلى أن يلاقي المؤمنون مع عيسى عليه السلام، جحافل الباطل التي تملأ الأرض آنذاك، فتضمحل أمام صولة الإسلام، ستبقى هذه هي المعادلة الوحيدة في دائرة أرض المعركة؛ النصر أو الشهادة، والعاقبة محسومة لنا.
وفي جهاد أمتنا اليوم، آياتٌ كثيرة، تجلِّي هذه الحقيقة العظيمة؛ آياتٌ في الأحداث، وآياتٌ في الأشخاص.
والأشخاص العظام هم الذين يُجري الله تعالى على أيدهم الأحداث العظيمة، فيصنعون تاريخ الأمم.
ولهذا كان الحديث عن رموز الأمة، في غاية الأهمية، وتتضاعف أهميته، عندما تكون هذه الرموز في حال الجهاد، وتتضاعف أكثر وأكثر عندما تكون الأمة في جهاد تحدد عاقبتُه مصيرها، كما هو اليوم.
فعنوان المرحلة التي تمر بأمّتنا، هجمة صهيو-صليبية تستهدف كلّ مقدساتنا، شديدة المكر، بالغة القوة، مسخرةٌ لها وسائلُ ومادياتٌ على مستوى إمكانات الدول، إستطاعت أن توظِّف حتى الخطاب الديني -المزيف بلا ريب- ليسهّل وصولها إلى أهدافها الخبيثة.
ويقابل هذه الهجمة مشروع واحد، هو مشروع الجهاد العالمي، المنطلق من شعوب امتنا، فالدول سُخِرت للحملة الصهيو-صليبة، بما لم يعهد مثله في تاريخ الإسلام.
والمشرع الجهادي يشمل جهاد اللسان، وجهاد السنان.
وهدفه صدّ هذه الهجمة، وحماية الإسلام من آثارها المدمرة.
والمعركة تدور رحاها اليوم في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وغيرها.
وهذه المعركة يقودها رجالٌ عظماء، كما ذكرنا أن الشخصيات العظيمة، هي التي تصنع التاريخ، ويجب علينا أن نشير إلى هؤلاء الرموز بما يستحقونه، ونضعهم في مكانتهم، ونلقي الضوء على إنجازاتهم، وجوانب العبقرية والتميّز فيهم.
يجب أن نصنع نحن ذلك، انطلاقا من فهمنا للمعركة وطبيعتها، ولانسمح أبدا لأعداءنا أن يفرضوا علينا بالترهيب أن نلغي رموزنا، ونتكتم عن دورهم المُشَرِف في امتنا، فإن هذا من أعظم الإنهزام والوهن والضعف.
وعندما يكون الحديث عن قادة عظمت تضحياتهم في أرض هذه المعركة، فإن الخلافات الجانبية، والثانوية، وتعدد الرؤى في جزئيات مشروع المواجهة، يجب ان يختفي عند الحديث عنهم.
فقد تجاوزوا برمزيتهم هذه الجزئيات، عندما وصلوا إلى مستوى أن صارت مجرد أسماءٍهم ترجمةً لمشروع صراع أمة تواجه هجمة على سويداء هويتها.
ولنتحدث الآن عن معاني استشهاد أمير الإستشهاديين -نحسبه ونحسبهم كذلك- أبو مصعب الزرقاوي، تنويها لرمز من رموز أمة الجهاد، وإغاظة للصليبين والصهاينة، وللمنافقين، وللذين في قلوبهم مرض، وللذين أعماهم الحسد، وألقت الأحقاد على أبصارهم بغشاوة، فلم يروا الإبداع المتمثل في هذه الشخصية الجهاديّة الفذة.
فدعنا نسجّل عند الله تعالى، في هذه الليلة، كلمة حق نقولها فيه، ودع التاريخ يرقمها، ودعنا نحتسبها عند الله تعالى، ابتغاء ثوابه، وطلبا لرضوانه.
