نفّذت حركة حماس عملية عسكرية استئصالية في قطاع غزة أسفرت عن أولى المفاجئات التي تمثلت بالانهيار التام والسريع لكافة أجهزة السلطة الفلسطينية في القطاع ومقتل بعض الرموز الميدانية المحسوبة على تيار الفتنة في حركة فتح وأبرزهم سميح المدهون، كما اعتقلت مجموعة أخرى أفرجت عنها بعد ضغوط على الحركة بالرغم من كونهم بعض كبار الرموز في التيار إياه أمثال ماجد أبو شمالة وتوفيق أبو خوصة. وكما فازت حماس في الانتخابات التشريعية محدثة مفاجأة غير محسوبة ولا متوقعة سقطت حركة فتح بغزة بنفس الطريقة الأمر الذي يطرح علامات تساؤل كبرى: هل هزمت فتح؟ أم تقصدت الهزيمة؟ وهل وقعت حماس في الفخ؟ أم هي من اختاره؟ الأسئلة كثيرة جدا، والمفاجأة كبيرة، ولكن التداعيات الفورية للحدث هي من يفرض طرح مثل هذه التساؤلات.
حماس والوقوع في الفخ
ففي اليوم التالي لهزيمة فتح المنكرة اتخذ الرئيس الفلسطيني محمود عباس سلسلة إجراءات عاجلة أبرزها إقالة حكومة إسماعيل هنية وتشكيل حكومة طوارئ، وكان واضحا لكل مراقب أو مطلع على الوضع أن ما اتخذ من إجراءات هي بالقطع غير دستورية ولا قانونية بقدر ما هي ردود فعل سياسية في الصميم حتى لو بدت في بعض جوانبها دستورية دون الجوانب الأخرى كالتي تفرض على الرئيس بقاء الحكومة المقالة حكومة تسيير أعمال. والحقيقة أن هذه الإجراءات العاجلة مثلت ثاني المفاجآت بحيث جاءت ردود الفعل الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية وحتى بعض الردود العربية مؤيدة وداعمة ومبشرة بفك الحصار هكذا دون مقدمات لتمثل المفاجأة الثالثة بامتياز وتطرح علامة سؤال كبرى: ألا تدل مثل هذه التداعيات على أن فتح من الأرجح أنها تقصدت الهزيمة في غزة؟ وأن ما جرى هو فعلا فخ نصب لحركة حماس بإحكام؟ خاصة وأن أبو زهري استفاق بالأمس ليتحدث عن مؤامرة استهدفت الحركة؟
إذا أخذنا بهذا الاحتمال فلأننا (1) نعتقد أن كل الإجراءات التي اتخذها الغرب في حصار الشعب الفلسطيني قد فشلت في إزاحة حماس عن دفة السلطة، ولأن سياسة ربع الرغيف التي اتبعتها قوى الحصار أثبتت أنها غير كافية لاستثارة الناس على حماس، ولأن (2) الاتفاقات واللقاءات في مكة والقاهرة وغيرهما لم تكن وحدها ذات جدوى. لكن (3) مع الفلتان الأمني وضحاياه والاستفزازات والخداع والنفاق ومحاولة كسب الوقت من الجانبين لهي السياسة التي أثبتت جدواها ودفعت حماس في غزة إلى الزاوية بحيث لم تعد تتحمل ما يجري على أرض تحسب أن لها فيها الغلبة، وهكذا كان!
نفذ صبر حماس وهي توضع بين أسوأ الخيارات وأشدها خسة، فإما أن تكظم الغيظ إزاء عمليات الفلتان الأمني وما يخلفه يوميا من قتل وخطف بحيث تكتفي بلعب دور المتفرج والمهدد بعصا حكومة الوحدة الوطنية وهي تدق رأسها صباح مساء إن هي بادرت بخرق اتفاق مخروق أصلا أو تحميلها مسؤولية العجز وعدم القدرة على فك الحصار السياسي والاقتصادي الذي تحكمه عليها القوى المعادية ذاتها بما فيها مؤسسة الرئاسة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية. وهكذا سيقت رغم أنفها لِأنْ تكون ندا يقبل النزال ويصب جام غضبه عسكريا وإعلاميا على من اعتبرتهم رؤوس الفتنة أو المجموعة الانقلابية بزعامة دحلان ورشيد أبو شباك ومشهراوي وأمثالهم.
