ذكرى ارتحال السيد فضل الله رائد الوحدة الإسلامية
عندما أذكر السيّد محمد حسين فضل الله، أذكر السّماحة الإسلاميّة المتمثِّلة لا في الذّات الإنسانيّة وحسب، وإنّما أذكرها في عقلٍ هائلٍ جبّار، يكاد يكون متفرّداً لا عن عقول آلاف الأشخاص، بل ربَّما عن عقول عشرات آلاف الأشخاص الّذين مررت بهم منذ طفولتي وحتّى اليوم.. كان لسماحته خصوصيّةٌ بين هذه العقول، خصوصيّةٌ تجذبك إليه، وتستمتع بالحديث معه، وتستعيد مرّات ومرّات ـ كلّما خلدت إلى نفسك ـ الجملَ والعبارات الّتي سمعتها منه.
الوحدويُّ الصَّادق:
وقد كانت الوحدة الإسلاميَّة محور عمل سماحة السيِّد في حياته كلِّها، وقد ألقى قصيدته المعروفة في حفل تأبين السيِّد محسن الأمين(رحمه الله)، حيث دعا فيها المسلمين إلى الوحدة، واستمرّ يعمل بها إلى أن لَقِيَ ربَّه سبحانه وتعالى.
وقد تميّز السيّد محمد حسين فضل الله بصدق اللّهجة، حيث إنّي ما سمعتُ منه كلامَين قطّ في مسألةِ الوحدة، وما رأيته في مرَّة غيّر الكلام الّذي قاله في المرَّة السّابقة، وإنَّما كان يزيده تأكيداً وإيضاحاً ويعمل بمقتضاه. كنتُ أسمعه في خُطب الجمعة، وأسمع تسجيلات دروسه في تفسير القرآن، وأقرأ فتاواه على موقعه "بيّنات"، أو ما يتكرّم ويُرسله إليَّ عن طريق مكتبه، فأرى رجُلاً واحداً، لم أرَ فيه رَجُلَين أبداً.
في أيَّام المحنة الّتي تعرَّض لها ظلماً، تصرَّف بما يليق بالعلماء أن يتصرَّفوا، وهذه شهادةٌ أشهد بها، وأظنُّ أنَّ معظمكم يعرف ما تعرَّض له أكثر منّي، لكنّي وقفتُ عليها بنفسي، وأشهدُ له بها وهو بين يدي ربِّ العالمين.. كانت الوحدة الإسلاميّة عنده هي بديل التّشرذم، وهي سبيل مقاومة الضّعف السياسيّ والاجتماعيّ، وهي الأمل الّذي يُعمَل من أجله، ويُسعى إلى تحقيقه، ويُدعى إليه في أوساط الإسلاميّين الحركيّين والسياسيّين الوطنيّين في العالم الإسلاميّ كلّه.
تميّزٌ وريادة:
لقد أدرك العلماء الواعون، الساعون للوحدة، منذ اللّحظة الأولى، أنَّهم قد لا يستطيعون تحقيق الوحدة السياسيّة، لأنّهم لا يملكون أدواتها، ولا يستطيعون أن يدخلوا في مجالها، لذا، فإنّهم اختاروا مجالهم الّذي ينجحون فيه، وملعبهم الّذي يستطيعون فيه إصابة أهدافهم كلّها، وهو الملعب الفكريّ والثّقافيّ والفقهيّ والدّينيّ، فسعوا من خلاله إلى وحدة هذه الأمّة..
إنَّ هؤلاء العلماء تجنّبوا الأهواء المحليّة والمطامع الذاتيّة والرغبات الشخصيّة، وعملوا عملاً مهمّاً صادقاً مخلصاً على حفظ القضيّة العامّة للأمّة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92]، وفي آية ثانية: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[المؤمنون: 52].