المعنى الأول:
إذا قيل إن العمر الحقيقي لكلّ شخصية، هي مقدار ما قدمته من إنجازات، فهذه الشخصية، أعني أبو مصعب الزرقاوي، قد ضرب مثلا على مستوى التاريخ، في بركة العمر، فهو لم يُعرف على مستوى الأمة، إلاّ مدة ثلاث سنوات في جهاده بالعراق، لكنها كانت كأنها عصارة تاريخ جيـل.
ولم يكن المحتل الصليبي وأولياءه من العلاقمة الصفويين المتآمرين على العراق، أشد حرصا على شيء منهم على القضاء على هذا الرمز الجهادي، بما يعلمون من دلالات الرموز وآثارها العظيمة على أي أمة، فقد استطاع الزرقاوي أن يرمي بأقل الإمكانات التي في يده كما قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} المشروع الصهيو-صليبي في العراق بصواعق أوقفت زحفه، وبعثرت مشروعه، وأدخلته في مستنقع الهزيمة.
ولو لــم يكن ثمة عنوان يوضع للزرقاوي في تاريخ الإسلام إلاّ هذا العنوان، لكفاه والله شرفا ورفعة.
وسيبقى هذا عنوانه رغما عن أنوف أعداءه، وسيطويهم التاريخ فينساهم، ويبقى إنجاز الزرقاوي محفورا على جبين تاريخ الإسلام مع عظماء من صنعوا تاريخه، نعــم {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُم}.
المعنى الثاني:
قد ضرب أيضا مثلا لثمرة العلم المبارك، فالرجل لم ينل شهادات يطرّز بها المكاتب، وينال بها المناصب، ولا علّق المشالح يتباهى بها على المنابر، تعلم من الوحي الذي هو حياة أمة الجهاد، ما فيه بركة الإخلاص -نحسبه كذلك- تعلمه في السجن.
وتعلم معه أن المرحلة التي يمر بها الإسلام، سهلة أن تفهم طبيعتها، وسهل أن تفهم طريق النصر فيها؛
فقضيتها الفكرية المركزية هي؛ العدوان الصيهو-صليبي على امتنا المستمر من قرن من الزمان، وقد جعل أولياءه ووكلاءه من الأنظمة الفاسدة أدوات لحرب هذه الأمّة.
وهدفه؛ استلاب حضارتها، وطمس هويتها، وتخريب ثقافتها، وتحويل بلادها، ومكتسباتها إلى ملحقات بمشروعـه الصيهو-صليبي. إنه نفس مخطط كفرة أهل الكتاب منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
وأما الحلّ؛ فهو الجهاد المبارك، الذي يجدّد في أمتنا اليوم، جهاد أمثال عمر المختار، والقسام، وكل المجاهدين الذين تصدوا للحملة الصليبية الماضية، التي زرعت في أمتنا هذا العد الصهيوني الخبيث.
وانطلق أبو مصعب يحمل شعلة العلـم، الذي كان أثره على لسانه وفكره واضحا عندما يخطب و يتكلم، فترجمه إلى واقع عملي، وخاض معاركه على أرض الرافدين، فضرب مثلاً لحملة العلم لو كانوا يعقلون.
المعنى الثالث:
ضرب مثلا للإبداع في أقسى ظروف حلبة الصراع، فالرجل استطاع أن يكون من المجموعات المقاتلة، قليلة العدد، والعدّة، وفي أرض يسيطر عليها أقوى وأعتى جيش في العالم على جميع المستويات، استطاع أن يكون منها سدا منيعا أمام تلك القوة العاتية، واستعمل من التكتيكات العسكرية ما تحت يده، فسخّر كلّ ما يمكن أن ينكى في العدوّ، وأردف ذلك بجهاد إعلامي متميّز، يلقي الوهن في عزيمة عدوه، وينفخ روح التضحية في أنصار الجهاد، وأثبت جهاده أنه مهما كان العدو متجبرا، فإنه يبقى ثمة نقاط ضعف فيه، يمكن أن تقود إلى هزيمته.
وهذه في الحقيقة هي أهـم جوانب إبداع الشخصية، أعني كيـف تصنع الأحداث الكبيرة من المعطيات المتوفرة مهما كانت ضئيلة، فإذا أردت أن تضرب مثلا لهذا الإبداع، فاذكر اسم ابو مصعب الزقاوي عنواناً له.
