فقه الجهاد الجز الثانى
"فقتل النفس" كوصف لهذا الفعل لا محل له على الإطلاق ما دام انتفى شرط "الرغبة في التخلص من الحياة" الذي رتب العلماء على وجوده كون الفعل قتلا للنفس.
أما الجانب الآخر للمسألة فهو شكل العملية الجهادية التي يقاتل بها المجاهد العدو، حيث ترد شكوك البعض حول العمليات الاستشهادية أيضاً في كونها تعني موتاً محققاً وأن من يقذف بنفسه فيها إنما يلقي بها في الهلال!
إن إزالة مثل هذه الشكوك يستدعي التأمل وبعمق لفلسفة الجهاد في الإسلام وما تتضمنه من معاني ذات صلة بهذا الأمر. فمن حيث المبدأ فان الدعوة إلى الجهاد إنما تتضمن وبكل بساطة ووضوح الدعوة إلى التضحية بالنفس وبذلها رخيصة في سبيل الله، فالله سبحانه وتعالى يقول ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة 111) فهذه الآية تبين لنا أن استجابة المؤمن لهذا العرض المقدم من قبل الله إنما تعني قبوله لصفقة يوقع فيها منذ اللحظة الأولى على "قتله في سبيل الله" والتنازل عن حياته ودنياه وقد باعها لله "فاستبشروا ببيعكم..". ويبدو ذلك واضحاً في الآية حيث اعتبر الله سبحانه قتل المؤمنين للأعداء. واستشهادهم هم على أيديهم في قوله "فيقتلون ويقتلون" ثمرة لهذه الصفقة المنعقدة على موضوع الجهاد والقتال "يقاتلون في سبيل الله".
وقد استنكر على البعض قعودهم عن الجهاد خوفاً من الموت، بتأكيده أن الموت سيطولهم أينما كانوا، وكأنه يقول لهم تعالوا إلى هذا الموت ـ لا مجرد أن يقول تعالوا إلى هذا القتال ـ فيقول سبحانه ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ (الجمعة 28) ويقول ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ (الأحزاب 16). ويقول ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُون﴾ (الأنفال 9) . لذا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى هذا القتل في سبيل الله فيقول فيما أخرجه البخاري.. "والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم اقتل ثم أحيا ثم اقتل"، وكذلك كان حال صحابته رضوان الله عليهم، فقد روي أن عبد الله بن جحش دعا ربه فقال: اللهم اقسم عليك أن ألقى العدو إذا، فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وآذاني، ثم تسألني: بم ذاك؟ فأقول: فيك . فبر الله بقسمه، وشوهد آخر النهار وأنفه وأذنه معلقان في خيطان (عبد الله بن المبارك ـ الجهاد ص 73، 74 والكاندهلوي ـ حياة الصحابة ج1 ص525. نقله عنهما د.محمد نعيم ياسين في "أثر الإسلام في تكوين الشخصية الجهادية".. ص51، دار الأرقم طـ1، 1404هـ).
وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه يقول: "ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشر فيه بغلام أحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سرية أصبّح فيها العدو" (المرجع السابق).
من هذه المعاني نخلص إلى أن كل قتال للعدو إنما يحمل في طياته احتمال وقوع القتل للمجاهدين أو استشهادهم (بل هو ما كانوا يتمنوه كما رأينا)، ولكن يبقى الفارق بين عملية جهادية وأخرى في درجة تأكد هذا الاحتمال وتحققه، والذي هو في العمليات الاستشهادية والتفجيرية واقع دونما شك. وهو كما أوضحنا سابقا محور السؤال ومثار الشك . مع تسليمنا في كل الحالات بقضاء الله وقدره ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف 34).
من هنا فاننا نقول بأن المتأمل لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاركه التي خاضها هو وصحابته من أجل إعلاء راية هذا الدين، ثم مسيرة المسلمين الجهادية على مدار التاريخ إلى يومنا هذا يمكنه أن يميز بين ثلاثة مستويات من القتال للعدو من حيث ضراوة المواجهة ودرجة التأكد في احتمال وقوع القتل في صفوف المجاهدين.
الأول: هو تلك الحالة التي يستوي فيها احتمال القتل أو النجاة، فأما أن يرزق المجاهد شهادة أو كرامة. يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه "ما أدري من أي يومين أفر، يوم أراد الله أن يُهدى لي فيه شهادة، أو من يوم أراد أن يُهدى لي فيه كرامة".
