مذكرة هائلة في التخريج للشيخ إبراهيم اللاحم
بسم الله الرحمن الرحيم
ملحوظة :
هذه المذكرة تشتمل على : التمهيد ، والفصل الأول ، وأما الفصل الثاني وهو
المتعلق بشرح طرق التخريج فنظراً لضيق الوقت يكتفي فيه بالتطبيق العملي ،
فليعلم ذلك .
الكتب المطلوبة في التخريج العملي :
1- (( تحفة الأشراف )) للمزي .
2- (( المعجم المفهرس لألفاظ الحديث )) .
3- (( مفتاح كنور السنة )) .
4- (( التلخيص الحبير )) لابن حجر .
5- (( نصب الراية )) للزيلعي .
6- (( المقاصد الحسنة )) للسخاوي .
7- (( كشف الخفاء )) للعجلوني .
8- (( الجامع الصغير )) للسيوطي .
9- (( صحيح البخاري )) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، مطبوع مع (( فتح الباري
)) لابن حجر ، ومطبوع كذلك لوحده ، وإن لم يتيسر فهناك طبعتان بديلتان :
الطبعة التركية وتسمى (( طبعة استنانبول )) ، وطبعة مصطفى البغا ، ولكن في
هاتين الطبعتين اختلاف يسير في الترقيم ، فيتقدم الباحث برقم أو رقمين ، أو
يتأخر كذلك .
10- (( صحيح مسلم )) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي .
11- (( سنن أبي داود )) تحقيق عزت الدعاس .
12- (( سنن الترمذي )) تحقيق كمال الجوت .
13- (( سنن النسائي )) الطبعة المرقمة نشرها المكتب الإسلامي للتراث ( ويحتمل
أن يكون اسمه : مكتب التراث الإسلامي ) . وإن لم تتيسر فالطبعة التي رقمها
الشيخ عبد الفتاح أبو غدة .
14- (( سنن ابن ماجه )) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي .
15- (( سنة الدارمي )) تحقيق عبد الله هاشم ، أو تحقيق مصطفى البغا ، أو
الطبعة التركية ( استنانبول ) .
16- (( موطأ مالك )) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي .
17- (( مسند أحمد )) النسخة المصورة في دار صادر ببيروت عن طبعة بولاق . وهي
في ست مجلدات ، وبأولها فهرس الشيخ الألباني ، وبحواشيها (( كنز العمال )) .
تمهيد :
ظل التأكد من صحة ما ينسب إلى السابقين من أقوال وأفعال شغل بال الباحثين في
كل وقت ، ويزداد هذا الأمر أهمية حين يتعلق بعقائد الناس وأمورهم الشرعية
الأخرى من حلال وحرام وترغيب وترهيب .
وقد خص الله تعالى هذه الأمة بخصيصة (( الإسناد )) ، وهو نقل أقوال وأفعال
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته وتابعيهم والأحداث التي وقعت
في عصور الإسلام الأولى بالأسانيد ، وشمل هذا فيما بعد كافة أوجه النشاط
العلمي الإسلامي ، من حديث وتفسير وفقه وتاريخ ولغة وأدب ... ، فبذل علماء
هذه الأمة غاية وسعهم في ضبط هذه الأسانيد ودراستها وتفحيصها ، وتأليفها
وجمعها في كتب تيسر للمسلمين معرفتها والاستفادة منها .
ومع مرور الوقت :وتطاول الزمن وضبط المرويات وتدوينها – برزت الحاجة – إلى
حذف الإسناد عند الاستدلال ونسبة الأقوال والحكايات إلى أصحابها ، والاكتفاء
بنسبة النص إلى صاحبه تارة بذكر الراوي الأخيرة وتارة أخرى بحذفه .
ولما كانت معرفة صحة هذه النسبة تتوقف على الوقوف على الإسناد كان لزاماً
بيان من روى النص بإسناده لينظر في صحته ، وقد تولى هذه المهمة منذ بروز
الحاجة غليها حتى الآن أئمة فضلاء وباحثون أجلاء .
وفي كل هذه المراحل عرف هذا العمل بـ (( التخريج )) على اختلاف مفهوم هذه
الكلمة بحسب الحاجة إليها في كل وقت ، ويمكن للباحث أن يرى تطور مفهوم هذه
الكلمة خلال العصور ، وأنها قد مرت بأطوار خمسة متميزة :
الطور الأول :
رواية النص بإسناده إلى قائله في كتاب مصنف .
وهذا الطور يشمل عصر الرواية ، وهو عبارة عن القرن الثاني والثالث والرابع من
الهجرة .
فيقال في التعبير عن رواية النص بالإسناد في كتاب مصنف : أخرجه البخاري ، أو
مسلم ، أو أبو داود ، أو الطحاوي ، أو الطبري ، أو غيرهم من المؤلفين في هذا
العصر .
وسمي عملهم هذا تخريجاً للنص وإخراجاً له لأن أصل الخروج في اللغة بمعنى
البروز ، فكأن المؤلف أبرز هذا النص وأظهره للناس حين وضعه بإسناده في كتابه
، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإن إسناد النص يعرف عند العلماء بالمخرج ،
فكأنه الطريق الذي خرج منه هذا النص ، وحينئذ فرواية المؤلف للنص بإسناده
تخريج له لأنه عرّف الناس بمخرجه .
والذي يظهر لي – والله أعلم – أن كلا الأمرين له صلة يوصف هذا العمل بالتخريج
، وتسمية مؤلفه بالمخرج ، وذلك أن رواي النص إذا لم يضعه في كتاب له لا تسمى
روايته له تخريجاً ، وإلا لأصبح الراوة كلهم مخرجين ، ولس الأمر كذلك ، وكذلك
المؤلف إذا وضع نصاً في كتابه دون أن يذكر إسناده لا يقال له في الاصطلاح أنه
أخرجه ، وإن قيل ذلك على سبيل التجوز فلا بد من تقييده ، وإنما يقال : ذكره ،
وأورده ، وساقه ونحو ذلك .
فظهر من هذا ملاحظة الأمرين في تسمية هذا العمل تخريجاً : روايته بإسناد
ووضعه في كتاب مصنف
الطور الثاني :
في أثناء عصر الراوية وقبل انقراضه برز نوع من التخريج فيه معنى ما في الطول
الأول – وهو رواية الحديث بإسناده في كتاب مصنف – وزيادة على ذلك وهو : تخصيص
كتاب من كتب السنة وإخراج الأحاديث الموجودة فيه بأسانيد للمؤلف الثاني لا
بمر بها على المؤلف الأول : ويلتقي فيه بشيخه أو من فوقه حتى الصحابي ، ولأجل
هذه الزيادة سمي عملهم هذا : اسنخراجاً .
فاستخراج الأئمة على (( الصحيحين )) ، وعلى (( سنن الترمذي )) ، و (( سنن أبي
داود ))وكثرت المؤلفات من هذا النوع ... وومن عمل مستخرجاً في أثناء عصر
الرواية : أبو علي الطوسي ، عمله على (( سنن الترمذي )) وهو من أقران الترمذي
، وكانت وفاته سنة 308هـ ، وكذلك أبو بكر محمد بن رجاء النيسابوري المتوفى
سنة 286هـ ، وهو من أقران مسلم ، وعمل على كتابه (( الصحيح )) مستخرجاً ...
واستمر هذا النوع من التصنيف حتى قبيل نهاية القرن الخامس .
الطور الثالث :
بعد انقراض عصر الرواية واستكمال تدوين السنة أخذ التخريج معنى جديداً ، وهو
أن يروي النخرج الحديث بإسناد يمر به على كتاب مصنف سابق في عصر الرواية مثل
: (( صحيح البخاري )) ، و (( سنن أبي داود )) و (( مسند أحمد )) و (( مصنف
عبد الرزاق )) ، ثم بعد ذلك يعزوه دون إسناد إلى كتب أخرى يريد التخريج منها
، وممن يكثر من هذا العمل البيهقي في (( سننه الكبرى )) وكتبه الأخرى ،
والبغوي في (( شرح السنة )) وابن الجوزي في (( التحقيق )) وغيره من كتبه
وكثيراً ما ينصون على موضع التقاء إسناد من عزوه إليه بالإسناد الذي ساقوه ،
ويحدد بعض الباحثين هذا الطور بنهاية القرن السادس .
الطور الرابع :
نهجوا منهج من سبقهم في الطور الثالث ، واستحدثوا مع ذلك طريقة جديدة اضطرهم
إليها بعدهم عن عصر الراوية ، فطالت الأسانيد ، وهذه الطريقة هي العزو
المباشر إلى كتاب السنة الأولى دون سوق أسانيد .
وأكثر كتبهم في التخريج على الطريقة الجديدية ، فمن ذلك كتب الأحكام : ((
عمدة الأحكام )) للمقدسي ، و (( الإلمام )) لابن دقيق العبد ، و (( المحور ))
لابن عبد الهادي ، و (( بلوغ المرام )) لابن حجر ، وكذلم الكتب المخصصة
لتخريج أحاديث معينة من كتب الفقه وغيرها ، مثل (( تحفىة الطالب )) لابن كثير
، و (( تحفة المحتاج )) لابن الملفق ، و (( نصرب الراية )) للزيلعي ، و ((
التلخيص الحبير )) لابن حجر ، وغيرها .
ومن الكتب المؤلفة على طريقة أصحاب الطور الثالث : (( نتائج الأفكار في تخريج
أحاديث الأذكار )) و (( تعليق التعليق )) وهما لابن حجر . ويمكن جعل مهاية
القرن التاسع حداً لانتهاء هذا الطور .
الطور الخامس :
وبعد القرن التاسع إلى وقتنا الحاضر اكتفى المخرجون بعزو الأحاديث إلى كتب
السنة الأولى دون سوق أسانيد إلا في النادر جداً ، وهذا النادر غير مستساغ
أيضاً ، وذلك لطول الإسناد وعد الحاجة إليه .
والمراد بسوق الأسانيد أن يقول المخرج : حدثنا فلان ، قال : حدثنا فلان ...
إلى أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو إلى صاحب الأثر ،
فهذا هو الذي حذفه أهل الطور الرابع في غالب تخريجهم ، وكذلك أهل الطور
الخامس ، وأما ذكر الإسناد من كتب السنة الأولى كأن يقول : أخرجه البخاري عن
فلان عن فلان ... فهذا موجود في الطورين بكثرة وله أهميته في بيان درجة النص .
والمتأملفي تطور مفهوم كلمة: (( التخريج )) ومتابعة تطبيقها في عصورها يلاحظ
عدة أمور :
أ ـ الأطوار الخمسة – كما هو ظاهر – بينها تداخل فب وقتها الزمني ، فظهور
معنى جديد للتخريج لا يعني ترك ما قبله بالكلية ، فالغرض من ذكر هذه الأطوار
بيان ما هو الغالب على كل عصر في معتى التخريج ، وما هو الأليق به بالنسبة
لحاجة النصوص إلى تمييز صحيحها من سقيمها .
ب ـ تقدم في ذكر الطور الأول وجه إطلاق هذه الكلمة على رواية النص بإسناده في
كتاب مصنف ، والملاحظ أن الأطوار الأربعة اللاحقة لها صلة قوية بهذا المعنى ،
حتى حين أخذ التخريج شكل العزو المجرد دون رواية الحديث بالإسناد ، وذلك أن
العزو يكون إلى من روى النص بالإسناد في كتاب مصنف فهو دلالة على من أخرج
النص ، فصح أن يسمى هذا العمل تخريجاً .
ج ـ ظهر أن هناك اختلافاً في معنى التخريج في أطواره الخمسة ، وذلك تبعاً
لحاجة النصوص في كل عصر من العصور التي مرت بها ، وهو في كل ذلك له قواعد
وضوابط يسير عليها المخرجون .
واليوم قد عمت العالم الإسلامي نهضة مباركة هدفها خدمة النصوص وتقريبها للناس
، مع تمييز صحيحها من سقيمها ، وتحقيق الكتب المتقدمة التي تروى بالإسناد ،
ودراسة أسانيدها – اتجه الباحثون إلى شرح وتوضيح طرق التخريج التي يمكن أن
يوصل عن طريقها إلى مكان النص في مصادره الأصلية ، كما اتجهوا إلى تحرير
قواعد وضوابط أخذوها من تصرفات السابقين وعملهم ومما مر بهم من تجارب في
تخريج النصوص ، لكي يستعين بهذه الطرق ويسير على هذه الضوابط والقواعد من
يأتي بعدهم ، فظهر في التخريج كفن مستقل عرفه بعضهم بأنه (( معرفة القواعد
الموصلة إلى معرفة كيفية تخريج النصوص وبيان درجتها عند الحاجة )) .
واتضح من هذا الفرق بين ( علم التخريج ) وبين ( التخريج ) ، فالتخريج عمل
الباحث في تخريج النصوص ، وعلم التخريج الطريق التي يسلكها للوصل إلى النصوص
في المصادر ، والقواعد والضوابط التي تحكم عمله .
د ـ (( عزو النص إلى رواه بإسناد في كتاب مصنف ، مع بيان فروق المتن ودرجة
النص )) .
هذا تعريف التخريج الذي استقر عليه الاصطلاح في الوقت الحاضر فمن وفي بما في
هذا التعريف فقد أتى بتمام التخريج .
وبما أن التعاريف تصان عن الإسهاب والتطويل – فإن تحت هذا التعريف تفاصيل
وقيود تحتاج إلى شرح وإيضاح ، هذه التفاصيل والقيود هي قواعد وضوابط التخريج
، وكيفية وصول الباحث إلى مكان النص في الكتاب المصنف ليطبق هذه القواعد
والضوابط هي طرق التخريج .
وبالنسبة لبيان درجة النص وذكره في التعريف – فلا شك أن معرفة درجة النص هي
الغاية من كافة العلوم المتعلقة بالمرويات ، وقد كان السابقون – بعد إتمام
عملية التدوين – قد تولوا هذه المهمة ، تارة بتأليف كتب يلتزم فيها أصحابها
اختيار النصوص وانتقائها مثل(( موطأ مالك )) ، و (( صححي البخاري )) ، و ((
صحيح مسلم )) ، وتارة بالنص على درجة النص مثل (( سنن الترمذي )) ، وتارة
بتأليف كتب للكلام على النصوص وأٍانيدها مثل : كتب العلل ، وفي كثر من الأحين
يكتفون بذكر الإسناد عن بيان درجته ويقولون : (( من أسند فقد أحالك )) يعني
ترك للقارئ معرفة درجة الإسناد .
ومع بعد الناس عن عهد الرواية وتقاصر الهمم صارت معرفة درجة النص أمر غير
ميسور حتى بالنسبة لطلبة العلم ، ولذا اشترط الباحثون بيان درجة النص في
التخريج .
والذي يظهر ليأن بيان درجة النص من تمام التخريج ، وأن الاكتفاء بعزو النص
دون بيان درجة يسمى تخريجاً وإن كان فيه قصور عن الأول ، وليس كل باحث مخرج
يستطيع الوفاء ببيان درجة النص ، وإشعار الباحثين بهذا الإلزام دفع ممن لا
يحسن هذا العمل إلى اقتحامه والتخبط فيه .
وهذه الرسالة الصغيرة : إسهاماً في توضيح الطرق التي توصل الباحث إلى أماكن
النصوص في مصادرها ، وتحرير قواعد وضوابط في عزو النص وبيان فروق المتن وتكون
البداية بالثاني منهما في فصل ، ثم الأول منهما في فصل آخر .وأما ما يتعلق
ببيان درجة النص :فله شأن آخر وعلم آخر ، وسأكتب فيه ما يتيسر في رسالة أخرى
إن شاء الله تعالى .
الفصل الأول
قواعد وضوابط في التخريج
وفيه المباحث التالية :
أولاً : المراد بالنص المأثور .
ثانياً : معنى العزو.
ثالثاً : بيان فروق المتن .
رابعاً : بيان درجة النص .
خامساً : التخريج الإجمالي والتفصيلي .
سادساً : تقسيم مصادر التخريج .
سابعاً : تحديد المصادر التي يعزو إليها المخرج .
ثامناً : ترتيب مصادر التخريج .
تاسعاً : اختلاف التخريج بحسب النص الذي يقوم الباحث بتخريجه .
عاشراً : اشتباه بعض النصوص على الباحث .
حادي عشر : التخريج بالواسطة .
أولاً : المراد بالنص المأثور :
كل نص نسب إلى قائل متقدم فهو بحاجة إلى تخريج ، وتختلف أهمية هذا النص من
جهتين :
الأولى :من جهة قائلة ، فلا شك أن أعظم النصوص وأهمها في هذا الباب نصوص حديث
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، حتى أن كثيراً من الباحثين يعبر في
تعريف التخريج بأنه : (( عزو الحديث ... )) فاخترت التعبير بالنص المأثور
ليكون أعم وأشمل .
ويلي نصوص حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نصوص صحابته رضوان
الله عليهم على اختلاف طبقاتهم ، ثم من بعدهم ... وهكذا ، وإن كان الأمر في
العصور المتأخرة صار من حيث الجملة ، وقد يكون قول إمام متأخر أهم من قول
إمام متقدم عليه .