كارثية الأداء الإعلامي
على المستوى الإعلامي، وبقطع النظر عن السقوط في الفخ، بدت كتائب القسام قوة دموية قادرة على إلحاق الأذى ليس بفتح وحدها بل بكل السلطة ورموزها وتنظيماتها، وكان لوسائل الإعلام التابعة لحماس دورا استفزازيا في إثارة مشاعر النقمة على تصرفات القسام بغزة خاصة في حادثة سحل وإعدام سميح المدهون، فالناس قد تكون سمعت وقرأت وتابعت جرائم هذا وذاك ممن استخفوا بدماء الناس، وبالتأكيد لن يسامح فيها أحد، خاصة من أهل الضحايا، ولكن النزعة الإنسانية عند بني البشر غالبا ما تطغى وهي ترى مشاهد الفتك والسحل بأبشع صورها تنفذ ميدانيا بصورة تأباها النفس السوية حتى ضد العدو، والأسوأ أن يأخذ تلفزيون الأقصى التابع لحماس على عاتقه بث مثل هذه المشاهد مستخفا بكل روح إنسانية أو بأية محاذير أو عواقب.
وإجمالا فإن متابعة الأداء الإعلامي لحماس في كافة القضايا كان في غالبيته فظا غليظا ولما يزل خاصة وأنه يعتمد في ردوده على الغطرسة والسخرية وتحقير المخالف بأقذع الصفات غير آبه بأية آراء أو انتقادات سواء تعلق الأمر بالخصوم كعصابة دحلان أو بالمخالفين لنهج الحركة وجماعة الإخوان المسلمين مثل تيار السلفية الجهادية وأنصارها أو حتى ممن أبدوا ملاحظاتهم بحسن نية حينا وبمرارة حينا آخر وكانوا أقرب لحماس والقسام من قربهم لأية جماعة فلسطينية أخرى.
وحتى أنصار السلفية الجهادية الذين اعتادوا على تحكيم الشرع في أي فعل سياسي أو عسكري يؤدي إلى القتل والإعلان عنه كانت لهم ملاحظات ليس على بث المشاهد بقدر ما أبدوا تخوفات من أن يكون قتال حماس في غزة قد وقع على خلفية الصراع السياسي أكثر منه قتالا تحت راية دينية، بل أن أبرز ما أثار حفيظة السلفية الجهادية هو اتهام حماس لرموز الفتنة بالردة والجيش اللحدي بحيث تبرر لنفسها تكفيرهم ومهاجمتهم وقتلهم في حين تستنكر على السلفية الجهادية ذات الفعل إذا ما تعلق الأمر بالحزب الإسلامي في العراق أو برموز القتل الشيعية أو بمن تعاملوا مع الأمريكيين وركبوا أساطيلهم وساهموا في غزو بلادهم كما حصل في أفغانستان والعراق أو تعاون مع عصابات العسكر في طغيانهم على الجماعات الإسلامية الأخرى والأبرياء في القرى والمنائي البعيدة ونهبهم للبلاد كما حصل في الجزائر.
وكان ملفتا للانتباه حقا أن نبيل عمرو، وهو أحد الرموز إياها، أخذ يغمز من قناة السلفية الجهادية مستغلا مثل هذا الأمر وهو يدرك مدى وقعه على حماس ليحملها المسؤولية الدينية فضلا عن المسؤولية السياسية عما فعلته في غزة. والحقيقة أن تصريحات رموز السلطة وحركة فتح وهي تهنئ حماس بنصرها العظيم على غزة والشعب والقضية وضعت حماس بخبث في مأزق شرعي أمام العامة من الناس.