فإذا ما استثنينا موازين القوى المادية وكثرة العدد والعدة والتي لم تكن يوماً في صالح جيش المسلمين أبان معارك النبي صلى الله عليه وسلم ومعظم معارك الإسلام من بعده فان هذه الحالة يمكن أن تشير إلى إلقاء العدو دونما تخصيص بضراوة القتال، أو قيام بعض أفراد الجيش بعمليات استثنائية تزداد فيها درجة احتمال وقوع القتل والاستشهاد.
والثاني: هي تلك الحالة التي يزداد فيها احتمال وقوع القتل عندما يكون التعاون في موازين القوى صارخاً فيلقي المجاهدون بأنفسهم طعماً لآلات الحرب دونما حساب لموت أو حياة، وخير مثال على ذلك ما حدث في معركة مؤتة وما أسفر عنها من استشهاد القادة الأربعة الذي تسابقوا على الموت واحداً تلو الآخر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مثال للمجاهدين في مثل هذه الحالات حيث كان دائماً أقرب المقاتلين إلى العدو، وأن أشجعهم من كان يحاذيه لحظة من لحظات القتال. يقول علي بين أبي طالب رضي الله عنه: "كنا إذا اشتد الخطب واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو" (محمود شيت خطاب ـ الرسول القائد ـ، ص 431، الطبعة الثالثة. دار العلم) وكتب السيرة حافلة بتلك الوقائع التي سطرها الصحابة رضوان الله عليهم فكانوا بشجاعتهم وتضحيتهم مضرب الأمثال.
ففيما روى البخاري أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله : غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال : اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبوأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين . ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ان اصنع ما صنع. قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببناته، فقال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ الأحزاب ـ 23.
أما الحالة الثالثة: فهي التي تصبح فيها القتل أمراً واقعاً لا محالة، فتغدو العملية الجهادية عملية استشهادية يلقى فيها المجاهد بنفسه إلى الموت وكله ثقة أنه ينطلق إلى الجنة. وقد ميزنا بين هذه الصورة وسابقها لأنها تمثل في نظرنا الصورة التي نبحث فيها، حيث الحالات الخاصة التي قد تستدعي فيها الظروف ان يقوم فرد أو نفر قليل من المجاهدين بأعمال استشهادية ينقذون بها الجيش بأكمله أو الشعب المسلم، أو يكون لها من الأثر ما يحطم خطط العدو ومعنوياته ويزيد من بأس المسلمين ومعنوياتهم. أو يسمح بفتح ثغرة تزعزع جيش العدو، وهو أمر يؤدي من ثم إلى التقليل من خسائر المسلمين وزيادة خسائر عدوهم. والأمثلة على ذلك أيضاً كثيرة وتزخر بها كتب التاريخ وسير المجاهدين فمنها قصة البراء بن مالك في موقعة اليمامة الذي ألقى به المسلمون إلى الحديقة التي احتمى بها المشركون ليفتح بابها للمسلمين كي يدخلوها عليهم. جاء في الكامل لابن الأثير أن البراء صاح في الناس يومها وقال: إلى أيها الناس، أنا البراء بن مالك، إليّ، غليّ، وقاتل قتالا شديداً فلما دخلت بنو حنيفة الحديقة قال البراء: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة، فقالوا: لا تفعل فقال: والله لتطرحنني عليهم بها، فاحتمل حتى اشرف على الجدار فاقتحمها عليهم، وقاتل على الباب وفتحه للمسلمين، ودخلوها عليهم فاقتتلوا أشد قتال. (الكامل لأبن الأثير، الجزء الثاني ص246، إدارة الطباعة المنيرية، 1349 هـ).
لم يكن البراء يومها يملك حزاماً ناسفاً يلقي بنفسه به على باب الحديقة فيفجره، فما كان منه الا أن اختار أن يلقي بنفسه طعماً سائغاً للسيوف، والا ما الذي حمل الصحابة رضوان الله عليهم ان يردوا طلبه للوهلة الأولى (فقالوا: لانفعل)، انه الإشفاق على أخيهم من هذا الموت المحقق! ولكن إشفاقهم هذا لم يكن ليرقى ليقف أمام نداء الواجب بضرورة اقتحامها، فما كان منهم وهم كبار الصحابة وفيهم كبار القراء، أمناء الوحي إلا أن حملوه وألقوا به للسيوف.