الثانية :من جهة العصر الذي قيل فيه النص ، فأهم العصور في موضوع التخريج عصر
ما قبل التدوين ، حين كانت النصوص في الأغلب الأعم تتناقل مشافهة ، وكان
الاعتماد على الأسانيد ، وأما بعد عصر التدوين فإن أقوال الأئمة عادة تكون
موجودة في كتبهم التي اشتهرت عنهم شهرة استغنى بها عن روايتها بالأسانيد ،
فإذا لم يكن صاحب النص مؤلفاً فإننا نحتاج إلى تخريج نصوصه وإن كان في عصر
التدوين والتأليف ، لإننا حينئذ نعتمد على الإسناد ، مع أن الباحثين اصطلحوا
على تسمية تخريج نصوص الأئمة بعد عصر التدوين ويعنون بها أقوال من كانوا قبل
عصر التدوين ، ويقولون : توثيق النصوص ويعنون بها أقوال الأئمة بعد عصر
التدوين ، مثل أقوال أئمة الجرح والتعديل ، هذا من جهة الاصطلاح ، وإلا فإن
المعنى في الحالين واحد .
ثانياً : معنى العزو :
العزو ذكر من روى النص على الشريط المذكور في التعريف ، ويعبر عنه الباحث
بقوله : رواه فلان ،أو أخرجه فلان ، ومن تمام العزو أن ينص الباحث على مكان
وجود النص في الكتاب المعزو إليه بذكر الأمور التالية :
اسم الكتاب داخل الكتاب المصنف ، واسم الباب ، ورقم الجزء والصفحة ، ورقم
الحديث ، فيقول مثلاً :
أخرجه أبو داود في (( سننه )) في ( الحج ) ( باب ما يلبس المحرم ) ؟ : 410 حديث 1823 .
ويستوفي الباحث هذه الأمور بحسب ما توافرمنها في الكتاب المعزو إليه فيعفى من
رقم الحديث إن لم تكن النسخة مرقمة الأحاديث ، ويعفى من اسم الكتاب والباب
إذا لم يكن الكتاب مرتباً على الأبواب .
وبالنسبة لترتيب الأمور السابقة له أن يسلك غير هذا الترتيب ، فيذكر مثلاً
رقم الجزء والصفحة قبل اسم الكتاب والباب ، وقد يقدم أيضاً رقم الحديث ، فإذا
اختار ذلك فيحسن به أن يلتزمه ولا يخرج عنه في بحثه كله .
وإذا كان لأحاديث الكتاب رقمان : عام للمؤلف كله ، وخاص بالكتاب المعين
كالصلاة مثلاً وذلك في مثل (( صحيح مسلم )) فللباحث أن يختار أحد الرقمين ،
وإن كان الأولى في نظري أت يختار الإحالة على الرقم العام ، وإذا اختار
أحدهما فعليه أن يلتزم ذلك أيضاً .
ويكثر من طلاب الحديث السؤال عن ذكر الطبعة للكتاب ، وهذا ليس من أمور
التخريج في شئ ، والجواب عنه في مادة (( مناهج البحث )) والمستحسن في هذا أن
يلتزم الباحث طبعة يكون قد اختارها لما فيها من مميزات مثل كونها محققة
تحقيقاً علمياً ، أو كونها مرقمة الأحاديث ، أو نحو ذلك ، ثم يذكر ما يتعلق
بطباعتها في ذكر المراجع في نهاية البحث ، فإذا احتاج إلى العزو إلى طبعة
أخرى لغرش من الأغراض نص عليه في مكانه ، ومثل هذا يقال في لعزو إلى النسخ المخطوطة .
والأمور السابقة في تمام العزو يمكن اختصارها من جهتين :
الأولى : حذف اسم الكتاب المؤلف استغناء بشهرته إذا ذكر مؤلفه ، فيقال في
المثال السابق : أخرجه أبو داود في (( الصلاة )) ... ، وهكذا في البخاري
ومسلم والترمذي وغيرهم من المؤلفين ، فإذا عزا الباحث إلى مؤلف آخر لذلك
الإمام فلا بد من النص على تسميته ، مثل أن يعزو إلى (( المراسيل )) لأبي
داود ، أو إلى (( الشمائل )) للترمذي .
ويضع الباحث في مقدمة بحثه قائمة بأسماء الكتب التي التزم حذفها استغناء
بشهرة نسبتها إلى مؤلفيها
الثانية : المز للمؤلف بحرف أو حرفين من اسمه بدلاً من ذكره كاملاً ، مثل : خ
= للبخاري ، د = أبو داود ، قط = الدار قطني ...
ثالثاً : بيان فرق المتن :
جرى التدوين العام للسنة وأقوال الصحابة والتابعين في عصر متأخر من الوقت
الذي قبلت فيه ، والاعتماد في الغالب على نقلها مشافهة ، فإذا أضيف إلى ذلك
أن كثيراً من الرواة يروون النصوص بالمعنى – أمكننا أن ندرك بسهولة السبب في
وجود الاختلاف في ألفاظ الرواة في النص الواحد .
ثم إذا عرفنا أهمية هذه النصوص واحتياج الأمة إليها في تشريع – أدركنا أيضاً
ضرورة معرفة اختلا ألأفاظ الرواة ، وهو المعبر عنه ببيان فروق المتن ، فمعناه
حينئذ : ذكر الاتفاق والاختلاف بين النص الذي أمام الباحث ويقوم بتخريجه وبين
ما في المصدر الذي يعزو إليه .
ولما كانت الاختلافات والزيادة والنقص في الروايات كثيرة في بيان فروق المتن
تحكمه الضوابط التالية :
أ- وضع ضابط علم فيما ينبغي الاعتناء له من هذه الاختلافات أمر غير ممكن ،
والذي يحكم هذا نوع من البحث الذي يدخل فيه تخريج ذلك النص ، فإذا كان الباحث
في موضوع فقهي فلا شك أن مجال عنايته ألأفاظ النص التي تستنبط عنها الأحكام ،
وعلى الأخص ما يتعلق بموضوعه الذي يبحث فيه ، وكمثال على هذا نقد بعض الأئمة
للبيهقي عند روايته حديث : (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) فإنه بعد أن روله
بإسناده عزاه إلى (( صحيح مسلم )) مع أن الموجود في (( صحيح مسلم )) بلفظ :
(( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )) وبين اللفظين فرق كبير من جهة حكم فقهي ، مع أن
البيهقي يمكن أن يلتمس له عذر فيه صنعه .
ولهذا يقولون لو كان الباحث يخرج نصوص كتاب في(( الغريب )) فإن عليه أن يعتني
بهذا الجانب في بيان فروق المتن ، وكذا لو كان يخرج نصاَ جرى مجرى المثل عليه
أن يوليه عناية تخدم الغرض الذي من أجله سيق النص وهو جريانه مجرى المثل .
والخلاصة أن هذا الأمر منوط بفقه الباحث في التخريج وبخبرته وكثرة مرانه .
ب – تقدم أن من فقه التخريج أن لا يلتزم الباحث تفصيل بيان فروق المتن وأنه
يفعل ذلك بحسب الحاجة ، ولكن ما يتركه الباحث دون تفصيل عليه أن يفعله على
طريق الإجنال ، وقد يجمع بين الأمرين : يفصل شيئاً ويجمل ما بقي ، وهذا أيضاً
راجع إلى فقه المخرج ودرايته .
وقد استخدم الأئمة والباحثون مصطلحات في بيانهم لفروق المتن والاتفاق
والاختلاف بطريقة مجملة ، يختار منها الباحث ما يناسب النص الذي معه ، ومن
هذه المصطلحات :
1- بلفظه : يستعملها الباحث إذا كان النص الذي أمامه موافقاً للنص في المصدر
الذي يعزو إليه .
2- بنحوه : إذا كان الاختلاف بين النص يسيراً .
3- بمعناه : إذا كان الاختلاف بين النصين واسعاً واتفقا في المعنى مع ملاحظة
أن كثيراً من الأئمة يعبر بإحدى الكلمتين ( بنحوه ، بمعناه ) في مقام الأخرى
، ولكن الباحثين في الوقت الحاضر مالوا إلى التدقيق ، ففرقوا بينهما كما سبق
، مع أن في التفريق بينهما عند التطبيق الذي صعوبة قد تواجه الباحث ، والأمر
في ذلك واسع(1) .
4- مختصراً : إذا كان النص في المصدر الذي يعزو إليه فيه اختصار وحذف بالنسبة
للنص الذي أمام الباحث .
5- مطولاً : إذا كان النص في المصدر الذي يعزو إليه فيه طول في السياق
بالنسبة للنص الذي أمام الباحث .
6- في أثناء حديث : إذا كان النص الذي أمام الباحث موجوداً في المصدر الذي
يعزو إليه في ضمن حديث مطول .
ويحتاج الباحث إلى دقة في استعمال هذا المصطلح ، إا قد يشتبه عليه بمصطلح :
مختصراً ، مع أن بينهما فرق ، فالاختصار معناه أن الحديث واحد ووقع اختصار
وحذف في السياق ، وأما الآخر فالحديث مختلف ، وقد لا يكون له علاقة لباقية
للنص الذي يخرجه الباحث .
7- في أوله أو في آخره زيادة أو قصة : إذا كان الحديث بهذه الصفة في المصدر
الذي يعزو إليه الباحث .
8- مفرقاً : إذا كان النص الذي أمام الباحث موجوداً في المصدر الذي يعزو إليه
في أماكن متفرقة في الكتاب ، في كل مكان جزء من الحديث وفي مجموعها النص كله .
9- ملفقاً : إذا كان النص الذي أمام الباحث موجوداً في المصدر الذي يعزو إليه
وكنه في عدة أحاديث ، وذلك مثلاً إذا كان النص حديثاً فبعضه عن أبي هريرة ،
وبعضه عن عائشة ، وبعضه عن جابر ، وقد يكون الجميع عن صحابي واحد وهي أحاديث متفرقة .
وفي كثير من الأحيان يجمع الباحث بين مصطلحين عند الحاجة إلى هذا ، فيقول
مثلاً : أخرجه أحمد ... مختصراً في أثناء حديث ، أو بلفظه وفي آخره قصة أو بمعناه مطولاً .
ج- لا يظن الباحث أن مسألة الإجمال في بيان فروق المتن قصد بها الاختصار
تخفيفاً على الباحث المخرج ، وإنما ذلك من حق القارئ أيضاً ، فكما ألزم
الباحث بالتفصيل عند الحاجة أمر بالإجمال عند عدمها .
ولا شك أن هذا يحتاج إلى خبرة وممارسة طويلة للتخريج ليكون عند البحث فقهاً
في هذا الجانب ، ومما يساعد على تكوينه أيضاً القراءة في كتب الأئمة الذين
فعلوا هذا في عصر الرواية أو بعده ، وأخص بالذكر (( صحيح الإمام مسلم )) فكله
أمثلة تطبيقية ، مع ضرورة قراءة تعبيره عن منهجه المتعلق ببيان فروق المتن ،
وذلك في مثدمة صحيحه .
ح- إذا كان الباحث يعزو نصاً إلى أكثر من مصدر فلا ينبغي له أن يفرق بيان
فروق المتن بحيث يذكر فرق ما في كل مصدر بعد ذكر المصدر نفسه ، ففي هذا العمل
إطالة لا داعي لها ، ويغني عنها أن يؤخر بيان الفروق حتى يفرغ من سرد المصادر .
والسبب في ترجيح هذا ظاهر ، إذ قد يتفق مصدران أو ثلاثة أو أكثر في صفة النص
الذي فيها ، فيجملها الباحث بالتعبير عن الجميه بمصطلح واحد ثم يعبر عن
الباقي بما يناسبه ، وقد يصطلح للباقي أيضاً مصطلح آخر لا أكثر .
وليس المراد بهذا تقييد الباحث ، فله أن ينفلت منه إما في بعض نصوصه أو في
بحثه كله ، بشرط أن يظهر لديه مرجح للتفريق خدم به القارئ وزاده فائدة .
والخلاصة هو أن الأصل جمع مصادر التخريج في نهاية العزو ، وأن الخروج عن هذا
الأصل يحتاج إلى مرجح قوي يحسن بالباحث أن يبينه ويشرحه في مقدمة البحث أو
الكتاب .
رابعاً : بيان درجة النص :
تقدم في التمهيد عند تعريف التخريج في الاصطلاح الحاضر أن كثيراً من الباحثين
يجعل بيان درجة النص من صلب التخريج ، وأنهم لا يسمون عمل الباحث تخريجاً إذا
لم يف بذلك ، ويسمون عمله عزواً ، وأن الذي يظهر لي أنه يسمى تخريجاً وإن كان
فيه نقص .
وينبغي أن يعرف هنه أن النصوص ليست كلها تحتاج إلى بيان درجتها ، فمن النصوص
ما يغني عزوه إلى مصادره عن بيان درجته ، فالعزو إلى صحيح (( البخاري )) و ((
صحيح مسلم )) كاف في الدلالة على صحة النص ، وليس ذلك لغير هذين الكتابين ،
مع التنبيه إلى أن النص إذا كان حديثاً نبوياً فيتأكد من عزوه إلى أحد هذين
الكتابين أنه فيه عن ذلك الصحابي الذي أمامه ، فقد يكون الحديث عند الباحث عن
صحابي وهو فيهما ، أو في أحدهما عن صحابي آخر ، وهذا وإن كان يشمل غيرهما –
كما سيأتي التنبيه عليه – إلا أنه فيهما آكد ، لأن مجرد العزو إليهما دال على
صحة الحديث ، وقد يصح الحديث عن صحابي ولا يصح عن صحابي آخر .
وفي مقابل التصحيح هناك كتب يدل على العزو إليها على أن النص موضوع على من
نسب إليه أو ساقط الدرجة ، وذلك مثل : كتب الأحاديث الموضوعة كـ (( الموضوعات
)) لابن الجوزي و (( اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة )) للسيوطي و ((
العلل المتناهية في الأحاديث الواهية )) لابن الجوزي .
وهذا النوع يحتاج إلى تحرٍ خشية أن يكون المؤلف لم يوافق على حكمه على النص .
فإذ لم يكن النص من أحد هذين النوعين فيحتاج حينئذ إلى بيان درجته ، ولا يخلو
الباحث حينئذ من حالين .
الأولى : أن يكون لديه القدرة على دراسة الأسانيد ولديه الرغبة والجرأة على
الحكم غليها – فهذا يولى ماتولى ، فيحكم بما أدى إليه اجتهاده ـ وسيأتي في
دراسة قادمة الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يحق له الاجتهاد ، ومتى يجتهد ؟
وكيف يجتهد ؟ وعموم ما يتعلق بدراسة الأسانيد من قواعد وضوابط .
الثانية : أن لا تكون لديه القدرة على الاجتهاد ، أو لديه القدرة ولكن يرى أن
سد هذا الباب لئلا يلج منه من لا يحسنه كما هو حاصل الآن أولى من الاجتهاد –
فهذا يبحث في كتب الأئمة الذين تكلموا على النصوص لعلة يقف على من ذكر درجة
للنص الذي أمامه ، وذلك مثل كتب تخريج النصوص التي تكلم فيها الأئمة على
النصوص تصحيحاً وتضعيفاً ، وجمعوا فيها أقوال من سبقهم كـ (( نصب الراية ))
للزيلعي و (( التلخيصالحبير )) لابن حجر ، و (( المقاصد الحسنة )) للسخاوي ،
و (( كشف الخفاء )) للعجلوني ، وكذلك يستعين بكتب وتحقيقات الباحثين في الوقت
الحاضر لعله يجد فيها شيئاً من كلام الأئمة على النص .
وينبغي أن يتنبه الباحث إلى شئ مهم هنا وهو أن يكون أميناً في نقل كلام
الأئمة ، فإذا وجد إماماً صحح الحديث وآخر ضعفه نقل كلام الاثنين ، ليعرف
القارئ أن هذا الحديث مختلف في درجته ، ذلك أن بعض الباحثين يذكر من كلام
الأئمة ما يعجبه وما يرغب أن يكون النص عليه ، وهذا ينافي الأمانة العلمية .
وإذا لم يقف الباحث على كلام لأحد سبقه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها ،
ويسكت حينئذ ، ولا بأس أن يشير إلى أنه لم يقف على كلام لأحد في هذا النص .
خامساً : التخريج الإجمال والتفصيلي :
عزو النص إلى من أخرجه ، وبيان فروق درجة النص تشكل عناصر التخريج الرئيسية ،
فمن وقى بها فقد أتى بتمام التخريج .
وكل واحد من هذه العناصر يمكن عرضه بصورة مفصلة ، كما يمكن عرضه أيضاً بصورة مجملة .
وأظهر ما يمكن التمثيل به للتفصيل والإجنال العنصر الأول وهو عزو النص ، فقد
تقدم أن تمام العزو يتضمن ذكر اسم الكتاب المؤلف ، واسم الكتاب داخل الكتاب
المؤلف ، واسم الباب ، ورقم الجزء والصفحة ، ورقم الحديث ، فذكر هذه الأشياء
عزو تفصيلي ، واختصار شئ منها إجمال لهذا التفصيل فبعض الباحثين يكتفي بالجزء
والصفحة ، وبعضهم يكتفي برقم الحديث ، وبعضهم بالكتاب والباب ، بل بعض
المخرجين يكتفي بذكر اسم المؤلف كالبخاري وأبي داود فيقول مثلاً : أخرجه
البخاري أو أبو داود ، وهذه كانت طريقة الأئمة قبل عصرنا يعزون بإجمال شديد بذكر المؤلف فقط
وهكذا يقال في بيان فروق المتن ، وفي بيان درجة النص ، هناك طريقة تفصيلية
لعرضهما ، وهناك طريقة إجمالية ، فقد يميل الباحث إلى التدقيق في بيان فروق
لمتن ، فيكثر من النص على مواضع الاختلاف ويسوق الألفاظ ، وقد يميل إلى
التعبير بالعبارات المجملة التي سبقت في مبحث بيان فروق المتن ، وفي بيان
درجة النص قد يفصل الباحث في دراسة الإسناد في الرواة ، وفي الاتصال
والانقطاع ، وفي بيان العلل ، وقد يأتي بعبارات مجملة تكون نتيجة لدراسته
التي لم يثبتها في التخريج ، وقد يكتفي بعض المخرجين بالعزو فقط دون بيان
فروق المتن ودرجة النص ، وعلى هذا الأساس يمكن أن يقال إن وضع ضابط يقع به
الحد بين التخريج الإجمالي والتخريج التفصيلي غير ممكن ، فكل تخريج قام به
باحث إذا نسبته إلى تخريج أكثر تفصيلاً منه فهو تخريج إجمالي ، وإذا نبته إلى
تخريج أقل تفصيلاً فهو تخريج تفصيلي .