المعنى الرابع:
الوهن لم يكن يعرف إلى قلبه سبيلا، والعزيمة كانت في نفسه أرسخ من الجبال الراسيات، حتى إنه لم يكن يحسب لعدوّ رصد لقتله أكبر جائزة، لم يكن يحسب لها أي حساب، إذ كان متيقنا أن حارس كلّ امرئ أجله، وأنّ أجله بيد الله تعالى، وأنّ الموت لن يتأخر ثانية إن حانت ساعته، فالشأن ليس متى، ولكن كيف يموت الرجل.
فهذه كانت أعظم جوانب شخصيّته، وهذا هو حجر الأساس في معادلة النصر بالنسبة لأمّتنا، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
وأمّتنا لاينقصها اليوم رجالٌ، ولا مالٌ، ولا إمكانات مادية، بل بلاؤها من شيء واحد، ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الوهن، حبّ الدنيا، وكراهية الموت.
فمتى تخلّصَت منه انتصرت بإذن الله تعالى.
المعنى الخامس:
أن الرجل ذكر الأمّة بحقيقة مفهوم القيادة في الإسلام، والذي نسيته من زمن طويل، فقد أسفر عن وجهه الكريم، وقاد معاركه بنفسه، وتحدّى عدوّه، وهو بين أظهرهم، يتحدّاهم، مستبشرا بالشهادة، مُرحباً بالموت في سبيل قضيته، زاهداً في الدنيا، مؤثرا إحياء أمته على إبقاء نفسه.
فكأنّ حاله يقول؛ عندما يكون قادتكم بهذه المثابة، ستنالون العزّة.
المعنى السادس:
تأمّلوا هذا الإنجاز الكبير الذي يحمله جثمانه!
عجباً والله لك يا أبا مصعب، أربعين مسلحاً يحرسون جثمانك، وأنت مسجّى في أرض الرافدين، ثم يخشون من دخول الجثمان إلى أرض قومك، فيحدث ثورةً في الناس، وتنقاد إليه أفئدتهم، ويبقى قبره يذكّر الأمّة ببطلها، ويهيّج النفوس إلى كسر أغلال الرقّ؛ رقّ الإنظمة، والتطلع إلى عزّة الجهاد و نهضة الأمة، وكذا خافوا من دفنـك جهرا في الأرض التي سقيت شرفها بدماءك، فما دفنت إلا سرا!
بينما هؤلاء الزعماء قــد أُلقي في شعوب الأمة بغضُهم، فلم تنفعهم جيوشهم، وحرسهم، وثرواتهم، ومات ذِكرهم بموتهم، وتعفّنـت جثثهم التي حملت عفن حياتهم المليئة بالخيانة.
المعنى السابع:
كان الزرقاوي يلهج بالشهادة، ويطلبها، ويدعو إليها، ويحضّ المجاهدين عليها، فأظهر الله صدقه باستشهاده، ولنتأمّل كيف أظهر الله تعالى صورته للعالم، ووجهه مشرق، وعليها لمحة الراحة بعد العناء، والرضا بعد الكرب.
فكأنّ حال لسان حاله يقول:
فياربِّ إن حانت وفاتي فلا تكن *** على شرجع يُعلى بخضر المطارف
ولكنّ قبري بطنُ نسر مقيلـُه *** بجوّ السمــاء في نسور عواكف
وأُمسي شهيدا ثاويا في عصابة *** يصابون في فـجّ من الأرض خائف
فوارس من بغداد ألّف بينهـم *** تقى الله، نزّالون، عند التزاحـف
إذا فارقوا دنياهمُ فارقوا الأذى *** وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
وبهذا أحيا بإستشهاده -نحسبه كذلك- مسيرة مشروعه، وختم عليه بختم النجاح، وسقاه سقيا النصر.