ومن البراء بن مالك في اليمامة إلى أبي عبيد الله بن مسعود والمثنى وغيرهم في موقعة وملحمة الجسر الخالدة حين ألقى أبو عبيد الله بنفسه وسط فيلة الفرس التي أعجزت المسلمين وقد تبعه سيل من المجاهدين في واحدة من أروع العمليات الاستشهادية التي شهدها تاريخ المعارك الإسلامية والتي يقول أبن الأثير في وصفها "وضاقت الأرض بأهلها واقتتلوا، فلما نظرت الخيول إلى الفيلة.. وان شيئاً منكراً لم تكن رأت مثله فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم (على الفرس) لم تقدم عليهم خيولهم. وإذا حملت الفرس على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت خيولهم وكراديسهم ورموهم بالنشاب واشتد الأمر بالمسلمين. فترجل أبو عبيد والناس ثم مشوا اليهم. ثم صافحوهم بالسيوف فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم، فنادى أبو عبيد احتوشوا الفيلة، واقطعوا بطانها، واقلبوا عنها أهلها، ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه ووقع الذين عليه وفعل القوم مثل ذلك فما تركوا فيلا الا حطوا رحله، وقتلوا أصحابه وأهوى الفيل لأبي عبيد فضربه أبو عبيد بالسيف وخبطه الفيل بيده فوقع فوطئه الفيل وقام عليه، فلما بصر به الناس تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم، ثم أخذ اللواء الذي أمره بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد فأخذه المسلمون فأحرزوه، ثم قتل الفيل الأمري الذي بعد أبي عبيد، وتتابع سبعة أنفس من ثقيف كلهم يأخذ اللواء ويقاتل حتى يموت. ثم أخذ اللواء المثنى فهرب عنه الناس، فلما رأى عبد الله بن مرشد الثقفي ما لقي أبو عبيد وخلفاؤه وما يمنع الناس بادرهم إلى الجسر فقطعه، وقال: أيها الناس موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا، وحاز المشركون المسلمين إلى الجر فتواثب بعضهم إلى الفرات فغرق من لم يصبر، وأسرعوا فيمن صبر، وحمى المثنى وفرسان من المسلمين الناس وقال: أنا دونكم فاعبروا على هينتكم ولا تدهشوا.." (أبن الأثير، مرجع سابق، ص302). أي مشهد هذا الذي يقحم أبو عبيد فيه نفسه فتخشع لهوله أنفس من رأوه سوى أنها دبابة العصر تسحق جسد الشهيد حين ألقى بنفسه تحتها مدشنا بذلك النصر الذي لم يتحقق الا وهو ومن تبعه في الجنة. فالمعركة ما كانت لتكسب لولا حركة استشهادية من هذا النوع… وما كان لجيش المسلمين من جهة أخرى أن يستعيد الثقة في قتال الفيلة ما لم ير بأم عينه بطولة أبي عبيد الله وإخوانه حين قاموا بذلك الاقتحام الاستشهادي وكانوا يعرفون نهايتهم هذه إلا أنهم فعلوها مادام في ذلك قهراً للعدو ونصرة للدين لا يتحققان في حينه وفي ذلك الظرف إلا من خلال هذا العمل. فهل بعد ذلك من شك في أن هذا العمل الاستشهادي في القتال في سبيل الله الذي يقتل المجاهد فيه ويقتل في آن واحد، وهو قتل للنفس وإلقاء بها للتهلكة. ربما هو جدير بالذكر هنا أن حادثة الفيلة هذه قد تكررت في القادسية أيضاً تحت قيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في واحد من أهم معارك الإسلام. وهي التي وقفت فيها عكرمة بن أبي جهل ينادي في الناس من "يبايع على الموت"، ولا أظن أننا بحاجة إلى سرد تفاصيلها هنا، ولكن إذا كان هناك ثمة شك مازال يحيك في صدور البعض فليستفتوا في ذلك الصحابي الجلل أبا أيوب الأنصاري فيما رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما عن أبي عمران قال: "كنا بمدينة الروم القسطنطينية ـ ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فاخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج لهم من المسلمين مثلهم وأكثر.. فحمل رجل من المسلمين على صف من الروم حتى دخل بينهم، فصاح الناس وقالوا: سبحانه الله يلقي بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال: أيها الناس، أنتم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أموالنا قد ضاعت، وأن الله تعالى أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منا، فأنزل الله تعالى على نبيه ما يرد علينا ما قلناه: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد". ومن المعروف ان أبا أيوب رضي الله عنه ظل قائماً في رباط حتى استشهد ودفن في القسطنطينية.