ثم هناك درجة من الإجمال ليس دونها درجة وهي أن يكتفي المخرج بالعزو بذكر اسم
المؤلف فقط ، كأن يقول : أخرجه البخاري ، أو أخرجه أحمد ، وتبقى الإجابة على
سؤال قائم وهو : ما الذي ينبغي أن يسلكه الباحث يوغل في التفصيل أو يوغل في الإجال أو يتوسط ؟
والإجابة تحددها نوعية البحث الذي تخرج فيه النصوص ، ففي مثل الرسائل العلمية
في الدراسات العليا يكون التخريج تفصيلياً ، وفي رسالة أفردها الباحث لدراسة
نص معين وبيان درجته أكثر تفصيلاً ، وفي مثل خطب الجمعة ، ومقالات عامة في
مجلة ، ونحو ذلك يكون التخريج في أدنى درجات الإجمال ، وبين هذه الأنواع من
البحوث درجات متفاوتة يتحدد فيها المنهج الذي يسلكه المخرج في تخريجه بعد دراسة وتحر .
كما أن هناك عاملاً آخر له تأثيره في المنهج المناسب في التخريج وهو نوع النص
الذي يقوم الباحث بتخريجه ، فإذا فرضنا أن الباحث يعد رسالة علمية فنصوصه
التي يقوم بتخريجها ليست على وتيرة واحدة ، فرب نص استغرق تخريجه صفحة واحدة
أو أقل لكونه نصاً ثابتاً لا إشكال فيه ، ورب نص احتاج إلى صفحات عديدة لكونه
من النصوص التي كثر الاختلاف حول ثبوتها .
وخلاصة الأمر أن اختيار المنهج الأمثل تفصيلاً أو إجمالاً على فقه الباحث
وخبرته بالدرجة الأولى ، وهو في كل ذلك يراعي الأمانة العلمية التي تحملها ،
فلا يكون همه سرعة الفراغ من بحثه على حساب إتقان البحث وجودة التخريج
وتحريره ، وأيضاً لا يكون همه الإكثار من الصفحات وتضخيم البحث على حساب
القارئ ، بالإضافة إلى ملاحظته لمستوى القارئ الذي يكتب له ، أو المستمع الذي يخطب له .
سادساً : تقسيم مصادر التخريج :
يمكن تقسيم مصادر التخريج قسمين رئيسيين :
الأول : مصادر أصلية ، وهي التي ألفت الأسانيد في عصر الرواية ، ويشمل ذلك
القرون الأربعة الأولى – مثل كتب السنة كـ (( موطأ مالك )) و (( مصنف عبد
الرزاق )) ، و (( مصنف ابن أبي شيبة )) ، و (( مسند الحميدي )) ، و (( مسند
أحمد )) والكتب الستة ، وغيرها كثير ، وكذلك كتب التفسير المسندة كـ (( تفسير
ابن ماجه )) ، و (( تفسير عبد بن حميد )) ، و (( تفسير بن جرير )) ، و ((
تفسير ابن أبي حاتم )) وكتب الفقه كـ (( الحجة على أهل المدينة )) لمحمد بن
الحسن ، و (( الأم )) للشافعي ، وكتب التاريخ كـ (( تاريخ بن جرير الطبري ))
، وكتب العقائد كـ (( التوحيد )) لابن خزيمة ، و (( الإيمان )) لابن منده .
فهذه كلها مصادر أصلية لاعتمادها على الرواية بالإسناد ، وإن كانت ليست على
درجة واحدة ، إذ تختلف درجاتها بحسب المؤلف وانتفائه لنصوص كتابه ، وبحسب
الفن الذي تبحث فيه ، وأيضاً بحسب الوقت الذي ألفت فيه .
الثاني : مصادر فرعية : وهي الكتب التي ألفت بعد عصر الرواية ، سواء كانت
بالأسانيد مثل كتاب (( شرح السنة ) للبغوي ، وكتب ابن الجوزي التي يروي فيها
بالإسناد ، أو كانت محذوفة الإسناد مثل : أحاديث الأحكام ، وكتب شروح
الأحاديث ، وكتب الفقه ، وكتب العقائد ، وكتب الزوائد ، والكتب العامة ، وغير ذلك .
ويلاحظ في موضوع العزو إلى المصادر الأصلية والفرعية ثلاثة أمور :
أ- أن الأصل في العزو يكون إلى مصدر أصلي ، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا عند
الضرورة ، وذلك إذا لم يقف الباحث على النص في مصدر أصلي ، فلا يصح عزو النص
مثلاً إلى (( زاد المعاد )) لابن القيم ، أو (( فتح الباري )) لابن حجر ، أو
(( الجامع الصغير )) للسيوطي – وهو موجود مثلاً في (( مصنف عبد الرزاق )) أو
في (( سنن الترمذي )) أو في (( مسند الإمام أحمد )) .
ب- وقد يجمع الباحث بن العزو إلى مصدر أصلي والعزو إلى مصدر فرعي في حالات
معينة ، مثلأن يذكر صاحب المصدر الفرعي طريقاً جديدة للنص لم يقف عليها
الباحث في مصدر أصلي ، وهو مع ذلك محتاج إليها في دراسته لأسانيد النص ونظره
يف اختلاف وقع في تلك الأسانيد ، فقد يذكر المزي مثلاً في (( تحفة الأشراف ))
، أو ابن حجر في (( التلخيص الحبير )) – طريقاً وقف عليها في مصدر أصلي قد
فقد في لوقت الحاضر ، تكون هذه الطريق عامل حسم في ترجيح الباحث .
ومن الحالات كذلك أن يكون مؤلف المصدر الفرعي قد جكم على النص ، ويريد الباحث
أن ينقل هذا الحكم ، أو يكون المؤلف قد نقل عن إمام متقدم كلمة له في النص
إما بتصحيحه أو بتعليله أو بترجيح رواية على رواية .
ج- العزو إلى مصدر فرعي إذا كان هذا المصدر لا يروي بالإسناد ليس بتخريج للنص
، فقد سبق في تعريف التخريج بأنه ( عزو النص إلى من رواه بإسناده ) وإلحاقه
بمصادر التخريج من باب التجوز فهو عزو في الجملة ، وأيضاً قد يكون بديلاً عن
مصدر أصلي كما تقدم فيأخذ حكمه ، ومن جهة ثالثة قد يحكم على النص أو ينقل حكم
إمام ، وقد سبق أن من عناصر التخريج بيان درجة النص .
ومع هذا فإنه يفرق بين العزو إلى مصدر يروي بالإسناد والعزو إلى مصدر فرعي
محذوف الأسانيد ، فيقال في العزو إلى الأول : خرجه أو أخرجه أو رواه ، ويقال
في الثاني ذكره أو ساقه أو أورده ، ونحو ذلك من العبارات التي تشعر بأنه لم يرو بإسناده .
سابعاً : تحديد المصادر التي يعزو إليها التخريج :
النص الواحد قد يكون مخرجاً في مصادر عديدة من مصادر التخريج الأصلية ، وهنا
يتردد الباحث في عدد المصادر التي يعزو إليها : هل يستوعب ذكر جميع المصادر
التي يقف على النص فيها ، وقد تكون كثيرة فتزيد على العشرين مصدراً أحياناً ؟
وسيجد في هذه الحالة من يلومه ، ويرميه بأنه تعمد الإطالة في التخريج ،
وتضخيم البحث دون ما فائدة جليلة ، إذ ما الفائدة من عزو النص إلى (( ذكر
أخبار أصبهان )) مثلاً ، أو (( فوائد تمام )) – والنص موجود في كتب السنة
الأمهات كـ (( صحيح البخاري )) ، و (( صحيح مسلم )) ، و (( السنن )) الأربعة ؟
وأيضاً فإن الغرض الأول من التخريج هو الوقوف على درجة النص ، وهذا يحصل دون
ركوب مثل هذا المركب الوعر على الباحث وعلى القارئ معاً ، مع أن استيعاب
مصادر التخريج أمر غير ممكن ، وضبط ذلك بما يقف عليه الباحث إحالة على غير ملئ .
وفي مقابل ذلك هل يكتفي المخرج بمصادر معينة ، فيتهم بالتقصير في التخريج
والاستعجال في إخراح البحث ، وسلوك أيسر السبل عليه عل حساب القارئ ؟
وقبل أن أذكر ما أساهم به في إزالة هذا التردد لا بد من النص على حالات لا
ينطبق عليها ما سأذكره ، ومن ذلك الحالات أن يكون الموقوف لا يحتمل الإطالة ،
فهذا لا خلاف أن الاكتفاء ببعض المصادر التي ترشد إلى درجة النص بل والعزو
المجمل إليها – هو الواجب ، وذلك مثل نص في خطبة ، أو في مقال عابر ، أو في بيان حكم بشكل مختصر .
وفي مقابل ذلك فكرة تألأيف موسوعة لفن من الفنون كالسنة النبوية ، أو الآثار
الفقهية ، أو أقوال السلف في التفسير ، ويكون الغرض من هذه الموسوعة استيعاب
مصادر النص بغرض التيسير على الباحثين ، يشترك في تلك الموسوعات باحثون كثر
ضماناً للوقوف على أوسع قدر ممكن من المصادر – فهذا له شأن آخر .
وإنما يقع التردد الذي أشرت إليه آنفاً في مثل تحقيق كتاب متقدم من كتب السنة
، أو تخريج أحاديث ونصوص كتاب فقهي ، أو دراسة خاصة ببعض النصوص ، ولا سيما
في رسائل الدراسات العليا ، فإن بعض الأقسام في الجامعات الإسلامية بدأت تميل
إلى التشديد ، وتكليف الباحث أعباء استيعاب مصادر التخريج ، وإثباتها في البحث .
والذي أراه أن يسلك الباحث منهجاً علمياً يجمع فيه بين الوفاء بالغرض الأول
من التخريج ، وهو الوقوف على درجة النص ، وبين تجنب سلبيات إطالة البحث ، وما
يتطلبه ذلك من عناء على الباحث والقارئ ، بالإضافة إلى أن ترهل البحث – وهو
عبارة عن سمن شحمه ورم ، يتخذ أشكالاً متعددة في كثر من البحوث – يعود على
البحث بالضعف والتزلزل ، ويطبع على صاحبه منهج الجمع والتكثير دون التمييز والتحقيق .
وهذا المنهج يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط :
1- يكتفي الباحث بأمهات مصادر الفن ، ففي السنة مثلاً يكتفي مثلاً بالكتب
الستة ، أو يضيف إليها (( مسند أحمد )) ، أو يضيف أيضاً (( موطأ مالك )) بحسب
نظره واجتهاده ، فيلتزم استيعاب العزو إلى هذه الأمهات ، فكل حديث لا يعزوه
إليها إلى إلى واحد منه يعرف القارئ أنه غير موجود فيما تركه الباحث من مصادر .
2- يلتزم الباحث بذكر مصادر بديلة في حالة عدم وجود النص في المصادر التي
حددها أو في بعضها ، كأن يقول : إذا لم أجد الحديث في (( صحيح البخاري )) ولا
في (( صحيح مسلم )) ذكرت مكانهما كتابين من الكتب التي التزم أصحابها الصحة
مثل : (( صحيح ابن خزيمة )) و (( صحيح ابن حبان )) ، وإن كان النقص من
المصادر في غير (( الصحيحين )) أضفت إلى مصادري ما يكمل عددها من كتب السنة
الأخرى مبتدئاً بالأقدم وفاه ، أو ينص على أسماء المصادر البديلة وترتيبها .
3- يلتزم الباحث بالنظر فيما يستطيع الوقوف عليه من مصادر الفن ، ثم يذكر من
هذه المصادر في تخريجه ما فيه فائدة جديدة ليست في المصادر التي التزم
التخريج منها ، وهذه الوائد قد تكون في المتن كأن يكون لفظ النص الذي يقوم
بتخريجه موجوداً في مصدر خارج المصادر التي التزمها ، أو في ذلك المصدر زيادة
يحسن ذكرها ، وقد تكون في الإسناد كطريق غير موجود في مصادره ، وهو محتاج
لهذا الطريق في نظره في الأسانيد .
وفي كثر من الأحيان تواجه الباحث حالات يعزو فيها إلى مصادر فرعية لا تروى
بالإسناد مع وجود النص في مصادر أصلية ولم يعزه إليها ، لأن العزو إلى هذه
المصادر لا جديد فيه بالنسبة إلى مصادره التي اعتمدها .
وقد يقول قائل : إناطتك إضافة الباحث مصادر في التخريج غير التي التزم
التخريج منهابالفوائد أمر غير منضبط ، ورب فائدة وقعت في ذهن باحث لم يلتفت
إليها باحث آخر ، وأيضاً من الذي يضمن لنا أن الباحث آجال نظره في بقية
المصادر واختار منها ما فيه فائدة ؟ وأمر ثالث وهو أننا عندما نطلب من الباحث
تقصي بقية المصادر فلم لا يثبتها تتميماً للفائدة ؟
أما الأمر الأول : فلا شك أنه اعتراض وجيه ، ولكن أقول إن أمور هذا الفن
مبنية على الاجتهاد ، ولا بأس أن تكل هذا الأمر إلى اجتها الباحث ، وسيظهر من
خلال تطبيق هذا المبدأ تفاوت عقول وخبرة الباحثين ، وما يضيرنا إذا أغفل
الباحث فائدة ، أو ذكر فائدة ليست ذات بال .
وأما الأمر الثاني : فلا مناص منه أصلاً ، فإن كثيراً من شئون البحوث العلمية
منوطو بأمانة الباحثين ، وينبغي تنمية روح الصبر عندهم ، وإشعارهم بعظم
المسئولية ، وسيكون في هذا مجال للمنافسة أيضاً ، ويمثله يتميز الباحث المحقق من ناشر الكتب .
وأما الأمر الثالث : فلا شك أنه موجود في أذهان كثير من الباحثين ، ويطبقه
كثير منهم أيضاً ، ولا يقتصر على مسألة الزيادة في عدد المصادر بل يشمل كافة
أوجه البحوث العلمية ، إذ يرى كثير منهم أن الباحث متى وقف على فائدة فمن
الأفضل له وللقارئ إثباتها ، ولا شك في خطل هذا الرأي وتأثيره سلباً على
مستوى البحوث .
وليست العبرة بكثرة المصادر فقط ، بل أهم من ذلك حسن التعامل مع المعلومات
وانتقائها للقارئ ، وليعلم الباحث أنه متى ما اختار أن يجعل حشر المعلومات –
بل حشو المعلومات – على جساب إتقان البحث وتحريره فإنه واقع لا محالة – فلا
بد أن يتكشف عماذا حطب في ليلة .
ثامناً : ترتيب مصادر التخريج :
أما المصادر الفرعية التي لا تلاوى بالإسناد فيرتبها الباحث على ما هو
المعهود في النقل عن المصادر المتقدمة علينا ، وذلك بترتيبها على حسب وفاة
مؤلفيها المتقدم فالمتقدم ، ولا يعدل عن هذا إلا لسبب عارض رأى الباحث أنه
باعث على تقديم من تأخرت وفاته على من هو متقدم عليه .
وأما المصادر التي لا تروي بالإسناد فهناك عدة طرق يمكن أن يسلكها الباحث :
أ- فله أن يرتب مصادره أيضاً على حسب وفاة مؤلفيها ، فلو أخرج عب الرزاق
وأحمد والبخاري ومسلم نصاً – ورأى الباحث العزو إليها كلها – ابتدأ بعبد
الرزاق ، ثم بأحمد ، ثم البخاري ، ثم مسلم ، لأن ترتيبهم في الوفاة هكذا ،
وهذه الطريقة تصلح لأحاديث ولغيرها .
ب- وله أن يبتدئ بذكر الكتب الستة ( (( الصحيحين )) ، و (( السنن الأربعة ))
أو من أخرج نصه منها ، ويرتبها على ترتيبها المعهود عند العلماء وهو هكذا :
البخاري ، مسلم ، أبو داود ، الترمذي ، النسائي ، ابن ماجه ، ثم بعدها يعود
إلى الطريقة الأولى فيرتب باقي مصادره بحسبالوفاة
وهذه الطريقة أشهر الطرق ولكنها خاصة بالأحاديث النبوية تقريباً ، فإن هذه
الكتب مخصصة لها ، ثم إن بعض المخرجين يلحق بها (( مسند أحمد )) ، ويجعل
الترتيب على الوفاة بعده .
ج- وله أن يرتب مصادره بحسب قربها وبعدها عن النص الذي أمامه ، فإذا وقف على
مصدر لفظه لفظ النص الذي أمامه ابتدأ به ثم الذي يليه وهكذا .