وكان سماحته من فرسان الوحدة، ومن دعاة الفهم الصَّحيح لها، على أنَّها وحدة ثقافيّة فكريَّة، حيث إنّ عشرات النّصوص التي قرأتها له، تدلُّ كلُّها على إيمانه العميق بالوحدة الإسلاميّة، هذا الإيمان الذي يمتاز بأنّه يزيد على الإيمان النّظريّ دائماً التّصوُّر العمليّ... فإذا تكلّم شخصٌ أمامه عن السُّنّة والشّيعة، أتى بتصوّرٍ عمليٍّ، لأنَّ التصوّر العمليّ يمتاز بميزتَين، القدرة على تحقيقه، فلا يكلِّف النّاس ما لا يسعهم أن يعملوه، فسماحته كان يرى أنَّه لا يجوز أن يتحوَّل التشيّع إلى عقيدةٍ ذاتيّةٍ في نفس الشيعيّ، يحافظ عليها كما يحافظ الإنسان على عصبيّة تؤكّد ذاته، ولا أن يتحوّل التسنّن في نفس السُّنيّ إلى مثل ذلك، ولكن على الشيعة والسُّنّة أن يفكّروا في مسألة واحدة، وهي أنّهم مسلمون، بحيث يكون تسنُّنهم وجهة نظر في فهم الإسلام، وتشيُّعهم وجهة نظر في فهم الإسلام، وهو (رحمه الله) عندما يؤمن بذلك، فإنّه ينسجم مع قول الله تبارك وتعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء : 59].. فقاعدة الحوار بين السُّنّة والشّيعة، كما يجد (رحمه الله) ترتكز على رجوع الجميع إلى الله وإلى الرّسول وإلى القرآن الكريم...
وقد كان سماحته يؤكّد مسألةً مهمّةً، طالباً منّا تناولها ودراستها في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، وهي أنّ 80% من الروايات بين السنّة والشيعة متّفقٌ عليها، والمُختلَف عليه من الروايات حوالى 20%..
شروط الوحدة:
كان السيّد يذمُّ بشدّة التعصُّب الطائفي، ويقبل بكلِّ رحابة صدر التمذهُب والتعلُّم المذهبي، لأنّ التمذهب يحفظ وحدة الجماعة، وتعدُّد المذهبيات الخاضع للاجتهاد يمكّن الأمّة من أن تعيش في رحابة بحسب مرويّاتها وفهم علمائها وتقديرهم... أمّا أن تتحوّل المذهبية الفكرية إلى تعصّب طائفيّ، فهذا يهزم الأمّة ويجعل بأسها بينها شديداً، ويُحوِّل الخلاف الفكريّ إلى خلاف كفريّ، فإذا تحدّثت عن خلافٍ فكريّ، فأنت تتحدّث عن فكر واتّساق واتّساع أُفق، وإذا تحدّثت عن خلاف كفريّ، فأنت تتحدّث عن ضيق أُفق وعن فساد في الذوق وفساد في الفهم الإسلامي... وهنا يقول سماحته (رحمه الله): إذا كان القرآن يقول للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وللمسلمين بعده: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عمران: 64]، فكيف لا يتّفق أهل القرآن على كلمة سواءٍ بينهم وبين بعضهم البعض؟ كيف لا يتّفقون على أنّ الإسلام هو دينهم؟ وأنّ اختلافهم في فهمه اختلافٌ محتملٌ مقبولٌ لا شيء فيه، ما دام مستنداً إلى النظر في أصول العقيدة والشريعة من القرآن والسُنّة. فالذي يتّفقون عليه، كما يذهب إلى ذلك سماحته، أكثر بكثير ممّا يختلفون حوله، وإذا كنا نختلف حول موضوع الإمامة والخلافة، فإنّ علينا أن نُمارِس هذا الخلاف بالأدب الإسلامي: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}[النساء: 59].