إذن، انها التضحية وليست التهلكة، بل يمكننا أن نخلص من هذه المشاهد العظيمة التي عاشها المجاهدون الأوائل أنه إذا كان الجهاد هو ذروة سنام الإسلام فقد كانت مثل هذه العمليات الاستشهادية الفذة الجريئة التي نفذها الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم تمثل ذروة سنام الجهاد، ما دام المجاهد يقدم عليها وهو متيقن أنه سيلقى ربه. ويجب أن نعلم ـ وعلى خلاف ما يظنه أصحاب الشكوك ـ أنه كلما زادت درجة تأكد الموت في إقدام المجاهد ـ أياً كانت الطريقة التي يؤكد بها على هذا الموت "كجهاد في سبيل الله" ـ كلما عظم ثوابه وارتفعت درجته عند الله عز وجل. قال قتادة : "لما التقى الناس يوم بدر، قال عوف بن عفراء: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال : قال أن يراه غمس يده في القتال حاسراً (أي بدون درع) فنزع عوف درعه، وتقدم فقاتل حتى قتل شهيداً (الرومي والهزاع: الشوق إلى الجهاد . ص65، مكتب المنار، 1403 هـ نقلاه عن أبن حجر في الإصابة).
سبحانه الله ! أما كان يمكن لعوف ان يقاتل بدرعه. لماذا يلقي به طعماً في القتل، أليس في ذلك إلقاء بالنفس للتهلكة، أم أن بقاء درعه لا يضحك ربه؟! يا لها من معاني كأن هناك أيدي خفية حاولت طمسها وتغييبها على مدار التاريخ.. ولا زالت!
هذا بالإضافة إلى ما سبق فان هناك وجهاً آخر للمسألة يتمثل في الإصرار على كلمة الإسلام مع علم صاحبها أنها لا تعني سوى القتل فقصة أصحاب الأخدود بكل وقائعها تعطي مثلا واضحا لحالة يجوز فيها ان يقدم المؤمن على عمل يؤدي إلى قتله رفضاً للتراجع عن دينه أو من أجل نصرته. وقد عالج الفقه الإسلامي هذه الحالة التي يطلب فيها من المسلم التراجع عن دينه والنطق بكلمة الكفر. فقد أباح الله سبحانه وتعالي للمسلم أن ينطق بكلمة بلسانه طالما بقي الأيمان في قلبه ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ (النحل 106)، وهذه هي الرخصة أما العزيمة لمن يطيقها فهي ان لا ينطق بغير كلمة الإسلام مع ما في ذلك من نهاية حتمية له توصله إلى أعلى مراتب الصديقين والشهداء في الجنة.
ولعل موقف بلال بن رياح رضي الله عنه وغيره من الصحابة لا تغيب عن أذهاننا. فقد روي ان حبيب بن زيد الأنصاري لما كان يقول له مسيلمة الكذاب أتشهد أن محمداً رسول الله فيقول: أتشهد أني رسول الله، فيقول لا أسمع؛ فلم يزل يقطعه أرباً أربا وهو ثابت على ذلك. (في ظلال القرآن، الجزء الرابع، ص 2196، دار الشروق، الطبعة التاسعة).
وهذه الحالة أيضا مطابقة لمواجهة دعاة الحق للطغاة والمستبدين من الحكام، حيث يقف المجاهد ليجهر بكلمة الحق وهو يعرف أنها ستقوده إلى حتفه ليلقي ربه، فينطق بها فلا يكون بذلك مجرد شهيد بل كما اخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيد الشهداء يوم القيامة. فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" وعنه صلى الله عليه وسلم أن "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
وبعد.. فرغم هذا العرض المفصل الذي حاولناه في هذه المسألة، إلا أننا ندرك أيضاً ان مصدر ما يثار من شكوك حول العمليات الاستشهادية قد لا يتعلق بحكم هذه العمليات ومدى مشروعيتها بقدر ما يتعلق بالروح التي تسيطر على الأمة والحالة التي تعيشها.
فليس غريباً إذن ان تثار مثل هذه الشكوك ما دمنا نعيش حالة الانحطاط والقعود عن الجهاد تلك الحالة التي لم يسلم منها البعض حتى في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فتحدث القرآن الكريم في مواضع كثيرة عن القاعدين والروح الانهزامية التي يحاولون بثها في صفوف المسلمين بشتى الوسائل، قال عز وجل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (آل عمران 156).
وعليه فأنه قد يكون مفيداً أن نستوعب ما سبق من جوانب ترتبط بفلسفة الجهاد في الإسلام، ولكن هذا لا يجب أن ينسينا أن هذه الفلسفة إنما تستمد قوتها ونصاعتها من إشعاع تلك الروح التي سكنت ذلك الجيل القرآني الفريد ـ كما سماه الشهيد قطب رحمه الله ـ فهانت لديهم الدنيا بما فيها ورخصتهم أنفسهم ليصنعوا أغلى معجزة، إلا وهي معجزة انتصار الإسلام على صروح الباطل وإمبراطورياته.