ولا شك أن هذه طريقة وعرة ، ولكن يمكن تسهيلها بالاكتفاء بالبحث عن المصدر
الذي يوافق لفظه لفظ النص الذي معه ، ثم يعود الباحث إلى إحدى الطريقتين
السابقتين ، وممن كان يصنع ذلك الزيلعي في (( نصب الراية )) وغيره ممن يخرجون
نصوص كتب فقهية أو نحوها ، فيحرصون على من خرج نص المؤلف فيذكرونه أولاً .
وأي هذه الطرق سلكها الباحث عليه أن يلتزم بها في بحثه كله ، ولا يعدل عنها
إلا لفائدة راجحة ظهرت له أثناء التخريج ، ولا يصح له – من جهة الاصطلاح – أن
لا يلتزم بمنهج معين ، فيكتب تخريجه كيفما اتفق .
ثم إن هذه الطرق كلها إذا كان الباحث يسرد بالعزو المباشر ، وأما إذا كان
يخرج على الطرق للنصوص فلترتيب المصادر حينئذ شأن آخر ، وفي شرحه هنا تطويل ،
وسأذكره – إن شاء الله تعالى – في كتابة ما يتعلق بدراسة الأسانيد في دراسة لاحقة .
تاسعاً : اختلاف التخريج بحسب المتن الذي يقوم الباحث بتخريجه :
المتن الذي يقوم الباحث بتخريجه لا يخلو من ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون أمام الباحث موضوع مطلق يريد تخريج نصوصه ، مثل : ( بر
الولدين ) أو ( صلة الرحم ) أو ( غزوة الأحزاب ) ، ( مناقب عمر ) – فهذا يخضع
ترتيب النصوص فيه لخطة الباحث ، فقد يكون لبحثه خطة معينة يراعيها في ترتيب
نصوصه ، فيكون البحث مقسماً إلى مباحث ، وكل مبحث يخضع ترتيب النصوص فيه لغرض
الباحث أيضاً ، كان يرتب نصوص كل مبحث بحسب صراحتها في الدلالة عليه ، أو
بحسب قوتها . وقد لا يكون لدى الباحث خطة علمية ، فيرتب نصوصه بحسب قوتها .
وكل نص أراد أن يخرجه عليه أن يراعي في ما يأتي في الحالة الثانية .
الثانية : أن يكون أمام الباحث نص معين لم ينسب إلأى رواية إن كان حديثاً
نبوياً ، ولا إلى قائله إن كان غير حديث ، مثل أن يكون أمامه حديث : (( لا
يدخل الجنة قاطع رحم )) أو حديث (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )) أو أثر ((
كفى بالمرء كذباً أن يحدث بمل ما سمع )) ، ويكون الحديث قد رواه جماعة من
الصحابة أو الأثر قد قاله جماعة منهم أن من غيرهم .
وحينئذ يرتب الباحث أحاديث هؤلاء الصحابة أو آثارهم بطريقة يختارها كأن يبدأ
بالأقوى فالأقوى ، أو بالأقرب إلى اللفظ الذي أمامه .
وكل حديث أو أثر أراد أن يخرجه عليه أن يراعي فيه ما يأتي في الحالة الثالثة .
الثالثة : أن يكون أمام الباحث نصاً ذكره معه رواية إن كان حديثاً أو نسب إلى
قائله إن كان أثراً ، فهذا لا خيار فيه للباحث ، فهو ملزم بتخريج الحديث عن
رواية ، أو الأثر عن قائله ، فإن كان الحديث قد رواه جابر لا يصح أن يخلطه
بحديث غيره من الصحابة ، وهكذا في الأثر ، إذا نسب إلى عمر خرجه عنه ، ولاى
يخلطه بتخريجه عن قائل آخر ، ويراعي في ترتيب مصادره حينئذ ما تقدم في مبحث
(( ترتيب مصادر التخريج )) .
ثم إذا فرغ منه تماماً علرج على أحاديث غيره أو الآثار من غيره إذا كان في
خطته ومن أغراضه أن يخرج شواهد للحديث وللأثر ، وإلا اكتفى بالتخريج المطلوب منه .
عاشراً : اشتباه بعض النصوص على الباحث :
أثناء نظر الباحث في مصادره ليقوم بعزو النص إليهت قد يتردد في عزوه إلى
بعضها ، بسبب اشتباهه في النص الذي وقف عليه هل هو النص الذي يقوم بتخريجه
وقع فيه تغيير شديد أو اختصار في بعض الروايات ؟ أو هو غيره نظراً للاختلاف الكبير بينهما .
وقبل أن أّكر بعض النقاط حول مسألة الاشتباه أسوق بعض الأمثلة التوضيحية
لأحاديث وقع فيها اشتباه لتتضح صورته .
المثال الأول : حديث جابر رضي الله عنه قال : (( قرب للنبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم خبز ولحكم فأكل ، ودعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلى الظهر ، ثم دعا
بفضل طعامه فأكل ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ )) . مع اللفظ الآخر : (( كان
آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ترك الوضوء مما غيرت
النار )) ، فهل اللفظ الثاني مختصر من الأول ؟ أو هو حديث آخر ؟ الراجح أنهما حديث واحد .
المثال الثاني : حديث أبي هريرة : (( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شئ
فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون لا دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح
أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ))
، وعنه بلفظ : أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( أتدرون من
المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال : إن المفلس من
أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا
، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من
حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه
ثم طرح في النار )) . فهل هما لفظان لحديث واحد روي أحدهما بالمعنى ؟ أو هما
حديثان منفصلان ؟ صنيع الأئمة على الثاني :
المثال الثالث : حديث أبي سعيد : (( إن من شر الناس عند الله منزلة يوم
القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه )) ، مع
حديث أسماء بنت يزيد : (( أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله
وسلم والرجال والنساء قعود عنده فقال : لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله ، ولعل
امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها ؟ فأرم القوم فقلت : أي والله إنهم ليفعلون
وإنهن ليفعلن ، قال : لا تفعلوا فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانه فغشيها والناس ينظرون )) .
فهل اللفظ الثاني المطول بمعنى اللفظ الأول المختصر فهو شاهد له ؟ أو هو حديث
مختلف في الموضوع ؟ الظاهر الأول .
وأما النقاط التي وعدت بذكرها آنفاً فهي ثلاث نقاط :
أ- الاشتباه يقع في الحديث الواحد عن صحابي واحد كما تقدم في الأمثلة ، وهذا
له صلة بعزو الحديث ، وله صلة أيضاً بدراسة أسانيد الحديث ، إذ يتردد الباحث
في جعل الحديث الذي في المصدر إسناداً جديداً لحديثه فيفيده في جمعه لمتابعات
إسناده ، أو يلغيه ولا يعتبره .
وأدق من ذلك أنه في بعض الأحاديث إذ اعتبره من أسانيد حديثه يكون علة لإسناده
الذي وقف عليه أولاً ، أو يكون إسناده علة للإسناد الجديد . ومثل هذا لو كان
النص أثر عن صحابي أو غيره ، أو كان تفسيراً لآية ، أو رواية تاريخية .
وقد يقع الاشتباه أيضاً بين حديثين عن صحابيين ، فيتردد الباحث في الثاني هل
هو من شواهد حديثه أو لا ؟ وربما كان أحدهما علة للآخر .
وتوضيح أثر الاشتباه على دراسة الأسانيد بالأمثلة ليس مكانه هذا ، وإنما
الغرض بيان أهمية هذه المسألة في التخريج .
ب- وموضوع الاشتباه في النصوص ليس جديداً ، بل عرض للأئمة في عزوهم للنصوص ،
وفي كلامهم عليها ، ولذلك أمثله منها : حديث عبد الله بن زيد حين سئل عن وضوء
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( ... فغسل يديه ثلاثاً ، ثم غسل
التور فتمضمض واستنثر ثلاث غرفات ، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل
يديه مرتين إلى المرفقين ، ثم أدخل يده فسمح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة
، ثم غسل رجليه إلى الكعبين )) . مع اللفظ الآخر عنه : (( أن النبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم توضأ مرتين مرتين )) ، قال ابن حجر عن اللفظ الثاني : ((
مختصر من حديث مشهور في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ويحتمل
أن يكون هذا المجمل غير المبين لاختلاف مخرجهما )) .
ج- والباحث اليوم ليس أمامه سوى إعمال النظر والاجتهاد فيما يعرض له من
اشتباه ، ويستيعن بقرائن في الإسناد والمتن ، فمن القرائن في الإسناد اتفاق
النخرج بين النصين أو اختلافه ، وذلك إذا كان الاشتباه بن نصين عن صحابي واحد
، والمقصود بالمخرج التابعي الذي روى النص عن الصحابي ، فإن الاتفاق في
المخرج يرجح أن النص واحد ، وبضده إذا اختلف المخرج .
ومن القرائن في المتن أن يظفر الباحث بنص يجمع بين النصين ، فيرجح الباحث حينئذ أنه نص واحد
ويستعين الباحث كذلك بصنيع الأئمة السابقين في عزوهم للنصوص أو في كلامهم
عليها ، ففي الأحاديث مثلاً ينظر في مثل ( تحفة الأشراف )) ، و (( بلوغ
المرام )) ، و (( منفقى الأخبار )) ، و (( رياض الصالحين )) ، و (( الترغيب
والترهيب )) ، و (( التلخيص الحبير )) ، وينظر في كل موضوع مظانه من الكتب ،
إذ قد يجد منهم اتفاقاً على أحد الاحتمالين فيأخذ به ، ما يشبه الاتفاق فيأخذ
به أيضاً .
* حادي عشر : التخريج بالواسطة :
يستعين الباحث بوسائط كثيرة لمعرفة من أخرج النص ، وللوصول إلى مكان النص في
الكتب التي أخرجته ، وهذه الوسائط تختلف درجة الوثوق بها في صوبها وخطئها ،
فمن هذه الوسائط أئمة محققون ، ومنها باحثون معاصرون يقومون بتخريج النصوص
لأغراض مختلفة ، ومنها كتب الفهارس التي وضعت أصلاً لمعرفة من أخرج النص
والدلالة على موضعه .
والذي ينبغي للباحث أن يستفيد من هذه الوسائط دون أن يعتمد عليها في العزو ،
بحيث ينقل العزو منه وينسبه لنفسه ، ما أمكنه ذلك ، وعليه أن يتأكد من صحة
العزو بنفسه ، ويقرأ متن النص الي سيعزو إليه . ذلك أن وجود أوهام في عزو
النص أمر شائع معروف ، والأولى التقليل من هذه الأوهام لا تشرها وتوسيعها .
وسأذكر الآن بعض الأمثلة على هذه الأوهام بعض الأئمة ، وفيهم أئمة محققون ،
وليس الغرض شينهم ، فليس في هذا ما شين فكلنا خطاء ، وإنما الغرض بيان أن هذا
إذا وقع من هؤلاء فهو من غيرهم من باب أولى .ومن هذه الأمثلة :
* حديث عبد الله بن مغفل في غسل الإناء من ولوغ الكلب عزاه ابن الجوزي في ((
التحقيق )) إلى البخاري ، وتبعه الذهبي في (( التنقيح )) والحديث إنما أخرجه
مسلم ولم يخرجه البخاري .
* وحديث المغيرة بن شعبة : (( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ
فمسح بناصيته ، ومسح على الخفين والعمامة )) – عزاه ابن الجوزي في (( التحقيق
)) والذهبي في (( التنقيح )) والمجد ابن تيمية في (( المنتقى )) إلى ((
الصحيحين )) والحديث إنما أخرجه مسلم فقط .
* وحديث عائشة : (( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم زار البين ليلاً ))
– عزاه الذهبي في (( السير )) إلى مسلم ، ثم حكم عليه بالانقطاع ، والحديث
ليسن عند مسلم ، وإنما أخرجه البخاري معلقاً .
* وحديث أبي هريرة مرفوعاً : (( ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء )) –
عزاه ابن القيم في (( زاد المعاد )) إلى (( الصحيحين )) والحديث في البخاري
فقط فلم يخرجه مسلم .
* وحديث أبي برزة الأسلمي مرفوعاً : (( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى
يسأل عن أربع ... )) – عزاه ابن حجر في (( فتح الباري )) إلى مسلم ، والحديث
إنما أخرجه الترمذي ولم يخرجه مسلم .
وبدل على ضرورة أن يقف الباحث على النص في المصدر ولا يكتي بعزو غيره أننا
نرى بعض الأئمة يقلد غيره في العزو فيقع في الخطأ كما وقع الأول .
ومما ينبغي التنبيه عليه في قضية الاهتماد على الواسطة غير ما تقدم ثلاثة
أمور :
الأول : أن بعض الأئمة وكذا الباحثين قد يعزو نصاً فيقصر في عزوه ، فيعزو
مثلاً حديثاً إلأى البخاري وقد أخرجه أيضاً مسلم ، أو العكس ، وقد يعزو
حديثاً إلى (( السنن الأربع )) وهو في (( الصحيحين )) أو أحدهما ، وقد يعزو
أثراً إلى (( شرح معاني الآثار )) للطحاوي وهو في (( مصنف ابن أبي شيبة )) ،
فيركن الباحث إلى هذا العزو ويقول : لو كان في غير هذا المصدر لعزاه إليه هذا
الإمام أو ذاك الباحث ، ولا سيما إذا كان إماماً محققاً أو باحثاً مشهوراً ،
وواقع الأمر بخلاف هذا ، فإن التقصير في العزو موجود كما أن الخطأ موجود .
وعلاج هذا ألا يعتمد الباجث على إمام واحد أو باحث واحد ، بل ينظر في عزو
غيره ، فمثلاً عزو الزيعلي في (( نصب الراية )) يقارن بعزو ابن حجر في ((
التلخيص الحبير )) ، وعزو ابن حجر في (( بلوغ المرام )) يقارنه بعزو المجد
ابن تيمية في (( المنتقى )) .... وهكذا يقارن بكتاب آخر أو أكثر .
الثاني : أن الواسطة التي أعتمد عليها الباحث قد يكون أصاب في العزو ولم يقصر
، وهذا هو الغالب ، ولكن بعض الأئمة له طريقة في العزو تجعل الباحث يقع في
الخطأ إذا لم يراجع النص ويقرأه ، وهذه الطريقة هي عزو أصل النص إلى مصادر
وإن لم تتفق المصادر في التفاصيل ، وقد يكون النص الذي مع الباحث أو جزء منه
غير موجود في بعض هذه المصادر ، فإذا لم يقارن نصبه بما في هذه المصادر وقع
في الخطأ في العزو .
ومن أمثلة ذلك :
* حديث حذيفة : (( كنت مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فانتهى إلى
سباطة قوم فبال قائماً فتنحيت ، فقال : ادنه ، فدنوت حت قعدت عند عقبيه ،
فتوضأ فمسح على خفيه )) ، فهذا الحديث قد يعزوه بعض الأئمة بهذه الطريقة :
حديث حذيفة في البول قائماً أخرجه البخاري ومسلم ، وهذا صحيح لا غبار عليه ،
ولكن اللفظ السابق المفصل لا يصح عزوه إليها ، فإن رواية البخاري ليس فيها
ذكر المسح على الخفين .
* ومثله حديث : (( الإيمان بضه وسبعون – أو بضع وستون – شعبة ، فأفضلها قول
لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان
)) – فإن قول القائل : حديث (( شعب الإيمان )) أخرجه البخاري ومسلم صحيح لا
غبار عليه ، وأما اللفظ المفصل السابق فهو من أفراد مسلم ، إذ ليس في رواية
البخاري جملة : (( فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن
الطريق )) . وكذلك هو في رواية أخرى لمسلم .
الثالث : إذا اكتشف الباحث عدم مطابقة عزو إمام أو باحث لما في المصادر فعليه
أن يتريث في الحكم عليه بالخطأ والوهم ، إذ يحتمل أنه لم يخطئ ، فقد يكون
أراد أصل النص وليس تفاصيله كما تقدمت الإشارة إليه آنفاً ، وقد يكون عزى إلى
نسخة أخرى أو رواية أخرى للكتاب غير التي بين يدي الباحث ، وهذا كثير جداً ،
فمن المعلوم أن الكتب المتقدمة لها نسخ أو روايات متعددة ، فمثلاً (( سنن أبي
داود )) رواه عن أبي داود جماعة ، وفي بعض الروايات زيادة أحاديث على ما في
الروايات الأخرى ، وكذلك (( سنن ابن ماجه )) يوجد في بعض نسخه ما ليس في
الأخرى ، وكذا (( مسند أحمد )) فقد تأكد للباحثين سقوط أحاديث كثيرة من
النسخة المتداولة اليوم .
وإذا ضاقت السبل بالباحث فلم يجد بداً من نسبة الوهم إلى من وقع فيه فليتطلف
بالعبارة ولا يشنع ، فإن بعض الباحثين ربما فعل هذا ، فأكثر من وضع علامات
الاستفهام والتعجب ، وهذا ينافي المنهج العلمي الصحيح في وجوب رعاية حق من
سبقه في العلم ، لا سيما إذا كان إماماً يستفيه الباحث من تخريجاته في كل نص
، مع ملاحظة أن وقوع الوهم والخطأ من عوارض البشرية ، فجل من لا يخطئ ، ورحم
الله امرءاً سدد خطأ وتسامح عن هفوة .
(1) ومن الألفاظ التي استعملها المتقدمون لفظ (( بمثله )) كما في (( صحيح
مسلم )) نادرة يراد بها التطايق في اللفظ ، وتارة بمعنى (( بنحوه )) عند
المتأخرين .