إذاً، هذا هو المنهج؛ إذا تنازعنا في شيءٍ نردُّه إلى أصول الإسلام التي هي الكتاب والسُنّة... وقد قال سماحته هذا الكلام في وقت محنة هامّة مرّت بالأمّة العربيّة، قال معقّباً على ذلك: واعلموا أنّ التحدّي الذي يواجه المسلمين لن يفرِّق بين سنّيٍّ وشيعيّ، ولا متريّث ولا غير متريّث، ولا مُتزمّت ولا مُتساهل، إنّما سينال من الجميع ويتوجّه إلى الجميع.. وإن استطاع فريقٌ وحده أن يواجهه، فأهلاً وسهلاً، لكنّي أزعم أنّ فريقاً وحده لا يستطيع مواجهته، لذا، على الأمّة أن تُوحِّد صفوفها لتواجه هذا التحدّي؛ تحدّي الاستكبار العالمي، وتحدّي القوى الاستعماريّة التي تريد أن تَفُتّ في عضُد الأمّة، وتحدّي أعداء الأمّة الداخليّين الذين هم في الواقع عملاء استعماريّون.. بل قال سماحته وفي أكثر من مكان: إنّ الذين يعملون على تفريق الكلمة في هذه الأمّة، وعلى ترسيخ الفُرقة السُّنيّة ـ الشيعيّة على وجه الخصوص، ليسوا إلاّ عُملاء للمخابرات الأجنبيّة والاستكباريّة التي تأبى بكلّ ما في وسعها، أن نعيش معاً أو نتعايش معاً، فالوحدة الإسلامية ممنوعة عندهم، والوحدة الوطنيّة بين المسلمين والمسيحيين ممنوعةٌ أيضاً عندهم..
الإسلام يَسَعُ الجميع:
وهناك نقطةٌ لا بدَّ من ذكرها، وهي مدعاةٌ للأسف، فنحن عندما نحاول أن نقرِّب بين السُّنّة والشيعة، فبعضٌ من الفريقين من السُّنة أو الشيعة يقول: يكفّروننا ويُنكرون علينا إسلامنا في مساجدهم وعلى منابرهم، وهؤلاء من العلماء.. لكن في حقيقة الأمر، إن هؤلاء ليسوا من العلماء، فلماذا نبقى طوال عمرنا أسرى الرُّعاع وأهل الرعونة والجهالة، وإذا لم يتقدّم العلماء الحقيقيون وأهلُ الثقافة وأهلُ العلم لكي يكونوا هم قادة الوحدة، فمتى سنصبح قادرين على إزالة الشحناء والبغضاء التي يراها السيّد(رحمة الله عليه) من آثار التخلُّف الشنيع، حيث كان يقول، إنّ المسلمين عاشوا عصوراً من التخلُّف الشنيع، حيث جاءتهم هذه العصور من أضيق الطرق.. فهل سنبقى بأضيق الطرق لغاية أن نموت؟ نحن نريد أن نخرج من ضيق هذه الطرق إلى فسحة طريق الحقّ الذي هو طريق الاتفاق بين المسلمين كلّهم على أصول دينهم، وعلى سَعَة الاختلاف، وسَعة فكر هذا الدّين، وعلى سَعَة عباءة هذا الدّين التي تَسَعُ كلَّ من يقول: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله..
إنّ عباءة الإسلام تَسَعُ الخَلْقَ كافّةً، مؤمنهم وكافرهم، مَن استجاب منهم ومَن لا يزال في نفسه رَيبٌ وتردّدٌ.. وواجب العلماء أن يتقرّبوا إلى الجميع، ليجذبوهم إلى أمّة الاستجابة، بدلَ أن يبقوا في أُمّة الدعوة..
والسؤال: ما المشكلة التي تَحُول بيننا وبين ذلك كلّه؟
يلخّص سماحة السيّد الجواب بقوله: إنّ المشكلة الحقيقيّة هي أنّ الأجهزة الاستخباراتيّة العالميّة والإقليميّة والمحليّة، تعمل على النفاذ إلى الواقع الإسلاميّ من خلال الثغرات التاريخيّة والمشاكل الحاضرة، لكي تلعب على حفظ التخلُّف الروحيّ والفكريّ الذي ينبغي أن نخرج منه، لنعيش الإسلام في رحابته وسعة أُفقه وسماحته..