المعنى الثامن:
لنتأمّل كيف أنه لم يفرح بإستشهاده إلاّ الصهاينة، والصليبيون، والعلاقمة الصفيون، والمنافقون، من حمير الحملة الصليبية، فهذه والله آية على صدقه، وعظمة شخصيته، ومن العجائب التي تذكرنا بأمجاد الأمة فيما مضى من تاريخ عزتها، أن شخصا حدثني عن صهره الذي قدم من أمريكا، أنه فوجىء بأولاده يخبرونه أن المعلمة في المدرسة الأمريكية أحضرت كعكة عليها صورة الزرقاوي مبشرة التلاميذ الصغار بمصرعه! وأنّه كان يسمع الأمريكيين يخوفون أولادهم عند النوم بأن الزرقاوي سيأتيهم!
فسبحان الله، ورحمك الله يا أبا مصعب.
وأما الذين كانوا يتهمونه بقتل الأبرياء، فما أغباهم!!!، إذ جعلوا مستند تهمتهم أبواق الصليبية، ودعاوى وافتراءات إعلام العلاقمة مطايا الإحتلال الصلبيبي، فالرجل كان يصرح أنه لايستهدف إلاّ المحتلّ وأعوانه، وقد لهجت أشرطته بخوفه على المسلمين، وعلى أهل السنة، وغيرتِه على دماءهم، وتمنّيه أن لو قطع جسده إربا، ولا يقتل مسلم بغير حق، أو تمس امرأة مسلمة بسوء، وأنه لايعنيه إلاّ تطهير أرض الإسلام من دنس المحتل، ثم العراق هــو لأهله.
والحقيقة الجلية أن ما يجري اليوم على ارض الرافدين ليس هو حرب طائفية، أشعلها الزرقاوي، فهذا كذب زوره المحتلون وأعوانهم، إنه عدوان صليبي علقمي صفوي على مسلمي العراق، حتى شيعة العراق من كان منهم شريفا رفض المؤامرة الصليبية الصفوية لتقسيمه قـد اصطلى بنار هذا العدوان البغيض الذي يهدف إلى تقسيم العراق وإضعافه خدمة للصهاينة والغرب الصليبي الحاقد على أمّتنا.
والذين سفكوا دماء العراقيين هم فرق الموت التابعة لداخلية الدويلة الصفوية النابتة في تحت راية الصليب في العراق، كما صرح الشيخ حارث الضاري أن في ذمة الجعفري أكثر من أربعين ألفا من سنة العراق قَتَلَهم، ولا يزالون في إزدياد بسبب حملة الإبادة التي تمارسها أجهزة دولة الصفوية في العراق تحت إشراف الصليب.
وها هي تزداد يوما بعد يوم بعد استشهاد الزقاوي في فضيحة تفضح أكاذيب المحتل واعوانه، وتبين أنهم هم من يذبح أهل العراق في الظلام، ويرمي التهمة على غيره في النهار.
المعنى التاسع:
لا ننسى هنا أن ننوّه بدور زوجته المجاهدة التي رزقها الله الشهادة معه، فقد كانت هذه المرأة -والله اعلم- أشجع امرأة على وجه البسيطة، إذ رضيت أن تكون قرينة لأشدّ المطلوبين خطرا لإمبراطور الشر الصليبي وللصهاينة، وهي تعلم أن أيّةَ صاروخ قد يحرقها في أيّ لحظة، والموت متربص بـمن هو بجانبها في كلّ حين، وهو زوجها المجاهد أبو مصعب الزرقاوي.
وأكبر جيوش العالم، وأشدها قوة، وأعظمها عتادا، يبحث عنه في كل زاوية من أرض الرافدين، ليمزق جسده، وقـد امتلأ حنقا وغضبا عليه، من كثـرة ما أهرق من دماء هذا الجيش الكافر، وأصابهم بالمقاتل والجراح.
فرحمها الله، و نسأل الله سبحانه و تعالى أن يتقبلها شهيداً و أن يسكنها الفردوس الأعلى.
المعنى العاشر والأخير:
استشهد القائد أبو مصعب رحمه الله فمضى راشدا منصورا شهيدا إن شاء الله تعالى، وحمل رايته أبو حمزة، وإن استشهد سيحمل رايته غيره، ولن تسقط هذه الراية، لأنّ عاقد لواءها محمد صلى الله عليه وسلم، انتقل إلى الرفيق الأعلى، وقد أسلمها إلى أسامة ليقاتل الروم، وها هي عادت جذعة من جديد، حتى بأسماءها، وستبقى بقول الصادق المصدوق: (لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) رواه مسلم.