المحضار
بسم الله الرحمن الرحيم
ملحوظة :
هذه المذكرة تشتمل على : التمهيد ، والفصل الأول ، وأما الفصل الثاني وهو
المتعلق بشرح طرق التخريج فنظراً لضيق الوقت يكتفي فيه بالتطبيق العملي ،
فليعلم ذلك .
الكتب المطلوبة في التخريج العملي :
1- (( تحفة الأشراف )) للمزي .
2- (( المعجم المفهرس لألفاظ الحديث )) .
3- (( مفتاح كنور السنة )) .
4- (( التلخيص الحبير )) لابن حجر .
5- (( نصب الراية )) للزيلعي .
6- (( المقاصد الحسنة )) للسخاوي .
7- (( كشف الخفاء )) للعجلوني .
8- (( الجامع الصغير )) للسيوطي .
9- (( صحيح البخاري )) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، مطبوع مع (( فتح الباري
)) لابن حجر ، ومطبوع كذلك لوحده ، وإن لم يتيسر فهناك طبعتان بديلتان :
الطبعة التركية وتسمى (( طبعة استنانبول )) ، وطبعة مصطفى البغا ، ولكن في
هاتين الطبعتين اختلاف يسير في الترقيم ، فيتقدم الباحث برقم أو رقمين ، أو
يتأخر كذلك .
10- (( صحيح مسلم )) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي .
11- (( سنن أبي داود )) تحقيق عزت الدعاس .
12- (( سنن الترمذي )) تحقيق كمال الجوت .
13- (( سنن النسائي )) الطبعة المرقمة نشرها المكتب الإسلامي للتراث ( ويحتمل
أن يكون اسمه : مكتب التراث الإسلامي ) . وإن لم تتيسر فالطبعة التي رقمها
الشيخ عبد الفتاح أبو غدة .
14- (( سنن ابن ماجه )) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي .
15- (( سنة الدارمي )) تحقيق عبد الله هاشم ، أو تحقيق مصطفى البغا ، أو
الطبعة التركية ( استنانبول ) .
16- (( موطأ مالك )) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي .
17- (( مسند أحمد )) النسخة المصورة في دار صادر ببيروت عن طبعة بولاق . وهي
في ست مجلدات ، وبأولها فهرس الشيخ الألباني ، وبحواشيها (( كنز العمال )) .
تمهيد :
ظل التأكد من صحة ما ينسب إلى السابقين من أقوال وأفعال شغل بال الباحثين في
كل وقت ، ويزداد هذا الأمر أهمية حين يتعلق بعقائد الناس وأمورهم الشرعية
الأخرى من حلال وحرام وترغيب وترهيب .
وقد خص الله تعالى هذه الأمة بخصيصة (( الإسناد )) ، وهو نقل أقوال وأفعال
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته وتابعيهم والأحداث التي وقعت
في عصور الإسلام الأولى بالأسانيد ، وشمل هذا فيما بعد كافة أوجه النشاط
العلمي الإسلامي ، من حديث وتفسير وفقه وتاريخ ولغة وأدب ... ، فبذل علماء
هذه الأمة غاية وسعهم في ضبط هذه الأسانيد ودراستها وتفحيصها ، وتأليفها
وجمعها في كتب تيسر للمسلمين معرفتها والاستفادة منها .
ومع مرور الوقت :وتطاول الزمن وضبط المرويات وتدوينها – برزت الحاجة – إلى
حذف الإسناد عند الاستدلال ونسبة الأقوال والحكايات إلى أصحابها ، والاكتفاء
بنسبة النص إلى صاحبه تارة بذكر الراوي الأخيرة وتارة أخرى بحذفه .
ولما كانت معرفة صحة هذه النسبة تتوقف على الوقوف على الإسناد كان لزاماً
بيان من روى النص بإسناده لينظر في صحته ، وقد تولى هذه المهمة منذ بروز
الحاجة غليها حتى الآن أئمة فضلاء وباحثون أجلاء .
وفي كل هذه المراحل عرف هذا العمل بـ (( التخريج )) على اختلاف مفهوم هذه
الكلمة بحسب الحاجة إليها في كل وقت ، ويمكن للباحث أن يرى تطور مفهوم هذه
الكلمة خلال العصور ، وأنها قد مرت بأطوار خمسة متميزة :
الطور الأول :
رواية النص بإسناده إلى قائله في كتاب مصنف .
وهذا الطور يشمل عصر الرواية ، وهو عبارة عن القرن الثاني والثالث والرابع من
الهجرة .
فيقال في التعبير عن رواية النص بالإسناد في كتاب مصنف : أخرجه البخاري ، أو
مسلم ، أو أبو داود ، أو الطحاوي ، أو الطبري ، أو غيرهم من المؤلفين في هذا
العصر .
وسمي عملهم هذا تخريجاً للنص وإخراجاً له لأن أصل الخروج في اللغة بمعنى
البروز ، فكأن المؤلف أبرز هذا النص وأظهره للناس حين وضعه بإسناده في كتابه
، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإن إسناد النص يعرف عند العلماء بالمخرج ،
فكأنه الطريق الذي خرج منه هذا النص ، وحينئذ فرواية المؤلف للنص بإسناده
تخريج له لأنه عرّف الناس بمخرجه .
والذي يظهر لي – والله أعلم – أن كلا الأمرين له صلة يوصف هذا العمل بالتخريج
، وتسمية مؤلفه بالمخرج ، وذلك أن رواي النص إذا لم يضعه في كتاب له لا تسمى
روايته له تخريجاً ، وإلا لأصبح الراوة كلهم مخرجين ، ولس الأمر كذلك ، وكذلك
المؤلف إذا وضع نصاً في كتابه دون أن يذكر إسناده لا يقال له في الاصطلاح أنه
أخرجه ، وإن قيل ذلك على سبيل التجوز فلا بد من تقييده ، وإنما يقال : ذكره ،
وأورده ، وساقه ونحو ذلك .
فظهر من هذا ملاحظة الأمرين في تسمية هذا العمل تخريجاً : روايته بإسناد
ووضعه في كتاب مصنف
الطور الثاني :
في أثناء عصر الراوية وقبل انقراضه برز نوع من التخريج فيه معنى ما في الطول
الأول – وهو رواية الحديث بإسناده في كتاب مصنف – وزيادة على ذلك وهو : تخصيص
كتاب من كتب السنة وإخراج الأحاديث الموجودة فيه بأسانيد للمؤلف الثاني لا
بمر بها على المؤلف الأول : ويلتقي فيه بشيخه أو من فوقه حتى الصحابي ، ولأجل
هذه الزيادة سمي عملهم هذا : اسنخراجاً .
فاستخراج الأئمة على (( الصحيحين )) ، وعلى (( سنن الترمذي )) ، و (( سنن أبي
داود ))وكثرت المؤلفات من هذا النوع ... وومن عمل مستخرجاً في أثناء عصر
الرواية : أبو علي الطوسي ، عمله على (( سنن الترمذي )) وهو من أقران الترمذي
، وكانت وفاته سنة 308هـ ، وكذلك أبو بكر محمد بن رجاء النيسابوري المتوفى
سنة 286هـ ، وهو من أقران مسلم ، وعمل على كتابه (( الصحيح )) مستخرجاً ...
واستمر هذا النوع من التصنيف حتى قبيل نهاية القرن الخامس .
الطور الثالث :
بعد انقراض عصر الرواية واستكمال تدوين السنة أخذ التخريج معنى جديداً ، وهو
أن يروي النخرج الحديث بإسناد يمر به على كتاب مصنف سابق في عصر الرواية مثل
: (( صحيح البخاري )) ، و (( سنن أبي داود )) و (( مسند أحمد )) و (( مصنف
عبد الرزاق )) ، ثم بعد ذلك يعزوه دون إسناد إلى كتب أخرى يريد التخريج منها
، وممن يكثر من هذا العمل البيهقي في (( سننه الكبرى )) وكتبه الأخرى ،
والبغوي في (( شرح السنة )) وابن الجوزي في (( التحقيق )) وغيره من كتبه
وكثيراً ما ينصون على موضع التقاء إسناد من عزوه إليه بالإسناد الذي ساقوه ،
ويحدد بعض الباحثين هذا الطور بنهاية القرن السادس .
الطور الرابع :
نهجوا منهج من سبقهم في الطور الثالث ، واستحدثوا مع ذلك طريقة جديدة اضطرهم
إليها بعدهم عن عصر الراوية ، فطالت الأسانيد ، وهذه الطريقة هي العزو
المباشر إلى كتاب السنة الأولى دون سوق أسانيد .
وأكثر كتبهم في التخريج على الطريقة الجديدية ، فمن ذلك كتب الأحكام : ((
عمدة الأحكام )) للمقدسي ، و (( الإلمام )) لابن دقيق العبد ، و (( المحور ))
لابن عبد الهادي ، و (( بلوغ المرام )) لابن حجر ، وكذلم الكتب المخصصة
لتخريج أحاديث معينة من كتب الفقه وغيرها ، مثل (( تحفىة الطالب )) لابن كثير
، و (( تحفة المحتاج )) لابن الملفق ، و (( نصرب الراية )) للزيلعي ، و ((
التلخيص الحبير )) لابن حجر ، وغيرها .
ومن الكتب المؤلفة على طريقة أصحاب الطور الثالث : (( نتائج الأفكار في تخريج
أحاديث الأذكار )) و (( تعليق التعليق )) وهما لابن حجر . ويمكن جعل مهاية
القرن التاسع حداً لانتهاء هذا الطور .
الطور الخامس :
وبعد القرن التاسع إلى وقتنا الحاضر اكتفى المخرجون بعزو الأحاديث إلى كتب
السنة الأولى دون سوق أسانيد إلا في النادر جداً ، وهذا النادر غير مستساغ
أيضاً ، وذلك لطول الإسناد وعد الحاجة إليه .
والمراد بسوق الأسانيد أن يقول المخرج : حدثنا فلان ، قال : حدثنا فلان ...
إلى أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو إلى صاحب الأثر ،
فهذا هو الذي حذفه أهل الطور الرابع في غالب تخريجهم ، وكذلك أهل الطور
الخامس ، وأما ذكر الإسناد من كتب السنة الأولى كأن يقول : أخرجه البخاري عن
فلان عن فلان ... فهذا موجود في الطورين بكثرة وله أهميته في بيان درجة النص .
والمتأملفي تطور مفهوم كلمة: (( التخريج )) ومتابعة تطبيقها في عصورها يلاحظ
عدة أمور :
أ ـ الأطوار الخمسة – كما هو ظاهر – بينها تداخل فب وقتها الزمني ، فظهور
معنى جديد للتخريج لا يعني ترك ما قبله بالكلية ، فالغرض من ذكر هذه الأطوار
بيان ما هو الغالب على كل عصر في معتى التخريج ، وما هو الأليق به بالنسبة
لحاجة النصوص إلى تمييز صحيحها من سقيمها .
ب ـ تقدم في ذكر الطور الأول وجه إطلاق هذه الكلمة على رواية النص بإسناده في
كتاب مصنف ، والملاحظ أن الأطوار الأربعة اللاحقة لها صلة قوية بهذا المعنى ،
حتى حين أخذ التخريج شكل العزو المجرد دون رواية الحديث بالإسناد ، وذلك أن
العزو يكون إلى من روى النص بالإسناد في كتاب مصنف فهو دلالة على من أخرج
النص ، فصح أن يسمى هذا العمل تخريجاً .
ج ـ ظهر أن هناك اختلافاً في معنى التخريج في أطواره الخمسة ، وذلك تبعاً
لحاجة النصوص في كل عصر من العصور التي مرت بها ، وهو في كل ذلك له قواعد
وضوابط يسير عليها المخرجون .
واليوم قد عمت العالم الإسلامي نهضة مباركة هدفها خدمة النصوص وتقريبها للناس
، مع تمييز صحيحها من سقيمها ، وتحقيق الكتب المتقدمة التي تروى بالإسناد ،
ودراسة أسانيدها – اتجه الباحثون إلى شرح وتوضيح طرق التخريج التي يمكن أن
يوصل عن طريقها إلى مكان النص في مصادره الأصلية ، كما اتجهوا إلى تحرير
قواعد وضوابط أخذوها من تصرفات السابقين وعملهم ومما مر بهم من تجارب في
تخريج النصوص ، لكي يستعين بهذه الطرق ويسير على هذه الضوابط والقواعد من
يأتي بعدهم ، فظهر في التخريج كفن مستقل عرفه بعضهم بأنه (( معرفة القواعد
الموصلة إلى معرفة كيفية تخريج النصوص وبيان درجتها عند الحاجة )) .
واتضح من هذا الفرق بين ( علم التخريج ) وبين ( التخريج ) ، فالتخريج عمل
الباحث في تخريج النصوص ، وعلم التخريج الطريق التي يسلكها للوصل إلى النصوص
في المصادر ، والقواعد والضوابط التي تحكم عمله .
د ـ (( عزو النص إلى رواه بإسناد في كتاب مصنف ، مع بيان فروق المتن ودرجة
النص )) .
هذا تعريف التخريج الذي استقر عليه الاصطلاح في الوقت الحاضر فمن وفي بما في
هذا التعريف فقد أتى بتمام التخريج .
وبما أن التعاريف تصان عن الإسهاب والتطويل – فإن تحت هذا التعريف تفاصيل
وقيود تحتاج إلى شرح وإيضاح ، هذه التفاصيل والقيود هي قواعد وضوابط التخريج
، وكيفية وصول الباحث إلى مكان النص في الكتاب المصنف ليطبق هذه القواعد
والضوابط هي طرق التخريج .
وبالنسبة لبيان درجة النص وذكره في التعريف – فلا شك أن معرفة درجة النص هي
الغاية من كافة العلوم المتعلقة بالمرويات ، وقد كان السابقون – بعد إتمام
عملية التدوين – قد تولوا هذه المهمة ، تارة بتأليف كتب يلتزم فيها أصحابها
اختيار النصوص وانتقائها مثل(( موطأ مالك )) ، و (( صححي البخاري )) ، و ((
صحيح مسلم )) ، وتارة بالنص على درجة النص مثل (( سنن الترمذي )) ، وتارة
بتأليف كتب للكلام على النصوص وأٍانيدها مثل : كتب العلل ، وفي كثر من الأحين
يكتفون بذكر الإسناد عن بيان درجته ويقولون : (( من أسند فقد أحالك )) يعني
ترك للقارئ معرفة درجة الإسناد .
ومع بعد الناس عن عهد الرواية وتقاصر الهمم صارت معرفة درجة النص أمر غير
ميسور حتى بالنسبة لطلبة العلم ، ولذا اشترط الباحثون بيان درجة النص في
التخريج .
والذي يظهر ليأن بيان درجة النص من تمام التخريج ، وأن الاكتفاء بعزو النص
دون بيان درجة يسمى تخريجاً وإن كان فيه قصور عن الأول ، وليس كل باحث مخرج
يستطيع الوفاء ببيان درجة النص ، وإشعار الباحثين بهذا الإلزام دفع ممن لا
يحسن هذا العمل إلى اقتحامه والتخبط فيه .
وهذه الرسالة الصغيرة : إسهاماً في توضيح الطرق التي توصل الباحث إلى أماكن
النصوص في مصادرها ، وتحرير قواعد وضوابط في عزو النص وبيان فروق المتن وتكون
البداية بالثاني منهما في فصل ، ثم الأول منهما في فصل آخر .وأما ما يتعلق
ببيان درجة النص :فله شأن آخر وعلم آخر ، وسأكتب فيه ما يتيسر في رسالة أخرى
إن شاء الله تعالى .
الفصل الأول
قواعد وضوابط في التخريج
وفيه المباحث التالية :
أولاً : المراد بالنص المأثور .
ثانياً : معنى العزو.
ثالثاً : بيان فروق المتن .
رابعاً : بيان درجة النص .
خامساً : التخريج الإجمالي والتفصيلي .
سادساً : تقسيم مصادر التخريج .
سابعاً : تحديد المصادر التي يعزو إليها المخرج .
ثامناً : ترتيب مصادر التخريج .
تاسعاً : اختلاف التخريج بحسب النص الذي يقوم الباحث بتخريجه .
عاشراً : اشتباه بعض النصوص على الباحث .
حادي عشر : التخريج بالواسطة .
أولاً : المراد بالنص المأثور :
كل نص نسب إلى قائل متقدم فهو بحاجة إلى تخريج ، وتختلف أهمية هذا النص من
جهتين :
الأولى :من جهة قائلة ، فلا شك أن أعظم النصوص وأهمها في هذا الباب نصوص حديث
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، حتى أن كثيراً من الباحثين يعبر في
تعريف التخريج بأنه : (( عزو الحديث ... )) فاخترت التعبير بالنص المأثور
ليكون أعم وأشمل .
ويلي نصوص حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نصوص صحابته رضوان
الله عليهم على اختلاف طبقاتهم ، ثم من بعدهم ... وهكذا ، وإن كان الأمر في
العصور المتأخرة صار من حيث الجملة ، وقد يكون قول إمام متأخر أهم من قول
إمام متقدم عليه .