لا شك أن كل مراقب يدرك أهمية الشبكات الإعلامية على الإنترنت وما تعكسه من تعبير صادق عما يجري في المستوى السياسي خاصة وأن ساحاتها تضم كتابا على مستوى رفيع وأغلبهم إن لم يكونوا من حماس والإخوان المسلمين فهم محسوبين عليها أو من أشد المناصرين لها، وفي حين ساند أنصار السلفية كتائب القسام، وليس القيادة السياسية، على ما قامت به في غزة من "تطهير" لرموز وأدوات الفتنة مما يجعلها تتماهى في صف واحد معها سارعت الشبكة الفلسطينية للحوار عبر أعضائها ومشرفيها إلى التبرؤ مما أسماه البعض بأحلام السلفية الجهادية، ومع ذلك بقي السؤال مطروحا: لِمَ المحلَّل يا حماس على كتائب القسام محرم على السلفية الجهادية من كل جانب؟ أم أن ما حصل مجرد كذب وادعاء طالما لا وجود لبيان رسمي؟
بطبيعة الحال لن تكون هناك أية إجابة يعتد بها، ولو أتى المراقب والصحفي والناقد والصديق والعفيف والمحايد والمشفق والمحب وحتى المغرض واللئيم بملء الأرض تساؤلات ومثلها حجج وخاض المقارعات ليل نهار؛ فإن سلم من الشتم والقدح والاتهام والتخوين والعمالة؛ فلن يحصل، في أحسن الأحوال ، إلا على إجابة من ذات اللون وذات التعابير: سلم منك الروم ( وهنا فتح ودحلان) ولم يسلم منك إخوانك، أو أهل مكة أدرى بشعابها أو أن الإخوان آخر سد في الأمة فإذا انهار انهارت الأمة وقس على ذلك. والغريب العجيب أن يبيح بعض هؤلاء لأنفسهم إعلان الحرب باسم حماس والإخوان على المخالفين ويشنوا حملات إعلامية مكثفة ضدهم وهجمات بلا منطق أو دين أو مبدأ، وحين تحاججهم بما يفعلون يقال لك ببساطة: هل صدر بيان رسمي عن الحركة!؟ ونحن نقول هلاّ أجابت حماس على تساؤلات السلفية الجهادية؟ وجددت التأكيد على مواقفها بوضوح وببيان رسمي أو خطاب تاريخي يوجه إلى عموم الأمة بعد الخطوب التي مرت بها ولا تزال حتى لا يتهم أحد بالكذب والتزوير؟ أو أن معلوماته مستقاة من شوارع الشبكة الفلسطينية للحوار!؟
بالتأكيد ليس من الضرورة أن يصدر بيان فيمن انتقد حماس حبا أو كرها، وليس واجبا أن يصدر بيان فيمن يتبرع للدفاع عن حماس والقسام، ولكن ليس من الإعلام في شيء أن تتصور حماس والإخوان أن هذه المنهجية تحشد لها الدعم والتأييد والمناصرة في وقت تتربص وسائل إعلامها بالمخالف والناصح والناقد والخصم على حد سواء وكأنهم آخر.
هذه المنهجية الإعلامية في التعامل مع المحبين والخصوم والمحايدين والناقدين كافية لتنفير كل القوى من الحركة وتحويلهم إلى أعداء أو في أحسن الأحوال إبعادهم عن الحدث فلا هم مؤيدين ولا هم ناقدين ولا حتى ناصحين، وكافية لتوصيف فعاليات التطهير في غزة على أنها فعاليات ناجمة عن دوافع تنظيمية ليس للمصلحة الفلسطينية فيها أي نصيب. وكافية لاستنتاج أن الحركة ترغب بخطاب يتناغم مع خطابها أيا كانت النتائج، فإن حلل أحد ما أو شرح ووافق الهوى فيا مرحبا، وإن انتقد وخالف فليذهب إلى الجحيم لا هو منا ولا يهمنا وخذ من التسخيف والتحقير والسخرية ما الله به عليم حتى لو كنت في يوم ما حليفا أو صديقا أو مدافعا أو مناصرا، مسكين يا عبد الباري عطوان وأنت تتخوف من القادم وتستنفر قواك فإذا بك تبحث عن قيادة ومجد تليد! ومسكين يا ظواهري وأنت ناقم على حال حماس وكأنك طالبتها بالاعتراف بإسرائيل!