"فقتل النفس" كوصف لهذا الفعل لا محل له على الإطلاق ما دام انتفى شرط "الرغبة في التخلص من الحياة" الذي رتب العلماء على وجوده كون الفعل قتلا للنفس.
أما الجانب الآخر للمسألة فهو شكل العملية الجهادية التي يقاتل بها المجاهد العدو، حيث ترد شكوك البعض حول العمليات الاستشهادية أيضاً في كونها تعني موتاً محققاً وأن من يقذف بنفسه فيها إنما يلقي بها في الهلال!
إن إزالة مثل هذه الشكوك يستدعي التأمل وبعمق لفلسفة الجهاد في الإسلام وما تتضمنه من معاني ذات صلة بهذا الأمر. فمن حيث المبدأ فان الدعوة إلى الجهاد إنما تتضمن وبكل بساطة ووضوح الدعوة إلى التضحية بالنفس وبذلها رخيصة في سبيل الله، فالله سبحانه وتعالى يقول ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة 111) فهذه الآية تبين لنا أن استجابة المؤمن لهذا العرض المقدم من قبل الله إنما تعني قبوله لصفقة يوقع فيها منذ اللحظة الأولى على "قتله في سبيل الله" والتنازل عن حياته ودنياه وقد باعها لله "فاستبشروا ببيعكم..". ويبدو ذلك واضحاً في الآية حيث اعتبر الله سبحانه قتل المؤمنين للأعداء. واستشهادهم هم على أيديهم في قوله "فيقتلون ويقتلون" ثمرة لهذه الصفقة المنعقدة على موضوع الجهاد والقتال "يقاتلون في سبيل الله".
وقد استنكر على البعض قعودهم عن الجهاد خوفاً من الموت، بتأكيده أن الموت سيطولهم أينما كانوا، وكأنه يقول لهم تعالوا إلى هذا الموت ـ لا مجرد أن يقول تعالوا إلى هذا القتال ـ فيقول سبحانه ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ (الجمعة 28) ويقول ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ (الأحزاب 16). ويقول ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُون﴾ (الأنفال 9) . لذا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى هذا القتل في سبيل الله فيقول فيما أخرجه البخاري.. "والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم اقتل ثم أحيا ثم اقتل"، وكذلك كان حال صحابته رضوان الله عليهم، فقد روي أن عبد الله بن جحش دعا ربه فقال: اللهم اقسم عليك أن ألقى العدو إذا، فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وآذاني، ثم تسألني: بم ذاك؟ فأقول: فيك . فبر الله بقسمه، وشوهد آخر النهار وأنفه وأذنه معلقان في خيطان (عبد الله بن المبارك ـ الجهاد ص 73، 74 والكاندهلوي ـ حياة الصحابة ج1 ص525. نقله عنهما د.محمد نعيم ياسين في "أثر الإسلام في تكوين الشخصية الجهادية".. ص51، دار الأرقم طـ1، 1404هـ).
وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه يقول: "ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشر فيه بغلام أحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سرية أصبّح فيها العدو" (المرجع السابق).
من هذه المعاني نخلص إلى أن كل قتال للعدو إنما يحمل في طياته احتمال وقوع القتل للمجاهدين أو استشهادهم (بل هو ما كانوا يتمنوه كما رأينا)، ولكن يبقى الفارق بين عملية جهادية وأخرى في درجة تأكد هذا الاحتمال وتحققه، والذي هو في العمليات الاستشهادية والتفجيرية واقع دونما شك. وهو كما أوضحنا سابقا محور السؤال ومثار الشك . مع تسليمنا في كل الحالات بقضاء الله وقدره ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف 34).
من هنا فاننا نقول بأن المتأمل لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاركه التي خاضها هو وصحابته من أجل إعلاء راية هذا الدين، ثم مسيرة المسلمين الجهادية على مدار التاريخ إلى يومنا هذا يمكنه أن يميز بين ثلاثة مستويات من القتال للعدو من حيث ضراوة المواجهة ودرجة التأكد في احتمال وقوع القتل في صفوف المجاهدين.
الأول: هو تلك الحالة التي يستوي فيها احتمال القتل أو النجاة، فأما أن يرزق المجاهد شهادة أو كرامة. يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه "ما أدري من أي يومين أفر، يوم أراد الله أن يُهدى لي فيه شهادة، أو من يوم أراد أن يُهدى لي فيه كرامة".