*الدّكتور محمد سليم العوّا
عندما أذكر السيّد محمد حسين فضل الله، أذكر السّماحة الإسلاميّة المتمثِّلة لا في الذّات الإنسانيّة وحسب، وإنّما أذكرها في عقلٍ هائلٍ جبّار، يكاد يكون متفرّداً لا عن عقول آلاف الأشخاص، بل ربَّما عن عقول عشرات آلاف الأشخاص الّذين مررت بهم منذ طفولتي وحتّى اليوم.. كان لسماحته خصوصيّةٌ بين هذه العقول، خصوصيّةٌ تجذبك إليه، وتستمتع بالحديث معه، وتستعيد مرّات ومرّات ـ كلّما خلدت إلى نفسك ـ الجملَ والعبارات الّتي سمعتها منه.
الوحدويُّ الصَّادق:
وقد كانت الوحدة الإسلاميَّة محور عمل سماحة السيِّد في حياته كلِّها، وقد ألقى قصيدته المعروفة في حفل تأبين السيِّد محسن الأمين(رحمه الله)، حيث دعا فيها المسلمين إلى الوحدة، واستمرّ يعمل بها إلى أن لَقِيَ ربَّه سبحانه وتعالى.
وقد تميّز السيّد محمد حسين فضل الله بصدق اللّهجة، حيث إنّي ما سمعتُ منه كلامَين قطّ في مسألةِ الوحدة، وما رأيته في مرَّة غيّر الكلام الّذي قاله في المرَّة السّابقة، وإنَّما كان يزيده تأكيداً وإيضاحاً ويعمل بمقتضاه. كنتُ أسمعه في خُطب الجمعة، وأسمع تسجيلات دروسه في تفسير القرآن، وأقرأ فتاواه على موقعه "بيّنات"، أو ما يتكرّم ويُرسله إليَّ عن طريق مكتبه، فأرى رجُلاً واحداً، لم أرَ فيه رَجُلَين أبداً.
في أيَّام المحنة الّتي تعرَّض لها ظلماً، تصرَّف بما يليق بالعلماء أن يتصرَّفوا، وهذه شهادةٌ أشهد بها، وأظنُّ أنَّ معظمكم يعرف ما تعرَّض له أكثر منّي، لكنّي وقفتُ عليها بنفسي، وأشهدُ له بها وهو بين يدي ربِّ العالمين.. كانت الوحدة الإسلاميّة عنده هي بديل التّشرذم، وهي سبيل مقاومة الضّعف السياسيّ والاجتماعيّ، وهي الأمل الّذي يُعمَل من أجله، ويُسعى إلى تحقيقه، ويُدعى إليه في أوساط الإسلاميّين الحركيّين والسياسيّين الوطنيّين في العالم الإسلاميّ كلّه.
تميّزٌ وريادة:
لقد أدرك العلماء الواعون، الساعون للوحدة، منذ اللّحظة الأولى، أنَّهم قد لا يستطيعون تحقيق الوحدة السياسيّة، لأنّهم لا يملكون أدواتها، ولا يستطيعون أن يدخلوا في مجالها، لذا، فإنّهم اختاروا مجالهم الّذي ينجحون فيه، وملعبهم الّذي يستطيعون فيه إصابة أهدافهم كلّها، وهو الملعب الفكريّ والثّقافيّ والفقهيّ والدّينيّ، فسعوا من خلاله إلى وحدة هذه الأمّة..
إنَّ هؤلاء العلماء تجنّبوا الأهواء المحليّة والمطامع الذاتيّة والرغبات الشخصيّة، وعملوا عملاً مهمّاً صادقاً مخلصاً على حفظ القضيّة العامّة للأمّة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92]، وفي آية ثانية: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[المؤمنون: 52].