منطق الأداء السياسي للقوى المتصارعة
أما على الجانب السياسي فالقادم أدهى وأمر. فالسيناريوهات المتوقعة مفتوحة على مصراعيها. فللأمريكيين واليهود والعرب والأوروبيين أجنداتهم السياسية التي يسعون لتحقيقها، وبحساباتهم، ولأنهم ليسوا مستعدين للانتظار إلى ما لا نهاية كان لا بد من الإيقاع بحماس للتخلص من هذه الحكومة. وعلى الفور جرى إقالتها دون تفكر أو تدبر أو انتظار أو تقييم لا لشاردة ولا لواردة. وأعلن عباس عن تشكيل حكومة جديدة يمكن التعامل معها بسهولة، ولكن ماذا عن بقايا حكومة حماس التي تصر حتى الآن على تسميتها بحكومة الوحدة الوطنية؟ وماذا ينفع القول أن مشكلة حماس ليست مع فتح بل مع زمرة الفساد؟ ألم يتراجع أحمد حلس ويصطف مجددا إلى جانب حركته ويسخر من حماس وهو يهنئها بالانتصار؟ ثم كيف يقال، بهذه البساطة، بأن الزمرة انتهت وليس لنا مشكلة مع الشرعية الفلسطينية ولا مع الرئيس في حين أن رموز التيار لم يصب أحدهم بأذى ولا اتخذ بحقهم أي إجراء من حركة فتح نفسها، فضلا عن أن الرئيس هو من أقال الحكومة وشكل غيرها؟ وفي الضفة الغربية انتشر الفلتان يعيث في الأرض فسادا وقتلا وأذى وحرقا للمقرات تحت سمع وبصر الرئيس فلماذا لا يصدر مرسوما يلجمهم بينما كان قادرا على إصدار أربعة مراسيم في غضون ساعات؟
الحقيقة التي لا تريد حماس ولا فتح الاعتراف بها أن كلا الجانبين عمل بمنطق التنظيم ومصلحته، وكلاهما ابتعدا عن المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وكلاهما يصر على التعامل وفق أجندته ومشروعه. وفي المقابل الخاسر الأكبر هو فلسطين والشعب الفلسطيني سواء في فلسطين أو لبنان أو العراق أو سوريا أو مصر أو الأردن وفي كافة أماكن الشتات حيث لم يعد الشعب الفلسطيني يتمتع ولو بقليل من الكرامة، بل أن الأداء السياسي والإعلامي، منذ أوسلوا وإلى يومنا هذا، لكافة التنظيمات الفلسطينية بما فيها تلك الجماعات التي وقفت على الحياد وكأنها بمنأى عن الحريق حولت الشعب الفلسطيني إلى وحش مفترس بحاجة إلى ترويض. وها هو يقع فريسة الجوع والمهانة والتحقير.
بالتأكيد لسنا في وضع يسمح لنا بالمناورة كما هو الحال في العراق وأفغانستان ولبنان وحتى الشيشان، وكل ما لدينا فقدناه حتى رغيف الخبز، وبحسب التصريحات التي نسمعها ونستعد لتذوق مرارتها هو فرض حصار على غزة قد يحولنا إلى مجموعة بشرية حيوانية محرومة من الماء والكهرباء والغذاء والتحويلات المالية حتى من أبنائنا المغتربين. فممنوع علينا الأكل والشرب والضوء والطب، وهو إجراء إن وقع لا قدر الله سيكون من أشد الجرائم التي ترتكبها البشرية ضد مجموعة من الناس على مر التاريخ الإنساني، ولو لم يقع فيكفي القول أن هذا العالم المتوحش والقيادات الجاهلة قد جهدت وتجرأت على المجاهرة في تحويل شعب الجبارين الذي استخلفه الله في الأرض المقدسة ليكون سادنها إلى أحط شعوب الأرض وأشدهم جوعا وقحطا. أما الجريمة الأخرى المحتملة فهي مهاجمة غزة وتصفية الجماعات الجهادية فيها جسديا أو زجهم في السجون.