فإذا ما استثنينا موازين القوى المادية وكثرة العدد والعدة والتي لم تكن يوماً في صالح جيش المسلمين أبان معارك النبي صلى الله عليه وسلم ومعظم معارك الإسلام من بعده فان هذه الحالة يمكن أن تشير إلى إلقاء العدو دونما تخصيص بضراوة القتال، أو قيام بعض أفراد الجيش بعمليات استثنائية تزداد فيها درجة احتمال وقوع القتل والاستشهاد.
والثاني: هي تلك الحالة التي يزداد فيها احتمال وقوع القتل عندما يكون التعاون في موازين القوى صارخاً فيلقي المجاهدون بأنفسهم طعماً لآلات الحرب دونما حساب لموت أو حياة، وخير مثال على ذلك ما حدث في معركة مؤتة وما أسفر عنها من استشهاد القادة الأربعة الذي تسابقوا على الموت واحداً تلو الآخر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مثال للمجاهدين في مثل هذه الحالات حيث كان دائماً أقرب المقاتلين إلى العدو، وأن أشجعهم من كان يحاذيه لحظة من لحظات القتال. يقول علي بين أبي طالب رضي الله عنه: "كنا إذا اشتد الخطب واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو" (محمود شيت خطاب ـ الرسول القائد ـ، ص 431، الطبعة الثالثة. دار العلم) وكتب السيرة حافلة بتلك الوقائع التي سطرها الصحابة رضوان الله عليهم فكانوا بشجاعتهم وتضحيتهم مضرب الأمثال.
ففيما روى البخاري أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله : غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال : اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبوأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين . ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ان اصنع ما صنع. قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببناته، فقال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ الأحزاب ـ 23.
أما الحالة الثالثة: فهي التي تصبح فيها القتل أمراً واقعاً لا محالة، فتغدو العملية الجهادية عملية استشهادية يلقى فيها المجاهد بنفسه إلى الموت وكله ثقة أنه ينطلق إلى الجنة. وقد ميزنا بين هذه الصورة وسابقها لأنها تمثل في نظرنا الصورة التي نبحث فيها، حيث الحالات الخاصة التي قد تستدعي فيها الظروف ان يقوم فرد أو نفر قليل من المجاهدين بأعمال استشهادية ينقذون بها الجيش بأكمله أو الشعب المسلم، أو يكون لها من الأثر ما يحطم خطط العدو ومعنوياته ويزيد من بأس المسلمين ومعنوياتهم. أو يسمح بفتح ثغرة تزعزع جيش العدو، وهو أمر يؤدي من ثم إلى التقليل من خسائر المسلمين وزيادة خسائر عدوهم. والأمثلة على ذلك أيضاً كثيرة وتزخر بها كتب التاريخ وسير المجاهدين فمنها قصة البراء بن مالك في موقعة اليمامة الذي ألقى به المسلمون إلى الحديقة التي احتمى بها المشركون ليفتح بابها للمسلمين كي يدخلوها عليهم. جاء في الكامل لابن الأثير أن البراء صاح في الناس يومها وقال: إلى أيها الناس، أنا البراء بن مالك، إليّ، غليّ، وقاتل قتالا شديداً فلما دخلت بنو حنيفة الحديقة قال البراء: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة، فقالوا: لا تفعل فقال: والله لتطرحنني عليهم بها، فاحتمل حتى اشرف على الجدار فاقتحمها عليهم، وقاتل على الباب وفتحه للمسلمين، ودخلوها عليهم فاقتتلوا أشد قتال. (الكامل لأبن الأثير، الجزء الثاني ص246، إدارة الطباعة المنيرية، 1349 هـ).
لم يكن البراء يومها يملك حزاماً ناسفاً يلقي بنفسه به على باب الحديقة فيفجره، فما كان منه الا أن اختار أن يلقي بنفسه طعماً سائغاً للسيوف، والا ما الذي حمل الصحابة رضوان الله عليهم ان يردوا طلبه للوهلة الأولى (فقالوا: لانفعل)، انه الإشفاق على أخيهم من هذا الموت المحقق! ولكن إشفاقهم هذا لم يكن ليرقى ليقف أمام نداء الواجب بضرورة اقتحامها، فما كان منهم وهم كبار الصحابة وفيهم كبار القراء، أمناء الوحي إلا أن حملوه وألقوا به للسيوف.