الثانية :من جهة العصر الذي قيل فيه النص ، فأهم العصور في موضوع التخريج عصر
ما قبل التدوين ، حين كانت النصوص في الأغلب الأعم تتناقل مشافهة ، وكان
الاعتماد على الأسانيد ، وأما بعد عصر التدوين فإن أقوال الأئمة عادة تكون
موجودة في كتبهم التي اشتهرت عنهم شهرة استغنى بها عن روايتها بالأسانيد ،
فإذا لم يكن صاحب النص مؤلفاً فإننا نحتاج إلى تخريج نصوصه وإن كان في عصر
التدوين والتأليف ، لإننا حينئذ نعتمد على الإسناد ، مع أن الباحثين اصطلحوا
على تسمية تخريج نصوص الأئمة بعد عصر التدوين ويعنون بها أقوال من كانوا قبل
عصر التدوين ، ويقولون : توثيق النصوص ويعنون بها أقوال الأئمة بعد عصر
التدوين ، مثل أقوال أئمة الجرح والتعديل ، هذا من جهة الاصطلاح ، وإلا فإن
المعنى في الحالين واحد .
ثانياً : معنى العزو :
العزو ذكر من روى النص على الشريط المذكور في التعريف ، ويعبر عنه الباحث
بقوله : رواه فلان ،أو أخرجه فلان ، ومن تمام العزو أن ينص الباحث على مكان
وجود النص في الكتاب المعزو إليه بذكر الأمور التالية :
اسم الكتاب داخل الكتاب المصنف ، واسم الباب ، ورقم الجزء والصفحة ، ورقم
الحديث ، فيقول مثلاً :
أخرجه أبو داود في (( سننه )) في ( الحج ) ( باب ما يلبس المحرم ) ؟ : 410 حديث 1823 .
ويستوفي الباحث هذه الأمور بحسب ما توافرمنها في الكتاب المعزو إليه فيعفى من
رقم الحديث إن لم تكن النسخة مرقمة الأحاديث ، ويعفى من اسم الكتاب والباب
إذا لم يكن الكتاب مرتباً على الأبواب .
وبالنسبة لترتيب الأمور السابقة له أن يسلك غير هذا الترتيب ، فيذكر مثلاً
رقم الجزء والصفحة قبل اسم الكتاب والباب ، وقد يقدم أيضاً رقم الحديث ، فإذا
اختار ذلك فيحسن به أن يلتزمه ولا يخرج عنه في بحثه كله .
وإذا كان لأحاديث الكتاب رقمان : عام للمؤلف كله ، وخاص بالكتاب المعين
كالصلاة مثلاً وذلك في مثل (( صحيح مسلم )) فللباحث أن يختار أحد الرقمين ،
وإن كان الأولى في نظري أت يختار الإحالة على الرقم العام ، وإذا اختار
أحدهما فعليه أن يلتزم ذلك أيضاً .
ويكثر من طلاب الحديث السؤال عن ذكر الطبعة للكتاب ، وهذا ليس من أمور
التخريج في شئ ، والجواب عنه في مادة (( مناهج البحث )) والمستحسن في هذا أن
يلتزم الباحث طبعة يكون قد اختارها لما فيها من مميزات مثل كونها محققة
تحقيقاً علمياً ، أو كونها مرقمة الأحاديث ، أو نحو ذلك ، ثم يذكر ما يتعلق
بطباعتها في ذكر المراجع في نهاية البحث ، فإذا احتاج إلى العزو إلى طبعة
أخرى لغرش من الأغراض نص عليه في مكانه ، ومثل هذا يقال في لعزو إلى النسخ المخطوطة .
والأمور السابقة في تمام العزو يمكن اختصارها من جهتين :
الأولى : حذف اسم الكتاب المؤلف استغناء بشهرته إذا ذكر مؤلفه ، فيقال في
المثال السابق : أخرجه أبو داود في (( الصلاة )) ... ، وهكذا في البخاري
ومسلم والترمذي وغيرهم من المؤلفين ، فإذا عزا الباحث إلى مؤلف آخر لذلك
الإمام فلا بد من النص على تسميته ، مثل أن يعزو إلى (( المراسيل )) لأبي
داود ، أو إلى (( الشمائل )) للترمذي .
ويضع الباحث في مقدمة بحثه قائمة بأسماء الكتب التي التزم حذفها استغناء
بشهرة نسبتها إلى مؤلفيها
الثانية : المز للمؤلف بحرف أو حرفين من اسمه بدلاً من ذكره كاملاً ، مثل : خ
= للبخاري ، د = أبو داود ، قط = الدار قطني ...
ثالثاً : بيان فرق المتن :
جرى التدوين العام للسنة وأقوال الصحابة والتابعين في عصر متأخر من الوقت
الذي قبلت فيه ، والاعتماد في الغالب على نقلها مشافهة ، فإذا أضيف إلى ذلك
أن كثيراً من الرواة يروون النصوص بالمعنى – أمكننا أن ندرك بسهولة السبب في
وجود الاختلاف في ألفاظ الرواة في النص الواحد .
ثم إذا عرفنا أهمية هذه النصوص واحتياج الأمة إليها في تشريع – أدركنا أيضاً
ضرورة معرفة اختلا ألأفاظ الرواة ، وهو المعبر عنه ببيان فروق المتن ، فمعناه
حينئذ : ذكر الاتفاق والاختلاف بين النص الذي أمام الباحث ويقوم بتخريجه وبين
ما في المصدر الذي يعزو إليه .
ولما كانت الاختلافات والزيادة والنقص في الروايات كثيرة في بيان فروق المتن
تحكمه الضوابط التالية :
أ- وضع ضابط علم فيما ينبغي الاعتناء له من هذه الاختلافات أمر غير ممكن ،
والذي يحكم هذا نوع من البحث الذي يدخل فيه تخريج ذلك النص ، فإذا كان الباحث
في موضوع فقهي فلا شك أن مجال عنايته ألأفاظ النص التي تستنبط عنها الأحكام ،
وعلى الأخص ما يتعلق بموضوعه الذي يبحث فيه ، وكمثال على هذا نقد بعض الأئمة
للبيهقي عند روايته حديث : (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) فإنه بعد أن روله
بإسناده عزاه إلى (( صحيح مسلم )) مع أن الموجود في (( صحيح مسلم )) بلفظ :
(( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )) وبين اللفظين فرق كبير من جهة حكم فقهي ، مع أن
البيهقي يمكن أن يلتمس له عذر فيه صنعه .
ولهذا يقولون لو كان الباحث يخرج نصوص كتاب في(( الغريب )) فإن عليه أن يعتني
بهذا الجانب في بيان فروق المتن ، وكذا لو كان يخرج نصاَ جرى مجرى المثل عليه
أن يوليه عناية تخدم الغرض الذي من أجله سيق النص وهو جريانه مجرى المثل .
والخلاصة أن هذا الأمر منوط بفقه الباحث في التخريج وبخبرته وكثرة مرانه .
ب – تقدم أن من فقه التخريج أن لا يلتزم الباحث تفصيل بيان فروق المتن وأنه
يفعل ذلك بحسب الحاجة ، ولكن ما يتركه الباحث دون تفصيل عليه أن يفعله على
طريق الإجنال ، وقد يجمع بين الأمرين : يفصل شيئاً ويجمل ما بقي ، وهذا أيضاً
راجع إلى فقه المخرج ودرايته .
وقد استخدم الأئمة والباحثون مصطلحات في بيانهم لفروق المتن والاتفاق
والاختلاف بطريقة مجملة ، يختار منها الباحث ما يناسب النص الذي معه ، ومن
هذه المصطلحات :
1- بلفظه : يستعملها الباحث إذا كان النص الذي أمامه موافقاً للنص في المصدر
الذي يعزو إليه .
2- بنحوه : إذا كان الاختلاف بين النص يسيراً .
3- بمعناه : إذا كان الاختلاف بين النصين واسعاً واتفقا في المعنى مع ملاحظة
أن كثيراً من الأئمة يعبر بإحدى الكلمتين ( بنحوه ، بمعناه ) في مقام الأخرى
، ولكن الباحثين في الوقت الحاضر مالوا إلى التدقيق ، ففرقوا بينهما كما سبق
، مع أن في التفريق بينهما عند التطبيق الذي صعوبة قد تواجه الباحث ، والأمر
في ذلك واسع(1) .
4- مختصراً : إذا كان النص في المصدر الذي يعزو إليه فيه اختصار وحذف بالنسبة
للنص الذي أمام الباحث .
5- مطولاً : إذا كان النص في المصدر الذي يعزو إليه فيه طول في السياق
بالنسبة للنص الذي أمام الباحث .
6- في أثناء حديث : إذا كان النص الذي أمام الباحث موجوداً في المصدر الذي
يعزو إليه في ضمن حديث مطول .
ويحتاج الباحث إلى دقة في استعمال هذا المصطلح ، إا قد يشتبه عليه بمصطلح :
مختصراً ، مع أن بينهما فرق ، فالاختصار معناه أن الحديث واحد ووقع اختصار
وحذف في السياق ، وأما الآخر فالحديث مختلف ، وقد لا يكون له علاقة لباقية
للنص الذي يخرجه الباحث .
7- في أوله أو في آخره زيادة أو قصة : إذا كان الحديث بهذه الصفة في المصدر
الذي يعزو إليه الباحث .
8- مفرقاً : إذا كان النص الذي أمام الباحث موجوداً في المصدر الذي يعزو إليه
في أماكن متفرقة في الكتاب ، في كل مكان جزء من الحديث وفي مجموعها النص كله .
9- ملفقاً : إذا كان النص الذي أمام الباحث موجوداً في المصدر الذي يعزو إليه
وكنه في عدة أحاديث ، وذلك مثلاً إذا كان النص حديثاً فبعضه عن أبي هريرة ،
وبعضه عن عائشة ، وبعضه عن جابر ، وقد يكون الجميع عن صحابي واحد وهي أحاديث متفرقة .
وفي كثير من الأحيان يجمع الباحث بين مصطلحين عند الحاجة إلى هذا ، فيقول
مثلاً : أخرجه أحمد ... مختصراً في أثناء حديث ، أو بلفظه وفي آخره قصة أو بمعناه مطولاً .
ج- لا يظن الباحث أن مسألة الإجمال في بيان فروق المتن قصد بها الاختصار
تخفيفاً على الباحث المخرج ، وإنما ذلك من حق القارئ أيضاً ، فكما ألزم
الباحث بالتفصيل عند الحاجة أمر بالإجمال عند عدمها .
ولا شك أن هذا يحتاج إلى خبرة وممارسة طويلة للتخريج ليكون عند البحث فقهاً
في هذا الجانب ، ومما يساعد على تكوينه أيضاً القراءة في كتب الأئمة الذين
فعلوا هذا في عصر الرواية أو بعده ، وأخص بالذكر (( صحيح الإمام مسلم )) فكله
أمثلة تطبيقية ، مع ضرورة قراءة تعبيره عن منهجه المتعلق ببيان فروق المتن ،
وذلك في مثدمة صحيحه .
ح- إذا كان الباحث يعزو نصاً إلى أكثر من مصدر فلا ينبغي له أن يفرق بيان
فروق المتن بحيث يذكر فرق ما في كل مصدر بعد ذكر المصدر نفسه ، ففي هذا العمل
إطالة لا داعي لها ، ويغني عنها أن يؤخر بيان الفروق حتى يفرغ من سرد المصادر .
والسبب في ترجيح هذا ظاهر ، إذ قد يتفق مصدران أو ثلاثة أو أكثر في صفة النص
الذي فيها ، فيجملها الباحث بالتعبير عن الجميه بمصطلح واحد ثم يعبر عن
الباقي بما يناسبه ، وقد يصطلح للباقي أيضاً مصطلح آخر لا أكثر .
وليس المراد بهذا تقييد الباحث ، فله أن ينفلت منه إما في بعض نصوصه أو في
بحثه كله ، بشرط أن يظهر لديه مرجح للتفريق خدم به القارئ وزاده فائدة .
والخلاصة هو أن الأصل جمع مصادر التخريج في نهاية العزو ، وأن الخروج عن هذا
الأصل يحتاج إلى مرجح قوي يحسن بالباحث أن يبينه ويشرحه في مقدمة البحث أو
الكتاب .
رابعاً : بيان درجة النص :
تقدم في التمهيد عند تعريف التخريج في الاصطلاح الحاضر أن كثيراً من الباحثين
يجعل بيان درجة النص من صلب التخريج ، وأنهم لا يسمون عمل الباحث تخريجاً إذا
لم يف بذلك ، ويسمون عمله عزواً ، وأن الذي يظهر لي أنه يسمى تخريجاً وإن كان
فيه نقص .
وينبغي أن يعرف هنه أن النصوص ليست كلها تحتاج إلى بيان درجتها ، فمن النصوص
ما يغني عزوه إلى مصادره عن بيان درجته ، فالعزو إلى صحيح (( البخاري )) و ((
صحيح مسلم )) كاف في الدلالة على صحة النص ، وليس ذلك لغير هذين الكتابين ،
مع التنبيه إلى أن النص إذا كان حديثاً نبوياً فيتأكد من عزوه إلى أحد هذين
الكتابين أنه فيه عن ذلك الصحابي الذي أمامه ، فقد يكون الحديث عند الباحث عن
صحابي وهو فيهما ، أو في أحدهما عن صحابي آخر ، وهذا وإن كان يشمل غيرهما –
كما سيأتي التنبيه عليه – إلا أنه فيهما آكد ، لأن مجرد العزو إليهما دال على
صحة الحديث ، وقد يصح الحديث عن صحابي ولا يصح عن صحابي آخر .
وفي مقابل التصحيح هناك كتب يدل على العزو إليها على أن النص موضوع على من
نسب إليه أو ساقط الدرجة ، وذلك مثل : كتب الأحاديث الموضوعة كـ (( الموضوعات
)) لابن الجوزي و (( اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة )) للسيوطي و ((
العلل المتناهية في الأحاديث الواهية )) لابن الجوزي .
وهذا النوع يحتاج إلى تحرٍ خشية أن يكون المؤلف لم يوافق على حكمه على النص .
فإذ لم يكن النص من أحد هذين النوعين فيحتاج حينئذ إلى بيان درجته ، ولا يخلو
الباحث حينئذ من حالين .
الأولى : أن يكون لديه القدرة على دراسة الأسانيد ولديه الرغبة والجرأة على
الحكم غليها – فهذا يولى ماتولى ، فيحكم بما أدى إليه اجتهاده ـ وسيأتي في
دراسة قادمة الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يحق له الاجتهاد ، ومتى يجتهد ؟
وكيف يجتهد ؟ وعموم ما يتعلق بدراسة الأسانيد من قواعد وضوابط .
الثانية : أن لا تكون لديه القدرة على الاجتهاد ، أو لديه القدرة ولكن يرى أن
سد هذا الباب لئلا يلج منه من لا يحسنه كما هو حاصل الآن أولى من الاجتهاد –
فهذا يبحث في كتب الأئمة الذين تكلموا على النصوص لعلة يقف على من ذكر درجة
للنص الذي أمامه ، وذلك مثل كتب تخريج النصوص التي تكلم فيها الأئمة على
النصوص تصحيحاً وتضعيفاً ، وجمعوا فيها أقوال من سبقهم كـ (( نصب الراية ))
للزيلعي و (( التلخيصالحبير )) لابن حجر ، و (( المقاصد الحسنة )) للسخاوي ،
و (( كشف الخفاء )) للعجلوني ، وكذلك يستعين بكتب وتحقيقات الباحثين في الوقت
الحاضر لعله يجد فيها شيئاً من كلام الأئمة على النص .
وينبغي أن يتنبه الباحث إلى شئ مهم هنا وهو أن يكون أميناً في نقل كلام
الأئمة ، فإذا وجد إماماً صحح الحديث وآخر ضعفه نقل كلام الاثنين ، ليعرف
القارئ أن هذا الحديث مختلف في درجته ، ذلك أن بعض الباحثين يذكر من كلام
الأئمة ما يعجبه وما يرغب أن يكون النص عليه ، وهذا ينافي الأمانة العلمية .
وإذا لم يقف الباحث على كلام لأحد سبقه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها ،
ويسكت حينئذ ، ولا بأس أن يشير إلى أنه لم يقف على كلام لأحد في هذا النص .
خامساً : التخريج الإجمال والتفصيلي :
عزو النص إلى من أخرجه ، وبيان فروق درجة النص تشكل عناصر التخريج الرئيسية ،
فمن وقى بها فقد أتى بتمام التخريج .
وكل واحد من هذه العناصر يمكن عرضه بصورة مفصلة ، كما يمكن عرضه أيضاً بصورة مجملة .
وأظهر ما يمكن التمثيل به للتفصيل والإجنال العنصر الأول وهو عزو النص ، فقد
تقدم أن تمام العزو يتضمن ذكر اسم الكتاب المؤلف ، واسم الكتاب داخل الكتاب
المؤلف ، واسم الباب ، ورقم الجزء والصفحة ، ورقم الحديث ، فذكر هذه الأشياء
عزو تفصيلي ، واختصار شئ منها إجمال لهذا التفصيل فبعض الباحثين يكتفي بالجزء
والصفحة ، وبعضهم يكتفي برقم الحديث ، وبعضهم بالكتاب والباب ، بل بعض
المخرجين يكتفي بذكر اسم المؤلف كالبخاري وأبي داود فيقول مثلاً : أخرجه
البخاري أو أبو داود ، وهذه كانت طريقة الأئمة قبل عصرنا يعزون بإجمال شديد بذكر المؤلف فقط
وهكذا يقال في بيان فروق المتن ، وفي بيان درجة النص ، هناك طريقة تفصيلية
لعرضهما ، وهناك طريقة إجمالية ، فقد يميل الباحث إلى التدقيق في بيان فروق
لمتن ، فيكثر من النص على مواضع الاختلاف ويسوق الألفاظ ، وقد يميل إلى
التعبير بالعبارات المجملة التي سبقت في مبحث بيان فروق المتن ، وفي بيان
درجة النص قد يفصل الباحث في دراسة الإسناد في الرواة ، وفي الاتصال
والانقطاع ، وفي بيان العلل ، وقد يأتي بعبارات مجملة تكون نتيجة لدراسته
التي لم يثبتها في التخريج ، وقد يكتفي بعض المخرجين بالعزو فقط دون بيان
فروق المتن ودرجة النص ، وعلى هذا الأساس يمكن أن يقال إن وضع ضابط يقع به
الحد بين التخريج الإجمالي والتخريج التفصيلي غير ممكن ، فكل تخريج قام به
باحث إذا نسبته إلى تخريج أكثر تفصيلاً منه فهو تخريج إجمالي ، وإذا نبته إلى
تخريج أقل تفصيلاً فهو تخريج تفصيلي .