للأسف هذا ما جلبته توجهات قيادة حماس الجديدة بالمشاركة السياسية في سلطة نبذها القادة المؤسسون وطعنوا في شرعيتها الدينية والسياسية وفجأة تغير الموقف بحجة أن المشاركة أملتها الظروف لمنع التنازلات والتفريط في القضية الفلسطينية، ولا شك أن حماس كانت في أوج مجدها قبل المشاركة السياسية وكانت تحتفظ برصيد شعبي كبير بين العرب والمسلمين في شتى أنحاء العالم وها هي للأسف تخسر وتتعرض لحصار خانق هي وشعبها. فإذا كنا وصلنا إلى هذه الحال منذ ما يزيد عن العام، ألم يكن من الأجدى التهيئة للانسحاب من هكذا عملية سياسية قذرة قبل فوات الأوان؟ ألا تشعر حماس أن حركة فتح فاقدة لإرادتها وبالتالي فهي عاجزة عن استيعاب ما حصل في غزة؟ بل أنها ليست معنية به؟ وفي أحسن الأحوال ليست مهيئة لخطوة من هذا القبيل؟ أليس من الأجدى على حماس الانسحاب التام من العملية السياسية والاحتماء سريعا بحركة الجهاد والألوية تحت سقف المقاومة عبر تشكيل جبهة موحدة استعدادا للمرحلة القادمة؟ أيعقل أن تعجز الجهاد والألوية أو أي فصيل فلسطيني على مساعدة حماس في توفير مظلة عمل جديدة تخرجها من المأزق؟
حماس والوقوع في الفخ
ففي اليوم التالي لهزيمة فتح المنكرة اتخذ الرئيس الفلسطيني محمود عباس سلسلة إجراءات عاجلة أبرزها إقالة حكومة إسماعيل هنية وتشكيل حكومة طوارئ، وكان واضحا لكل مراقب أو مطلع على الوضع أن ما اتخذ من إجراءات هي بالقطع غير دستورية ولا قانونية بقدر ما هي ردود فعل سياسية في الصميم حتى لو بدت في بعض جوانبها دستورية دون الجوانب الأخرى كالتي تفرض على الرئيس بقاء الحكومة المقالة حكومة تسيير أعمال. والحقيقة أن هذه الإجراءات العاجلة مثلت ثاني المفاجآت بحيث جاءت ردود الفعل الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية وحتى بعض الردود العربية مؤيدة وداعمة ومبشرة بفك الحصار هكذا دون مقدمات لتمثل المفاجأة الثالثة بامتياز وتطرح علامة سؤال كبرى: ألا تدل مثل هذه التداعيات على أن فتح من الأرجح أنها تقصدت الهزيمة في غزة؟ وأن ما جرى هو فعلا فخ نصب لحركة حماس بإحكام؟ خاصة وأن أبو زهري استفاق بالأمس ليتحدث عن مؤامرة استهدفت الحركة؟
إذا أخذنا بهذا الاحتمال فلأننا (1) نعتقد أن كل الإجراءات التي اتخذها الغرب في حصار الشعب الفلسطيني قد فشلت في إزاحة حماس عن دفة السلطة، ولأن سياسة ربع الرغيف التي اتبعتها قوى الحصار أثبتت أنها غير كافية لاستثارة الناس على حماس، ولأن (2) الاتفاقات واللقاءات في مكة والقاهرة وغيرهما لم تكن وحدها ذات جدوى. لكن (3) مع الفلتان الأمني وضحاياه والاستفزازات والخداع والنفاق ومحاولة كسب الوقت من الجانبين لهي السياسة التي أثبتت جدواها ودفعت حماس في غزة إلى الزاوية بحيث لم تعد تتحمل ما يجري على أرض تحسب أن لها فيها الغلبة، وهكذا كان!