ومن البراء بن مالك في اليمامة إلى أبي عبيد الله بن مسعود والمثنى وغيرهم في موقعة وملحمة الجسر الخالدة حين ألقى أبو عبيد الله بنفسه وسط فيلة الفرس التي أعجزت المسلمين وقد تبعه سيل من المجاهدين في واحدة من أروع العمليات الاستشهادية التي شهدها تاريخ المعارك الإسلامية والتي يقول أبن الأثير في وصفها "وضاقت الأرض بأهلها واقتتلوا، فلما نظرت الخيول إلى الفيلة.. وان شيئاً منكراً لم تكن رأت مثله فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم (على الفرس) لم تقدم عليهم خيولهم. وإذا حملت الفرس على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت خيولهم وكراديسهم ورموهم بالنشاب واشتد الأمر بالمسلمين. فترجل أبو عبيد والناس ثم مشوا اليهم. ثم صافحوهم بالسيوف فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم، فنادى أبو عبيد احتوشوا الفيلة، واقطعوا بطانها، واقلبوا عنها أهلها، ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه ووقع الذين عليه وفعل القوم مثل ذلك فما تركوا فيلا الا حطوا رحله، وقتلوا أصحابه وأهوى الفيل لأبي عبيد فضربه أبو عبيد بالسيف وخبطه الفيل بيده فوقع فوطئه الفيل وقام عليه، فلما بصر به الناس تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم، ثم أخذ اللواء الذي أمره بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد فأخذه المسلمون فأحرزوه، ثم قتل الفيل الأمري الذي بعد أبي عبيد، وتتابع سبعة أنفس من ثقيف كلهم يأخذ اللواء ويقاتل حتى يموت. ثم أخذ اللواء المثنى فهرب عنه الناس، فلما رأى عبد الله بن مرشد الثقفي ما لقي أبو عبيد وخلفاؤه وما يمنع الناس بادرهم إلى الجسر فقطعه، وقال: أيها الناس موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا، وحاز المشركون المسلمين إلى الجر فتواثب بعضهم إلى الفرات فغرق من لم يصبر، وأسرعوا فيمن صبر، وحمى المثنى وفرسان من المسلمين الناس وقال: أنا دونكم فاعبروا على هينتكم ولا تدهشوا.." (أبن الأثير، مرجع سابق، ص302). أي مشهد هذا الذي يقحم أبو عبيد فيه نفسه فتخشع لهوله أنفس من رأوه سوى أنها دبابة العصر تسحق جسد الشهيد حين ألقى بنفسه تحتها مدشنا بذلك النصر الذي لم يتحقق الا وهو ومن تبعه في الجنة. فالمعركة ما كانت لتكسب لولا حركة استشهادية من هذا النوع… وما كان لجيش المسلمين من جهة أخرى أن يستعيد الثقة في قتال الفيلة ما لم ير بأم عينه بطولة أبي عبيد الله وإخوانه حين قاموا بذلك الاقتحام الاستشهادي وكانوا يعرفون نهايتهم هذه إلا أنهم فعلوها مادام في ذلك قهراً للعدو ونصرة للدين لا يتحققان في حينه وفي ذلك الظرف إلا من خلال هذا العمل. فهل بعد ذلك من شك في أن هذا العمل الاستشهادي في القتال في سبيل الله الذي يقتل المجاهد فيه ويقتل في آن واحد، وهو قتل للنفس وإلقاء بها للتهلكة. ربما هو جدير بالذكر هنا أن حادثة الفيلة هذه قد تكررت في القادسية أيضاً تحت قيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في واحد من أهم معارك الإسلام. وهي التي وقفت فيها عكرمة بن أبي جهل ينادي في الناس من "يبايع على الموت"، ولا أظن أننا بحاجة إلى سرد تفاصيلها هنا، ولكن إذا كان هناك ثمة شك مازال يحيك في صدور البعض فليستفتوا في ذلك الصحابي الجلل أبا أيوب الأنصاري فيما رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما عن أبي عمران قال: "كنا بمدينة الروم القسطنطينية ـ ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فاخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج لهم من المسلمين مثلهم وأكثر.. فحمل رجل من المسلمين على صف من الروم حتى دخل بينهم، فصاح الناس وقالوا: سبحانه الله يلقي بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال: أيها الناس، أنتم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أموالنا قد ضاعت، وأن الله تعالى أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منا، فأنزل الله تعالى على نبيه ما يرد علينا ما قلناه: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد". ومن المعروف ان أبا أيوب رضي الله عنه ظل قائماً في رباط حتى استشهد ودفن في القسطنطينية.