وكان سماحته من فرسان الوحدة، ومن دعاة الفهم الصَّحيح لها، على أنَّها وحدة ثقافيّة فكريَّة، حيث إنّ عشرات النّصوص التي قرأتها له، تدلُّ كلُّها على إيمانه العميق بالوحدة الإسلاميّة، هذا الإيمان الذي يمتاز بأنّه يزيد على الإيمان النّظريّ دائماً التّصوُّر العمليّ... فإذا تكلّم شخصٌ أمامه عن السُّنّة والشّيعة، أتى بتصوّرٍ عمليٍّ، لأنَّ التصوّر العمليّ يمتاز بميزتَين، القدرة على تحقيقه، فلا يكلِّف النّاس ما لا يسعهم أن يعملوه، فسماحته كان يرى أنَّه لا يجوز أن يتحوَّل التشيّع إلى عقيدةٍ ذاتيّةٍ في نفس الشيعيّ، يحافظ عليها كما يحافظ الإنسان على عصبيّة تؤكّد ذاته، ولا أن يتحوّل التسنّن في نفس السُّنيّ إلى مثل ذلك، ولكن على الشيعة والسُّنّة أن يفكّروا في مسألة واحدة، وهي أنّهم مسلمون، بحيث يكون تسنُّنهم وجهة نظر في فهم الإسلام، وتشيُّعهم وجهة نظر في فهم الإسلام، وهو (رحمه الله) عندما يؤمن بذلك، فإنّه ينسجم مع قول الله تبارك وتعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء : 59].. فقاعدة الحوار بين السُّنّة والشّيعة، كما يجد (رحمه الله) ترتكز على رجوع الجميع إلى الله وإلى الرّسول وإلى القرآن الكريم...
وقد كان سماحته يؤكّد مسألةً مهمّةً، طالباً منّا تناولها ودراستها في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، وهي أنّ 80% من الروايات بين السنّة والشيعة متّفقٌ عليها، والمُختلَف عليه من الروايات حوالى 20%..
شروط الوحدة:
كان السيّد يذمُّ بشدّة التعصُّب الطائفي، ويقبل بكلِّ رحابة صدر التمذهُب والتعلُّم المذهبي، لأنّ التمذهب يحفظ وحدة الجماعة، وتعدُّد المذهبيات الخاضع للاجتهاد يمكّن الأمّة من أن تعيش في رحابة بحسب مرويّاتها وفهم علمائها وتقديرهم... أمّا أن تتحوّل المذهبية الفكرية إلى تعصّب طائفيّ، فهذا يهزم الأمّة ويجعل بأسها بينها شديداً، ويُحوِّل الخلاف الفكريّ إلى خلاف كفريّ، فإذا تحدّثت عن خلافٍ فكريّ، فأنت تتحدّث عن فكر واتّساق واتّساع أُفق، وإذا تحدّثت عن خلاف كفريّ، فأنت تتحدّث عن ضيق أُفق وعن فساد في الذوق وفساد في الفهم الإسلامي... وهنا يقول سماحته (رحمه الله): إذا كان القرآن يقول للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وللمسلمين بعده: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عمران: 64]، فكيف لا يتّفق أهل القرآن على كلمة سواءٍ بينهم وبين بعضهم البعض؟ كيف لا يتّفقون على أنّ الإسلام هو دينهم؟ وأنّ اختلافهم في فهمه اختلافٌ محتملٌ مقبولٌ لا شيء فيه، ما دام مستنداً إلى النظر في أصول العقيدة والشريعة من القرآن والسُنّة. فالذي يتّفقون عليه، كما يذهب إلى ذلك سماحته، أكثر بكثير ممّا يختلفون حوله، وإذا كنا نختلف حول موضوع الإمامة والخلافة، فإنّ علينا أن نُمارِس هذا الخلاف بالأدب الإسلامي: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}[النساء: 59].