نفذ صبر حماس وهي توضع بين أسوأ الخيارات وأشدها خسة، فإما أن تكظم الغيظ إزاء عمليات الفلتان الأمني وما يخلفه يوميا من قتل وخطف بحيث تكتفي بلعب دور المتفرج والمهدد بعصا حكومة الوحدة الوطنية وهي تدق رأسها صباح مساء إن هي بادرت بخرق اتفاق مخروق أصلا أو تحميلها مسؤولية العجز وعدم القدرة على فك الحصار السياسي والاقتصادي الذي تحكمه عليها القوى المعادية ذاتها بما فيها مؤسسة الرئاسة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية. وهكذا سيقت رغم أنفها لِأنْ تكون ندا يقبل النزال ويصب جام غضبه عسكريا وإعلاميا على من اعتبرتهم رؤوس الفتنة أو المجموعة الانقلابية بزعامة دحلان ورشيد أبو شباك ومشهراوي وأمثالهم.
كارثية الأداء الإعلامي
على المستوى الإعلامي، وبقطع النظر عن السقوط في الفخ، بدت كتائب القسام قوة دموية قادرة على إلحاق الأذى ليس بفتح وحدها بل بكل السلطة ورموزها وتنظيماتها، وكان لوسائل الإعلام التابعة لحماس دورا استفزازيا في إثارة مشاعر النقمة على تصرفات القسام بغزة خاصة في حادثة سحل وإعدام سميح المدهون، فالناس قد تكون سمعت وقرأت وتابعت جرائم هذا وذاك ممن استخفوا بدماء الناس، وبالتأكيد لن يسامح فيها أحد، خاصة من أهل الضحايا، ولكن النزعة الإنسانية عند بني البشر غالبا ما تطغى وهي ترى مشاهد الفتك والسحل بأبشع صورها تنفذ ميدانيا بصورة تأباها النفس السوية حتى ضد العدو، والأسوأ أن يأخذ تلفزيون الأقصى التابع لحماس على عاتقه بث مثل هذه المشاهد مستخفا بكل روح إنسانية أو بأية محاذير أو عواقب.
وإجمالا فإن متابعة الأداء الإعلامي لحماس في كافة القضايا كان في غالبيته فظا غليظا ولما يزل خاصة وأنه يعتمد في ردوده على الغطرسة والسخرية وتحقير المخالف بأقذع الصفات غير آبه بأية آراء أو انتقادات سواء تعلق الأمر بالخصوم كعصابة دحلان أو بالمخالفين لنهج الحركة وجماعة الإخوان المسلمين مثل تيار السلفية الجهادية وأنصارها أو حتى ممن أبدوا ملاحظاتهم بحسن نية حينا وبمرارة حينا آخر وكانوا أقرب لحماس والقسام من قربهم لأية جماعة فلسطينية أخرى.
وحتى أنصار السلفية الجهادية الذين اعتادوا على تحكيم الشرع في أي فعل سياسي أو عسكري يؤدي إلى القتل والإعلان عنه كانت لهم ملاحظات ليس على بث المشاهد بقدر ما أبدوا تخوفات من أن يكون قتال حماس في غزة قد وقع على خلفية الصراع السياسي أكثر منه قتالا تحت راية دينية، بل أن أبرز ما أثار حفيظة السلفية الجهادية هو اتهام حماس لرموز الفتنة بالردة والجيش اللحدي بحيث تبرر لنفسها تكفيرهم ومهاجمتهم وقتلهم في حين تستنكر على السلفية الجهادية ذات الفعل إذا ما تعلق الأمر بالحزب الإسلامي في العراق أو برموز القتل الشيعية أو بمن تعاملوا مع الأمريكيين وركبوا أساطيلهم وساهموا في غزو بلادهم كما حصل في أفغانستان والعراق أو تعاون مع عصابات العسكر في طغيانهم على الجماعات الإسلامية الأخرى والأبرياء في القرى والمنائي البعيدة ونهبهم للبلاد كما حصل في الجزائر.
وكان ملفتا للانتباه حقا أن نبيل عمرو، وهو أحد الرموز إياها، أخذ يغمز من قناة السلفية الجهادية مستغلا مثل هذا الأمر وهو يدرك مدى وقعه على حماس ليحملها المسؤولية الدينية فضلا عن المسؤولية السياسية عما فعلته في غزة. والحقيقة أن تصريحات رموز السلطة وحركة فتح وهي تهنئ حماس بنصرها العظيم على غزة والشعب والقضية وضعت حماس بخبث في مأزق شرعي أمام العامة من الناس.