وهذا الجهاد الذي يقدم الرموز قرابين لله تعالى وهم راضون مستبشرون كارهون أن يبقوا في هذه الدنيا الحقيرة، مؤثرون رضا الله تعالى على كل ما سواه، جدير بنصر الله تعالى بإذنه.
وهذا الجهاد الذي يسقي شجرة النصر بدماء الشهداء، لن يوقفه شيء، وسيبقى شامخا، ويزداد، ويعلو، ويبلغ هدفه، وتخفق رايات نصره في عواصم الإسلام، ويوحّد الأمّـة بإمام واحد يُحَكِم شريعة الله تعالى في أرضـه، ويعيد إلى المسلمين عزتهّم، ويبني صرح مجدهم عاليا في السماء، ويحقّق فيهم قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وهذا الوعد قادم لامحالة، وما نراه اليوم من إرهاصات النهضة الإسلامية العارمة، على مستوى اختيار الشعوب للإسلام، وسيطرة الخطاب الإسلامي على عامة الأمة، وتقديمها رموز الجهاد الإسلامي وحبها للجهاد، واختيارها طريقه، كلّ ذلك دليل على أن الزمان قد استدار، ورياح التغيير هبت.
ولهذا قد رأتها الأرواح بالرؤى المبشرات، فهي قريبة والله قريبة.
ولم نعد نحمل هَمْ التغيير نحو الإسلام، لا والله، فهو قادم، لكننا نحمل هَمْ إجتماع الكلمة فيه، والتسامي عن حظوظ النفوس، وإيثار مصلحة الأمة على كل ما سواها،
لكننا نسأل الله تعالى أن يلهم قادة الأمة، سواء قادة الجهاد، أو قادة الفكر والعلم والرأي، أو قادة الدعوة والصحوة، أن مصير الأمّة يجب أن لايقبل المساومات، ولا يدخل في حسابات الأشخاص والأحزاب.
فهي أمّة الله تعالى؛ هو سبحانه الذي بعثها رحمة للعالمين، وهي نعمة لكلّ البشرية، يتمثل فيها سبيل الهدى، ويتجلى طريق الحق، وتترجم حضارة العدل والفضائل، وقد غدت البشرية بأمس الحاجة إلى أن تتولى أمتنا مسؤوليتها الحضارية التاريخية.
فالواجب اجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين، واتحاد فصائل الجهاد، وجماعات الدعوة، وتوحّد الأهداف، والتغاضي عن بنيّات الطريق، فلنتعاون فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضـا فيما اختلفنا فيه كما قال العقلاء و الحكماء.
ولنمض أيها الأخوة نحو الهدف فقد اقتربنا منه، ولنحذر مداخل الشيطان، ولنضع نصب أعيينا أن نلحق الهزيمة بهذه العدوّ الذي يستهدف أغلى ما لدينا، رسالة الإسلام الخالدة، التي استأمننا عليها محمد صلى الله عليه وسلم، وحملها إلينا أصحابه، وعبر الأجيال وصلت إلينا لنحملها إلى من بعدنا، كما وردت إلينا.
فلنبذل الغالي و الرخيص لنحفظ هذه الأمانة، ونرفعها عاليا لتمضي في مسيرة التاريخ إلى من بعدنا.
سائلين الله تعالى أن يكتبنا فيمن نصر دينه، وإلا فهو منصور بنـا أو بغيرنا، وأن يشرفنا أن نكون ممن وقف في صف أولياءه المجاهدين، وإلا فهم ماضون إلى ربهم الذي يستعملهم في مرضاته.
فاللهم استعملنا ولا تستبدلنا..
وأراني أسمــو بسعيي ووعيي *** عن جزاء من معدن الأرض بخس
حسب نفسي من الجزاء شعوري *** أنني فـي الإله أبذل نفســي
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
15 جمادى الثاني 1427 هـ
11-7-2006 م
__________________
تعليق