إذن، انها التضحية وليست التهلكة، بل يمكننا أن نخلص من هذه المشاهد العظيمة التي عاشها المجاهدون الأوائل أنه إذا كان الجهاد هو ذروة سنام الإسلام فقد كانت مثل هذه العمليات الاستشهادية الفذة الجريئة التي نفذها الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم تمثل ذروة سنام الجهاد، ما دام المجاهد يقدم عليها وهو متيقن أنه سيلقى ربه. ويجب أن نعلم ـ وعلى خلاف ما يظنه أصحاب الشكوك ـ أنه كلما زادت درجة تأكد الموت في إقدام المجاهد ـ أياً كانت الطريقة التي يؤكد بها على هذا الموت "كجهاد في سبيل الله" ـ كلما عظم ثوابه وارتفعت درجته عند الله عز وجل. قال قتادة : "لما التقى الناس يوم بدر، قال عوف بن عفراء: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال : قال أن يراه غمس يده في القتال حاسراً (أي بدون درع) فنزع عوف درعه، وتقدم فقاتل حتى قتل شهيداً (الرومي والهزاع: الشوق إلى الجهاد . ص65، مكتب المنار، 1403 هـ نقلاه عن أبن حجر في الإصابة).
سبحانه الله ! أما كان يمكن لعوف ان يقاتل بدرعه. لماذا يلقي به طعماً في القتل، أليس في ذلك إلقاء بالنفس للتهلكة، أم أن بقاء درعه لا يضحك ربه؟! يا لها من معاني كأن هناك أيدي خفية حاولت طمسها وتغييبها على مدار التاريخ.. ولا زالت!
هذا بالإضافة إلى ما سبق فان هناك وجهاً آخر للمسألة يتمثل في الإصرار على كلمة الإسلام مع علم صاحبها أنها لا تعني سوى القتل فقصة أصحاب الأخدود بكل وقائعها تعطي مثلا واضحا لحالة يجوز فيها ان يقدم المؤمن على عمل يؤدي إلى قتله رفضاً للتراجع عن دينه أو من أجل نصرته. وقد عالج الفقه الإسلامي هذه الحالة التي يطلب فيها من المسلم التراجع عن دينه والنطق بكلمة الكفر. فقد أباح الله سبحانه وتعالي للمسلم أن ينطق بكلمة بلسانه طالما بقي الأيمان في قلبه ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ (النحل 106)، وهذه هي الرخصة أما العزيمة لمن يطيقها فهي ان لا ينطق بغير كلمة الإسلام مع ما في ذلك من نهاية حتمية له توصله إلى أعلى مراتب الصديقين والشهداء في الجنة.
ولعل موقف بلال بن رياح رضي الله عنه وغيره من الصحابة لا تغيب عن أذهاننا. فقد روي ان حبيب بن زيد الأنصاري لما كان يقول له مسيلمة الكذاب أتشهد أن محمداً رسول الله فيقول: أتشهد أني رسول الله، فيقول لا أسمع؛ فلم يزل يقطعه أرباً أربا وهو ثابت على ذلك. (في ظلال القرآن، الجزء الرابع، ص 2196، دار الشروق، الطبعة التاسعة).
وهذه الحالة أيضا مطابقة لمواجهة دعاة الحق للطغاة والمستبدين من الحكام، حيث يقف المجاهد ليجهر بكلمة الحق وهو يعرف أنها ستقوده إلى حتفه ليلقي ربه، فينطق بها فلا يكون بذلك مجرد شهيد بل كما اخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيد الشهداء يوم القيامة. فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" وعنه صلى الله عليه وسلم أن "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
وبعد.. فرغم هذا العرض المفصل الذي حاولناه في هذه المسألة، إلا أننا ندرك أيضاً ان مصدر ما يثار من شكوك حول العمليات الاستشهادية قد لا يتعلق بحكم هذه العمليات ومدى مشروعيتها بقدر ما يتعلق بالروح التي تسيطر على الأمة والحالة التي تعيشها.
فليس غريباً إذن ان تثار مثل هذه الشكوك ما دمنا نعيش حالة الانحطاط والقعود عن الجهاد تلك الحالة التي لم يسلم منها البعض حتى في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فتحدث القرآن الكريم في مواضع كثيرة عن القاعدين والروح الانهزامية التي يحاولون بثها في صفوف المسلمين بشتى الوسائل، قال عز وجل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (آل عمران 156).
وعليه فأنه قد يكون مفيداً أن نستوعب ما سبق من جوانب ترتبط بفلسفة الجهاد في الإسلام، ولكن هذا لا يجب أن ينسينا أن هذه الفلسفة إنما تستمد قوتها ونصاعتها من إشعاع تلك الروح التي سكنت ذلك الجيل القرآني الفريد ـ كما سماه الشهيد قطب رحمه الله ـ فهانت لديهم الدنيا بما فيها ورخصتهم أنفسهم ليصنعوا أغلى معجزة، إلا وهي معجزة انتصار الإسلام على صروح الباطل وإمبراطورياته.
تعليق