ثم هناك درجة من الإجمال ليس دونها درجة وهي أن يكتفي المخرج بالعزو بذكر اسم
المؤلف فقط ، كأن يقول : أخرجه البخاري ، أو أخرجه أحمد ، وتبقى الإجابة على
سؤال قائم وهو : ما الذي ينبغي أن يسلكه الباحث يوغل في التفصيل أو يوغل في الإجال أو يتوسط ؟
والإجابة تحددها نوعية البحث الذي تخرج فيه النصوص ، ففي مثل الرسائل العلمية
في الدراسات العليا يكون التخريج تفصيلياً ، وفي رسالة أفردها الباحث لدراسة
نص معين وبيان درجته أكثر تفصيلاً ، وفي مثل خطب الجمعة ، ومقالات عامة في
مجلة ، ونحو ذلك يكون التخريج في أدنى درجات الإجمال ، وبين هذه الأنواع من
البحوث درجات متفاوتة يتحدد فيها المنهج الذي يسلكه المخرج في تخريجه بعد دراسة وتحر .
كما أن هناك عاملاً آخر له تأثيره في المنهج المناسب في التخريج وهو نوع النص
الذي يقوم الباحث بتخريجه ، فإذا فرضنا أن الباحث يعد رسالة علمية فنصوصه
التي يقوم بتخريجها ليست على وتيرة واحدة ، فرب نص استغرق تخريجه صفحة واحدة
أو أقل لكونه نصاً ثابتاً لا إشكال فيه ، ورب نص احتاج إلى صفحات عديدة لكونه
من النصوص التي كثر الاختلاف حول ثبوتها .
وخلاصة الأمر أن اختيار المنهج الأمثل تفصيلاً أو إجمالاً على فقه الباحث
وخبرته بالدرجة الأولى ، وهو في كل ذلك يراعي الأمانة العلمية التي تحملها ،
فلا يكون همه سرعة الفراغ من بحثه على حساب إتقان البحث وجودة التخريج
وتحريره ، وأيضاً لا يكون همه الإكثار من الصفحات وتضخيم البحث على حساب
القارئ ، بالإضافة إلى ملاحظته لمستوى القارئ الذي يكتب له ، أو المستمع الذي يخطب له .
سادساً : تقسيم مصادر التخريج :
يمكن تقسيم مصادر التخريج قسمين رئيسيين :
الأول : مصادر أصلية ، وهي التي ألفت الأسانيد في عصر الرواية ، ويشمل ذلك
القرون الأربعة الأولى – مثل كتب السنة كـ (( موطأ مالك )) و (( مصنف عبد
الرزاق )) ، و (( مصنف ابن أبي شيبة )) ، و (( مسند الحميدي )) ، و (( مسند
أحمد )) والكتب الستة ، وغيرها كثير ، وكذلك كتب التفسير المسندة كـ (( تفسير
ابن ماجه )) ، و (( تفسير عبد بن حميد )) ، و (( تفسير بن جرير )) ، و ((
تفسير ابن أبي حاتم )) وكتب الفقه كـ (( الحجة على أهل المدينة )) لمحمد بن
الحسن ، و (( الأم )) للشافعي ، وكتب التاريخ كـ (( تاريخ بن جرير الطبري ))
، وكتب العقائد كـ (( التوحيد )) لابن خزيمة ، و (( الإيمان )) لابن منده .
فهذه كلها مصادر أصلية لاعتمادها على الرواية بالإسناد ، وإن كانت ليست على
درجة واحدة ، إذ تختلف درجاتها بحسب المؤلف وانتفائه لنصوص كتابه ، وبحسب
الفن الذي تبحث فيه ، وأيضاً بحسب الوقت الذي ألفت فيه .
الثاني : مصادر فرعية : وهي الكتب التي ألفت بعد عصر الرواية ، سواء كانت
بالأسانيد مثل كتاب (( شرح السنة ) للبغوي ، وكتب ابن الجوزي التي يروي فيها
بالإسناد ، أو كانت محذوفة الإسناد مثل : أحاديث الأحكام ، وكتب شروح
الأحاديث ، وكتب الفقه ، وكتب العقائد ، وكتب الزوائد ، والكتب العامة ، وغير ذلك .
ويلاحظ في موضوع العزو إلى المصادر الأصلية والفرعية ثلاثة أمور :
أ- أن الأصل في العزو يكون إلى مصدر أصلي ، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا عند
الضرورة ، وذلك إذا لم يقف الباحث على النص في مصدر أصلي ، فلا يصح عزو النص
مثلاً إلى (( زاد المعاد )) لابن القيم ، أو (( فتح الباري )) لابن حجر ، أو
(( الجامع الصغير )) للسيوطي – وهو موجود مثلاً في (( مصنف عبد الرزاق )) أو
في (( سنن الترمذي )) أو في (( مسند الإمام أحمد )) .
ب- وقد يجمع الباحث بن العزو إلى مصدر أصلي والعزو إلى مصدر فرعي في حالات
معينة ، مثلأن يذكر صاحب المصدر الفرعي طريقاً جديدة للنص لم يقف عليها
الباحث في مصدر أصلي ، وهو مع ذلك محتاج إليها في دراسته لأسانيد النص ونظره
يف اختلاف وقع في تلك الأسانيد ، فقد يذكر المزي مثلاً في (( تحفة الأشراف ))
، أو ابن حجر في (( التلخيص الحبير )) – طريقاً وقف عليها في مصدر أصلي قد
فقد في لوقت الحاضر ، تكون هذه الطريق عامل حسم في ترجيح الباحث .
ومن الحالات كذلك أن يكون مؤلف المصدر الفرعي قد جكم على النص ، ويريد الباحث
أن ينقل هذا الحكم ، أو يكون المؤلف قد نقل عن إمام متقدم كلمة له في النص
إما بتصحيحه أو بتعليله أو بترجيح رواية على رواية .
ج- العزو إلى مصدر فرعي إذا كان هذا المصدر لا يروي بالإسناد ليس بتخريج للنص
، فقد سبق في تعريف التخريج بأنه ( عزو النص إلى من رواه بإسناده ) وإلحاقه
بمصادر التخريج من باب التجوز فهو عزو في الجملة ، وأيضاً قد يكون بديلاً عن
مصدر أصلي كما تقدم فيأخذ حكمه ، ومن جهة ثالثة قد يحكم على النص أو ينقل حكم
إمام ، وقد سبق أن من عناصر التخريج بيان درجة النص .
ومع هذا فإنه يفرق بين العزو إلى مصدر يروي بالإسناد والعزو إلى مصدر فرعي
محذوف الأسانيد ، فيقال في العزو إلى الأول : خرجه أو أخرجه أو رواه ، ويقال
في الثاني ذكره أو ساقه أو أورده ، ونحو ذلك من العبارات التي تشعر بأنه لم يرو بإسناده .
سابعاً : تحديد المصادر التي يعزو إليها التخريج :
النص الواحد قد يكون مخرجاً في مصادر عديدة من مصادر التخريج الأصلية ، وهنا
يتردد الباحث في عدد المصادر التي يعزو إليها : هل يستوعب ذكر جميع المصادر
التي يقف على النص فيها ، وقد تكون كثيرة فتزيد على العشرين مصدراً أحياناً ؟
وسيجد في هذه الحالة من يلومه ، ويرميه بأنه تعمد الإطالة في التخريج ،
وتضخيم البحث دون ما فائدة جليلة ، إذ ما الفائدة من عزو النص إلى (( ذكر
أخبار أصبهان )) مثلاً ، أو (( فوائد تمام )) – والنص موجود في كتب السنة
الأمهات كـ (( صحيح البخاري )) ، و (( صحيح مسلم )) ، و (( السنن )) الأربعة ؟
وأيضاً فإن الغرض الأول من التخريج هو الوقوف على درجة النص ، وهذا يحصل دون
ركوب مثل هذا المركب الوعر على الباحث وعلى القارئ معاً ، مع أن استيعاب
مصادر التخريج أمر غير ممكن ، وضبط ذلك بما يقف عليه الباحث إحالة على غير ملئ .
وفي مقابل ذلك هل يكتفي المخرج بمصادر معينة ، فيتهم بالتقصير في التخريج
والاستعجال في إخراح البحث ، وسلوك أيسر السبل عليه عل حساب القارئ ؟
وقبل أن أذكر ما أساهم به في إزالة هذا التردد لا بد من النص على حالات لا
ينطبق عليها ما سأذكره ، ومن ذلك الحالات أن يكون الموقوف لا يحتمل الإطالة ،
فهذا لا خلاف أن الاكتفاء ببعض المصادر التي ترشد إلى درجة النص بل والعزو
المجمل إليها – هو الواجب ، وذلك مثل نص في خطبة ، أو في مقال عابر ، أو في بيان حكم بشكل مختصر .
وفي مقابل ذلك فكرة تألأيف موسوعة لفن من الفنون كالسنة النبوية ، أو الآثار
الفقهية ، أو أقوال السلف في التفسير ، ويكون الغرض من هذه الموسوعة استيعاب
مصادر النص بغرض التيسير على الباحثين ، يشترك في تلك الموسوعات باحثون كثر
ضماناً للوقوف على أوسع قدر ممكن من المصادر – فهذا له شأن آخر .
وإنما يقع التردد الذي أشرت إليه آنفاً في مثل تحقيق كتاب متقدم من كتب السنة
، أو تخريج أحاديث ونصوص كتاب فقهي ، أو دراسة خاصة ببعض النصوص ، ولا سيما
في رسائل الدراسات العليا ، فإن بعض الأقسام في الجامعات الإسلامية بدأت تميل
إلى التشديد ، وتكليف الباحث أعباء استيعاب مصادر التخريج ، وإثباتها في البحث .
والذي أراه أن يسلك الباحث منهجاً علمياً يجمع فيه بين الوفاء بالغرض الأول
من التخريج ، وهو الوقوف على درجة النص ، وبين تجنب سلبيات إطالة البحث ، وما
يتطلبه ذلك من عناء على الباحث والقارئ ، بالإضافة إلى أن ترهل البحث – وهو
عبارة عن سمن شحمه ورم ، يتخذ أشكالاً متعددة في كثر من البحوث – يعود على
البحث بالضعف والتزلزل ، ويطبع على صاحبه منهج الجمع والتكثير دون التمييز والتحقيق .
وهذا المنهج يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط :
1- يكتفي الباحث بأمهات مصادر الفن ، ففي السنة مثلاً يكتفي مثلاً بالكتب
الستة ، أو يضيف إليها (( مسند أحمد )) ، أو يضيف أيضاً (( موطأ مالك )) بحسب
نظره واجتهاده ، فيلتزم استيعاب العزو إلى هذه الأمهات ، فكل حديث لا يعزوه
إليها إلى إلى واحد منه يعرف القارئ أنه غير موجود فيما تركه الباحث من مصادر .
2- يلتزم الباحث بذكر مصادر بديلة في حالة عدم وجود النص في المصادر التي
حددها أو في بعضها ، كأن يقول : إذا لم أجد الحديث في (( صحيح البخاري )) ولا
في (( صحيح مسلم )) ذكرت مكانهما كتابين من الكتب التي التزم أصحابها الصحة
مثل : (( صحيح ابن خزيمة )) و (( صحيح ابن حبان )) ، وإن كان النقص من
المصادر في غير (( الصحيحين )) أضفت إلى مصادري ما يكمل عددها من كتب السنة
الأخرى مبتدئاً بالأقدم وفاه ، أو ينص على أسماء المصادر البديلة وترتيبها .
3- يلتزم الباحث بالنظر فيما يستطيع الوقوف عليه من مصادر الفن ، ثم يذكر من
هذه المصادر في تخريجه ما فيه فائدة جديدة ليست في المصادر التي التزم
التخريج منها ، وهذه الوائد قد تكون في المتن كأن يكون لفظ النص الذي يقوم
بتخريجه موجوداً في مصدر خارج المصادر التي التزمها ، أو في ذلك المصدر زيادة
يحسن ذكرها ، وقد تكون في الإسناد كطريق غير موجود في مصادره ، وهو محتاج
لهذا الطريق في نظره في الأسانيد .
وفي كثر من الأحيان تواجه الباحث حالات يعزو فيها إلى مصادر فرعية لا تروى
بالإسناد مع وجود النص في مصادر أصلية ولم يعزه إليها ، لأن العزو إلى هذه
المصادر لا جديد فيه بالنسبة إلى مصادره التي اعتمدها .
وقد يقول قائل : إناطتك إضافة الباحث مصادر في التخريج غير التي التزم
التخريج منهابالفوائد أمر غير منضبط ، ورب فائدة وقعت في ذهن باحث لم يلتفت
إليها باحث آخر ، وأيضاً من الذي يضمن لنا أن الباحث آجال نظره في بقية
المصادر واختار منها ما فيه فائدة ؟ وأمر ثالث وهو أننا عندما نطلب من الباحث
تقصي بقية المصادر فلم لا يثبتها تتميماً للفائدة ؟
أما الأمر الأول : فلا شك أنه اعتراض وجيه ، ولكن أقول إن أمور هذا الفن
مبنية على الاجتهاد ، ولا بأس أن تكل هذا الأمر إلى اجتها الباحث ، وسيظهر من
خلال تطبيق هذا المبدأ تفاوت عقول وخبرة الباحثين ، وما يضيرنا إذا أغفل
الباحث فائدة ، أو ذكر فائدة ليست ذات بال .
وأما الأمر الثاني : فلا مناص منه أصلاً ، فإن كثيراً من شئون البحوث العلمية
منوطو بأمانة الباحثين ، وينبغي تنمية روح الصبر عندهم ، وإشعارهم بعظم
المسئولية ، وسيكون في هذا مجال للمنافسة أيضاً ، ويمثله يتميز الباحث المحقق من ناشر الكتب .
وأما الأمر الثالث : فلا شك أنه موجود في أذهان كثير من الباحثين ، ويطبقه
كثير منهم أيضاً ، ولا يقتصر على مسألة الزيادة في عدد المصادر بل يشمل كافة
أوجه البحوث العلمية ، إذ يرى كثير منهم أن الباحث متى وقف على فائدة فمن
الأفضل له وللقارئ إثباتها ، ولا شك في خطل هذا الرأي وتأثيره سلباً على
مستوى البحوث .
وليست العبرة بكثرة المصادر فقط ، بل أهم من ذلك حسن التعامل مع المعلومات
وانتقائها للقارئ ، وليعلم الباحث أنه متى ما اختار أن يجعل حشر المعلومات –
بل حشو المعلومات – على جساب إتقان البحث وتحريره فإنه واقع لا محالة – فلا
بد أن يتكشف عماذا حطب في ليلة .
ثامناً : ترتيب مصادر التخريج :
أما المصادر الفرعية التي لا تلاوى بالإسناد فيرتبها الباحث على ما هو
المعهود في النقل عن المصادر المتقدمة علينا ، وذلك بترتيبها على حسب وفاة
مؤلفيها المتقدم فالمتقدم ، ولا يعدل عن هذا إلا لسبب عارض رأى الباحث أنه
باعث على تقديم من تأخرت وفاته على من هو متقدم عليه .
وأما المصادر التي لا تروي بالإسناد فهناك عدة طرق يمكن أن يسلكها الباحث :
أ- فله أن يرتب مصادره أيضاً على حسب وفاة مؤلفيها ، فلو أخرج عب الرزاق
وأحمد والبخاري ومسلم نصاً – ورأى الباحث العزو إليها كلها – ابتدأ بعبد
الرزاق ، ثم بأحمد ، ثم البخاري ، ثم مسلم ، لأن ترتيبهم في الوفاة هكذا ،
وهذه الطريقة تصلح لأحاديث ولغيرها .
ب- وله أن يبتدئ بذكر الكتب الستة ( (( الصحيحين )) ، و (( السنن الأربعة ))
أو من أخرج نصه منها ، ويرتبها على ترتيبها المعهود عند العلماء وهو هكذا :
البخاري ، مسلم ، أبو داود ، الترمذي ، النسائي ، ابن ماجه ، ثم بعدها يعود
إلى الطريقة الأولى فيرتب باقي مصادره بحسبالوفاة
وهذه الطريقة أشهر الطرق ولكنها خاصة بالأحاديث النبوية تقريباً ، فإن هذه
الكتب مخصصة لها ، ثم إن بعض المخرجين يلحق بها (( مسند أحمد )) ، ويجعل
الترتيب على الوفاة بعده .
ج- وله أن يرتب مصادره بحسب قربها وبعدها عن النص الذي أمامه ، فإذا وقف على
مصدر لفظه لفظ النص الذي أمامه ابتدأ به ثم الذي يليه وهكذا .