لا شك أن كل مراقب يدرك أهمية الشبكات الإعلامية على الإنترنت وما تعكسه من تعبير صادق عما يجري في المستوى السياسي خاصة وأن ساحاتها تضم كتابا على مستوى رفيع وأغلبهم إن لم يكونوا من حماس والإخوان المسلمين فهم محسوبين عليها أو من أشد المناصرين لها، وفي حين ساند أنصار السلفية كتائب القسام، وليس القيادة السياسية، على ما قامت به في غزة من "تطهير" لرموز وأدوات الفتنة مما يجعلها تتماهى في صف واحد معها سارعت الشبكة الفلسطينية للحوار عبر أعضائها ومشرفيها إلى التبرؤ مما أسماه البعض بأحلام السلفية الجهادية، ومع ذلك بقي السؤال مطروحا: لِمَ المحلَّل يا حماس على كتائب القسام محرم على السلفية الجهادية من كل جانب؟ أم أن ما حصل مجرد كذب وادعاء طالما لا وجود لبيان رسمي؟
بطبيعة الحال لن تكون هناك أية إجابة يعتد بها، ولو أتى المراقب والصحفي والناقد والصديق والعفيف والمحايد والمشفق والمحب وحتى المغرض واللئيم بملء الأرض تساؤلات ومثلها حجج وخاض المقارعات ليل نهار؛ فإن سلم من الشتم والقدح والاتهام والتخوين والعمالة؛ فلن يحصل، في أحسن الأحوال ، إلا على إجابة من ذات اللون وذات التعابير: سلم منك الروم ( وهنا فتح ودحلان) ولم يسلم منك إخوانك، أو أهل مكة أدرى بشعابها أو أن الإخوان آخر سد في الأمة فإذا انهار انهارت الأمة وقس على ذلك. والغريب العجيب أن يبيح بعض هؤلاء لأنفسهم إعلان الحرب باسم حماس والإخوان على المخالفين ويشنوا حملات إعلامية مكثفة ضدهم وهجمات بلا منطق أو دين أو مبدأ، وحين تحاججهم بما يفعلون يقال لك ببساطة: هل صدر بيان رسمي عن الحركة!؟ ونحن نقول هلاّ أجابت حماس على تساؤلات السلفية الجهادية؟ وجددت التأكيد على مواقفها بوضوح وببيان رسمي أو خطاب تاريخي يوجه إلى عموم الأمة بعد الخطوب التي مرت بها ولا تزال حتى لا يتهم أحد بالكذب والتزوير؟ أو أن معلوماته مستقاة من شوارع الشبكة الفلسطينية للحوار!؟
بالتأكيد ليس من الضرورة أن يصدر بيان فيمن انتقد حماس حبا أو كرها، وليس واجبا أن يصدر بيان فيمن يتبرع للدفاع عن حماس والقسام، ولكن ليس من الإعلام في شيء أن تتصور حماس والإخوان أن هذه المنهجية تحشد لها الدعم والتأييد والمناصرة في وقت تتربص وسائل إعلامها بالمخالف والناصح والناقد والخصم على حد سواء وكأنهم آخر.
هذه المنهجية الإعلامية في التعامل مع المحبين والخصوم والمحايدين والناقدين كافية لتنفير كل القوى من الحركة وتحويلهم إلى أعداء أو في أحسن الأحوال إبعادهم عن الحدث فلا هم مؤيدين ولا هم ناقدين ولا حتى ناصحين، وكافية لتوصيف فعاليات التطهير في غزة على أنها فعاليات ناجمة عن دوافع تنظيمية ليس للمصلحة الفلسطينية فيها أي نصيب. وكافية لاستنتاج أن الحركة ترغب بخطاب يتناغم مع خطابها أيا كانت النتائج، فإن حلل أحد ما أو شرح ووافق الهوى فيا مرحبا، وإن انتقد وخالف فليذهب إلى الجحيم لا هو منا ولا يهمنا وخذ من التسخيف والتحقير والسخرية ما الله به عليم حتى لو كنت في يوم ما حليفا أو صديقا أو مدافعا أو مناصرا، مسكين يا عبد الباري عطوان وأنت تتخوف من القادم وتستنفر قواك فإذا بك تبحث عن قيادة ومجد تليد! ومسكين يا ظواهري وأنت ناقم على حال حماس وكأنك طالبتها بالاعتراف بإسرائيل!