إذاً، هذا هو المنهج؛ إذا تنازعنا في شيءٍ نردُّه إلى أصول الإسلام التي هي الكتاب والسُنّة... وقد قال سماحته هذا الكلام في وقت محنة هامّة مرّت بالأمّة العربيّة، قال معقّباً على ذلك: واعلموا أنّ التحدّي الذي يواجه المسلمين لن يفرِّق بين سنّيٍّ وشيعيّ، ولا متريّث ولا غير متريّث، ولا مُتزمّت ولا مُتساهل، إنّما سينال من الجميع ويتوجّه إلى الجميع.. وإن استطاع فريقٌ وحده أن يواجهه، فأهلاً وسهلاً، لكنّي أزعم أنّ فريقاً وحده لا يستطيع مواجهته، لذا، على الأمّة أن تُوحِّد صفوفها لتواجه هذا التحدّي؛ تحدّي الاستكبار العالمي، وتحدّي القوى الاستعماريّة التي تريد أن تَفُتّ في عضُد الأمّة، وتحدّي أعداء الأمّة الداخليّين الذين هم في الواقع عملاء استعماريّون.. بل قال سماحته وفي أكثر من مكان: إنّ الذين يعملون على تفريق الكلمة في هذه الأمّة، وعلى ترسيخ الفُرقة السُّنيّة ـ الشيعيّة على وجه الخصوص، ليسوا إلاّ عُملاء للمخابرات الأجنبيّة والاستكباريّة التي تأبى بكلّ ما في وسعها، أن نعيش معاً أو نتعايش معاً، فالوحدة الإسلامية ممنوعة عندهم، والوحدة الوطنيّة بين المسلمين والمسيحيين ممنوعةٌ أيضاً عندهم..
الإسلام يَسَعُ الجميع:
وهناك نقطةٌ لا بدَّ من ذكرها، وهي مدعاةٌ للأسف، فنحن عندما نحاول أن نقرِّب بين السُّنّة والشيعة، فبعضٌ من الفريقين من السُّنة أو الشيعة يقول: يكفّروننا ويُنكرون علينا إسلامنا في مساجدهم وعلى منابرهم، وهؤلاء من العلماء.. لكن في حقيقة الأمر، إن هؤلاء ليسوا من العلماء، فلماذا نبقى طوال عمرنا أسرى الرُّعاع وأهل الرعونة والجهالة، وإذا لم يتقدّم العلماء الحقيقيون وأهلُ الثقافة وأهلُ العلم لكي يكونوا هم قادة الوحدة، فمتى سنصبح قادرين على إزالة الشحناء والبغضاء التي يراها السيّد(رحمة الله عليه) من آثار التخلُّف الشنيع، حيث كان يقول، إنّ المسلمين عاشوا عصوراً من التخلُّف الشنيع، حيث جاءتهم هذه العصور من أضيق الطرق.. فهل سنبقى بأضيق الطرق لغاية أن نموت؟ نحن نريد أن نخرج من ضيق هذه الطرق إلى فسحة طريق الحقّ الذي هو طريق الاتفاق بين المسلمين كلّهم على أصول دينهم، وعلى سَعَة الاختلاف، وسَعة فكر هذا الدّين، وعلى سَعَة عباءة هذا الدّين التي تَسَعُ كلَّ من يقول: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله..
إنّ عباءة الإسلام تَسَعُ الخَلْقَ كافّةً، مؤمنهم وكافرهم، مَن استجاب منهم ومَن لا يزال في نفسه رَيبٌ وتردّدٌ.. وواجب العلماء أن يتقرّبوا إلى الجميع، ليجذبوهم إلى أمّة الاستجابة، بدلَ أن يبقوا في أُمّة الدعوة..
والسؤال: ما المشكلة التي تَحُول بيننا وبين ذلك كلّه؟
يلخّص سماحة السيّد الجواب بقوله: إنّ المشكلة الحقيقيّة هي أنّ الأجهزة الاستخباراتيّة العالميّة والإقليميّة والمحليّة، تعمل على النفاذ إلى الواقع الإسلاميّ من خلال الثغرات التاريخيّة والمشاكل الحاضرة، لكي تلعب على حفظ التخلُّف الروحيّ والفكريّ الذي ينبغي أن نخرج منه، لنعيش الإسلام في رحابته وسعة أُفقه وسماحته..
*الدّكتور محمد سليم العوّا
تعليق