ولا شك أن هذه طريقة وعرة ، ولكن يمكن تسهيلها بالاكتفاء بالبحث عن المصدر
الذي يوافق لفظه لفظ النص الذي معه ، ثم يعود الباحث إلى إحدى الطريقتين
السابقتين ، وممن كان يصنع ذلك الزيلعي في (( نصب الراية )) وغيره ممن يخرجون
نصوص كتب فقهية أو نحوها ، فيحرصون على من خرج نص المؤلف فيذكرونه أولاً .
وأي هذه الطرق سلكها الباحث عليه أن يلتزم بها في بحثه كله ، ولا يعدل عنها
إلا لفائدة راجحة ظهرت له أثناء التخريج ، ولا يصح له – من جهة الاصطلاح – أن
لا يلتزم بمنهج معين ، فيكتب تخريجه كيفما اتفق .
ثم إن هذه الطرق كلها إذا كان الباحث يسرد بالعزو المباشر ، وأما إذا كان
يخرج على الطرق للنصوص فلترتيب المصادر حينئذ شأن آخر ، وفي شرحه هنا تطويل ،
وسأذكره – إن شاء الله تعالى – في كتابة ما يتعلق بدراسة الأسانيد في دراسة لاحقة .
تاسعاً : اختلاف التخريج بحسب المتن الذي يقوم الباحث بتخريجه :
المتن الذي يقوم الباحث بتخريجه لا يخلو من ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون أمام الباحث موضوع مطلق يريد تخريج نصوصه ، مثل : ( بر
الولدين ) أو ( صلة الرحم ) أو ( غزوة الأحزاب ) ، ( مناقب عمر ) – فهذا يخضع
ترتيب النصوص فيه لخطة الباحث ، فقد يكون لبحثه خطة معينة يراعيها في ترتيب
نصوصه ، فيكون البحث مقسماً إلى مباحث ، وكل مبحث يخضع ترتيب النصوص فيه لغرض
الباحث أيضاً ، كان يرتب نصوص كل مبحث بحسب صراحتها في الدلالة عليه ، أو
بحسب قوتها . وقد لا يكون لدى الباحث خطة علمية ، فيرتب نصوصه بحسب قوتها .
وكل نص أراد أن يخرجه عليه أن يراعي في ما يأتي في الحالة الثانية .
الثانية : أن يكون أمام الباحث نص معين لم ينسب إلأى رواية إن كان حديثاً
نبوياً ، ولا إلى قائله إن كان غير حديث ، مثل أن يكون أمامه حديث : (( لا
يدخل الجنة قاطع رحم )) أو حديث (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )) أو أثر ((
كفى بالمرء كذباً أن يحدث بمل ما سمع )) ، ويكون الحديث قد رواه جماعة من
الصحابة أو الأثر قد قاله جماعة منهم أن من غيرهم .
وحينئذ يرتب الباحث أحاديث هؤلاء الصحابة أو آثارهم بطريقة يختارها كأن يبدأ
بالأقوى فالأقوى ، أو بالأقرب إلى اللفظ الذي أمامه .
وكل حديث أو أثر أراد أن يخرجه عليه أن يراعي فيه ما يأتي في الحالة الثالثة .
الثالثة : أن يكون أمام الباحث نصاً ذكره معه رواية إن كان حديثاً أو نسب إلى
قائله إن كان أثراً ، فهذا لا خيار فيه للباحث ، فهو ملزم بتخريج الحديث عن
رواية ، أو الأثر عن قائله ، فإن كان الحديث قد رواه جابر لا يصح أن يخلطه
بحديث غيره من الصحابة ، وهكذا في الأثر ، إذا نسب إلى عمر خرجه عنه ، ولاى
يخلطه بتخريجه عن قائل آخر ، ويراعي في ترتيب مصادره حينئذ ما تقدم في مبحث
(( ترتيب مصادر التخريج )) .
ثم إذا فرغ منه تماماً علرج على أحاديث غيره أو الآثار من غيره إذا كان في
خطته ومن أغراضه أن يخرج شواهد للحديث وللأثر ، وإلا اكتفى بالتخريج المطلوب منه .
عاشراً : اشتباه بعض النصوص على الباحث :
أثناء نظر الباحث في مصادره ليقوم بعزو النص إليهت قد يتردد في عزوه إلى
بعضها ، بسبب اشتباهه في النص الذي وقف عليه هل هو النص الذي يقوم بتخريجه
وقع فيه تغيير شديد أو اختصار في بعض الروايات ؟ أو هو غيره نظراً للاختلاف الكبير بينهما .
وقبل أن أّكر بعض النقاط حول مسألة الاشتباه أسوق بعض الأمثلة التوضيحية
لأحاديث وقع فيها اشتباه لتتضح صورته .
المثال الأول : حديث جابر رضي الله عنه قال : (( قرب للنبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم خبز ولحكم فأكل ، ودعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلى الظهر ، ثم دعا
بفضل طعامه فأكل ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ )) . مع اللفظ الآخر : (( كان
آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ترك الوضوء مما غيرت
النار )) ، فهل اللفظ الثاني مختصر من الأول ؟ أو هو حديث آخر ؟ الراجح أنهما حديث واحد .
المثال الثاني : حديث أبي هريرة : (( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شئ
فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون لا دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح
أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ))
، وعنه بلفظ : أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( أتدرون من
المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال : إن المفلس من
أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا
، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من
حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه
ثم طرح في النار )) . فهل هما لفظان لحديث واحد روي أحدهما بالمعنى ؟ أو هما
حديثان منفصلان ؟ صنيع الأئمة على الثاني :
المثال الثالث : حديث أبي سعيد : (( إن من شر الناس عند الله منزلة يوم
القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه )) ، مع
حديث أسماء بنت يزيد : (( أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله
وسلم والرجال والنساء قعود عنده فقال : لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله ، ولعل
امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها ؟ فأرم القوم فقلت : أي والله إنهم ليفعلون
وإنهن ليفعلن ، قال : لا تفعلوا فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانه فغشيها والناس ينظرون )) .
فهل اللفظ الثاني المطول بمعنى اللفظ الأول المختصر فهو شاهد له ؟ أو هو حديث
مختلف في الموضوع ؟ الظاهر الأول .
وأما النقاط التي وعدت بذكرها آنفاً فهي ثلاث نقاط :
أ- الاشتباه يقع في الحديث الواحد عن صحابي واحد كما تقدم في الأمثلة ، وهذا
له صلة بعزو الحديث ، وله صلة أيضاً بدراسة أسانيد الحديث ، إذ يتردد الباحث
في جعل الحديث الذي في المصدر إسناداً جديداً لحديثه فيفيده في جمعه لمتابعات
إسناده ، أو يلغيه ولا يعتبره .
وأدق من ذلك أنه في بعض الأحاديث إذ اعتبره من أسانيد حديثه يكون علة لإسناده
الذي وقف عليه أولاً ، أو يكون إسناده علة للإسناد الجديد . ومثل هذا لو كان
النص أثر عن صحابي أو غيره ، أو كان تفسيراً لآية ، أو رواية تاريخية .
وقد يقع الاشتباه أيضاً بين حديثين عن صحابيين ، فيتردد الباحث في الثاني هل
هو من شواهد حديثه أو لا ؟ وربما كان أحدهما علة للآخر .
وتوضيح أثر الاشتباه على دراسة الأسانيد بالأمثلة ليس مكانه هذا ، وإنما
الغرض بيان أهمية هذه المسألة في التخريج .
ب- وموضوع الاشتباه في النصوص ليس جديداً ، بل عرض للأئمة في عزوهم للنصوص ،
وفي كلامهم عليها ، ولذلك أمثله منها : حديث عبد الله بن زيد حين سئل عن وضوء
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( ... فغسل يديه ثلاثاً ، ثم غسل
التور فتمضمض واستنثر ثلاث غرفات ، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل
يديه مرتين إلى المرفقين ، ثم أدخل يده فسمح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة
، ثم غسل رجليه إلى الكعبين )) . مع اللفظ الآخر عنه : (( أن النبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم توضأ مرتين مرتين )) ، قال ابن حجر عن اللفظ الثاني : ((
مختصر من حديث مشهور في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ويحتمل
أن يكون هذا المجمل غير المبين لاختلاف مخرجهما )) .
ج- والباحث اليوم ليس أمامه سوى إعمال النظر والاجتهاد فيما يعرض له من
اشتباه ، ويستيعن بقرائن في الإسناد والمتن ، فمن القرائن في الإسناد اتفاق
النخرج بين النصين أو اختلافه ، وذلك إذا كان الاشتباه بن نصين عن صحابي واحد
، والمقصود بالمخرج التابعي الذي روى النص عن الصحابي ، فإن الاتفاق في
المخرج يرجح أن النص واحد ، وبضده إذا اختلف المخرج .
ومن القرائن في المتن أن يظفر الباحث بنص يجمع بين النصين ، فيرجح الباحث حينئذ أنه نص واحد
ويستعين الباحث كذلك بصنيع الأئمة السابقين في عزوهم للنصوص أو في كلامهم
عليها ، ففي الأحاديث مثلاً ينظر في مثل ( تحفة الأشراف )) ، و (( بلوغ
المرام )) ، و (( منفقى الأخبار )) ، و (( رياض الصالحين )) ، و (( الترغيب
والترهيب )) ، و (( التلخيص الحبير )) ، وينظر في كل موضوع مظانه من الكتب ،
إذ قد يجد منهم اتفاقاً على أحد الاحتمالين فيأخذ به ، ما يشبه الاتفاق فيأخذ
به أيضاً .
* حادي عشر : التخريج بالواسطة :
يستعين الباحث بوسائط كثيرة لمعرفة من أخرج النص ، وللوصول إلى مكان النص في
الكتب التي أخرجته ، وهذه الوسائط تختلف درجة الوثوق بها في صوبها وخطئها ،
فمن هذه الوسائط أئمة محققون ، ومنها باحثون معاصرون يقومون بتخريج النصوص
لأغراض مختلفة ، ومنها كتب الفهارس التي وضعت أصلاً لمعرفة من أخرج النص
والدلالة على موضعه .
والذي ينبغي للباحث أن يستفيد من هذه الوسائط دون أن يعتمد عليها في العزو ،
بحيث ينقل العزو منه وينسبه لنفسه ، ما أمكنه ذلك ، وعليه أن يتأكد من صحة
العزو بنفسه ، ويقرأ متن النص الي سيعزو إليه . ذلك أن وجود أوهام في عزو
النص أمر شائع معروف ، والأولى التقليل من هذه الأوهام لا تشرها وتوسيعها .
وسأذكر الآن بعض الأمثلة على هذه الأوهام بعض الأئمة ، وفيهم أئمة محققون ،
وليس الغرض شينهم ، فليس في هذا ما شين فكلنا خطاء ، وإنما الغرض بيان أن هذا
إذا وقع من هؤلاء فهو من غيرهم من باب أولى .ومن هذه الأمثلة :
* حديث عبد الله بن مغفل في غسل الإناء من ولوغ الكلب عزاه ابن الجوزي في ((
التحقيق )) إلى البخاري ، وتبعه الذهبي في (( التنقيح )) والحديث إنما أخرجه
مسلم ولم يخرجه البخاري .
* وحديث المغيرة بن شعبة : (( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ
فمسح بناصيته ، ومسح على الخفين والعمامة )) – عزاه ابن الجوزي في (( التحقيق
)) والذهبي في (( التنقيح )) والمجد ابن تيمية في (( المنتقى )) إلى ((
الصحيحين )) والحديث إنما أخرجه مسلم فقط .
* وحديث عائشة : (( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم زار البين ليلاً ))
– عزاه الذهبي في (( السير )) إلى مسلم ، ثم حكم عليه بالانقطاع ، والحديث
ليسن عند مسلم ، وإنما أخرجه البخاري معلقاً .
* وحديث أبي هريرة مرفوعاً : (( ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء )) –
عزاه ابن القيم في (( زاد المعاد )) إلى (( الصحيحين )) والحديث في البخاري
فقط فلم يخرجه مسلم .
* وحديث أبي برزة الأسلمي مرفوعاً : (( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى
يسأل عن أربع ... )) – عزاه ابن حجر في (( فتح الباري )) إلى مسلم ، والحديث
إنما أخرجه الترمذي ولم يخرجه مسلم .
وبدل على ضرورة أن يقف الباحث على النص في المصدر ولا يكتي بعزو غيره أننا
نرى بعض الأئمة يقلد غيره في العزو فيقع في الخطأ كما وقع الأول .
ومما ينبغي التنبيه عليه في قضية الاهتماد على الواسطة غير ما تقدم ثلاثة
أمور :
الأول : أن بعض الأئمة وكذا الباحثين قد يعزو نصاً فيقصر في عزوه ، فيعزو
مثلاً حديثاً إلأى البخاري وقد أخرجه أيضاً مسلم ، أو العكس ، وقد يعزو
حديثاً إلى (( السنن الأربع )) وهو في (( الصحيحين )) أو أحدهما ، وقد يعزو
أثراً إلى (( شرح معاني الآثار )) للطحاوي وهو في (( مصنف ابن أبي شيبة )) ،
فيركن الباحث إلى هذا العزو ويقول : لو كان في غير هذا المصدر لعزاه إليه هذا
الإمام أو ذاك الباحث ، ولا سيما إذا كان إماماً محققاً أو باحثاً مشهوراً ،
وواقع الأمر بخلاف هذا ، فإن التقصير في العزو موجود كما أن الخطأ موجود .
وعلاج هذا ألا يعتمد الباجث على إمام واحد أو باحث واحد ، بل ينظر في عزو
غيره ، فمثلاً عزو الزيعلي في (( نصب الراية )) يقارن بعزو ابن حجر في ((
التلخيص الحبير )) ، وعزو ابن حجر في (( بلوغ المرام )) يقارنه بعزو المجد
ابن تيمية في (( المنتقى )) .... وهكذا يقارن بكتاب آخر أو أكثر .
الثاني : أن الواسطة التي أعتمد عليها الباحث قد يكون أصاب في العزو ولم يقصر
، وهذا هو الغالب ، ولكن بعض الأئمة له طريقة في العزو تجعل الباحث يقع في
الخطأ إذا لم يراجع النص ويقرأه ، وهذه الطريقة هي عزو أصل النص إلى مصادر
وإن لم تتفق المصادر في التفاصيل ، وقد يكون النص الذي مع الباحث أو جزء منه
غير موجود في بعض هذه المصادر ، فإذا لم يقارن نصبه بما في هذه المصادر وقع
في الخطأ في العزو .
ومن أمثلة ذلك :
* حديث حذيفة : (( كنت مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فانتهى إلى
سباطة قوم فبال قائماً فتنحيت ، فقال : ادنه ، فدنوت حت قعدت عند عقبيه ،
فتوضأ فمسح على خفيه )) ، فهذا الحديث قد يعزوه بعض الأئمة بهذه الطريقة :
حديث حذيفة في البول قائماً أخرجه البخاري ومسلم ، وهذا صحيح لا غبار عليه ،
ولكن اللفظ السابق المفصل لا يصح عزوه إليها ، فإن رواية البخاري ليس فيها
ذكر المسح على الخفين .
* ومثله حديث : (( الإيمان بضه وسبعون – أو بضع وستون – شعبة ، فأفضلها قول
لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان
)) – فإن قول القائل : حديث (( شعب الإيمان )) أخرجه البخاري ومسلم صحيح لا
غبار عليه ، وأما اللفظ المفصل السابق فهو من أفراد مسلم ، إذ ليس في رواية
البخاري جملة : (( فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن
الطريق )) . وكذلك هو في رواية أخرى لمسلم .
الثالث : إذا اكتشف الباحث عدم مطابقة عزو إمام أو باحث لما في المصادر فعليه
أن يتريث في الحكم عليه بالخطأ والوهم ، إذ يحتمل أنه لم يخطئ ، فقد يكون
أراد أصل النص وليس تفاصيله كما تقدمت الإشارة إليه آنفاً ، وقد يكون عزى إلى
نسخة أخرى أو رواية أخرى للكتاب غير التي بين يدي الباحث ، وهذا كثير جداً ،
فمن المعلوم أن الكتب المتقدمة لها نسخ أو روايات متعددة ، فمثلاً (( سنن أبي
داود )) رواه عن أبي داود جماعة ، وفي بعض الروايات زيادة أحاديث على ما في
الروايات الأخرى ، وكذلك (( سنن ابن ماجه )) يوجد في بعض نسخه ما ليس في
الأخرى ، وكذا (( مسند أحمد )) فقد تأكد للباحثين سقوط أحاديث كثيرة من
النسخة المتداولة اليوم .
وإذا ضاقت السبل بالباحث فلم يجد بداً من نسبة الوهم إلى من وقع فيه فليتطلف
بالعبارة ولا يشنع ، فإن بعض الباحثين ربما فعل هذا ، فأكثر من وضع علامات
الاستفهام والتعجب ، وهذا ينافي المنهج العلمي الصحيح في وجوب رعاية حق من
سبقه في العلم ، لا سيما إذا كان إماماً يستفيه الباحث من تخريجاته في كل نص
، مع ملاحظة أن وقوع الوهم والخطأ من عوارض البشرية ، فجل من لا يخطئ ، ورحم
الله امرءاً سدد خطأ وتسامح عن هفوة .
(1) ومن الألفاظ التي استعملها المتقدمون لفظ (( بمثله )) كما في (( صحيح
مسلم )) نادرة يراد بها التطايق في اللفظ ، وتارة بمعنى (( بنحوه )) عند
المتأخرين .
المحضار
تعليق