منطق الأداء السياسي للقوى المتصارعة
أما على الجانب السياسي فالقادم أدهى وأمر. فالسيناريوهات المتوقعة مفتوحة على مصراعيها. فللأمريكيين واليهود والعرب والأوروبيين أجنداتهم السياسية التي يسعون لتحقيقها، وبحساباتهم، ولأنهم ليسوا مستعدين للانتظار إلى ما لا نهاية كان لا بد من الإيقاع بحماس للتخلص من هذه الحكومة. وعلى الفور جرى إقالتها دون تفكر أو تدبر أو انتظار أو تقييم لا لشاردة ولا لواردة. وأعلن عباس عن تشكيل حكومة جديدة يمكن التعامل معها بسهولة، ولكن ماذا عن بقايا حكومة حماس التي تصر حتى الآن على تسميتها بحكومة الوحدة الوطنية؟ وماذا ينفع القول أن مشكلة حماس ليست مع فتح بل مع زمرة الفساد؟ ألم يتراجع أحمد حلس ويصطف مجددا إلى جانب حركته ويسخر من حماس وهو يهنئها بالانتصار؟ ثم كيف يقال، بهذه البساطة، بأن الزمرة انتهت وليس لنا مشكلة مع الشرعية الفلسطينية ولا مع الرئيس في حين أن رموز التيار لم يصب أحدهم بأذى ولا اتخذ بحقهم أي إجراء من حركة فتح نفسها، فضلا عن أن الرئيس هو من أقال الحكومة وشكل غيرها؟ وفي الضفة الغربية انتشر الفلتان يعيث في الأرض فسادا وقتلا وأذى وحرقا للمقرات تحت سمع وبصر الرئيس فلماذا لا يصدر مرسوما يلجمهم بينما كان قادرا على إصدار أربعة مراسيم في غضون ساعات؟
الحقيقة التي لا تريد حماس ولا فتح الاعتراف بها أن كلا الجانبين عمل بمنطق التنظيم ومصلحته، وكلاهما ابتعدا عن المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وكلاهما يصر على التعامل وفق أجندته ومشروعه. وفي المقابل الخاسر الأكبر هو فلسطين والشعب الفلسطيني سواء في فلسطين أو لبنان أو العراق أو سوريا أو مصر أو الأردن وفي كافة أماكن الشتات حيث لم يعد الشعب الفلسطيني يتمتع ولو بقليل من الكرامة، بل أن الأداء السياسي والإعلامي، منذ أوسلوا وإلى يومنا هذا، لكافة التنظيمات الفلسطينية بما فيها تلك الجماعات التي وقفت على الحياد وكأنها بمنأى عن الحريق حولت الشعب الفلسطيني إلى وحش مفترس بحاجة إلى ترويض. وها هو يقع فريسة الجوع والمهانة والتحقير.
بالتأكيد لسنا في وضع يسمح لنا بالمناورة كما هو الحال في العراق وأفغانستان ولبنان وحتى الشيشان، وكل ما لدينا فقدناه حتى رغيف الخبز، وبحسب التصريحات التي نسمعها ونستعد لتذوق مرارتها هو فرض حصار على غزة قد يحولنا إلى مجموعة بشرية حيوانية محرومة من الماء والكهرباء والغذاء والتحويلات المالية حتى من أبنائنا المغتربين. فممنوع علينا الأكل والشرب والضوء والطب، وهو إجراء إن وقع لا قدر الله سيكون من أشد الجرائم التي ترتكبها البشرية ضد مجموعة من الناس على مر التاريخ الإنساني، ولو لم يقع فيكفي القول أن هذا العالم المتوحش والقيادات الجاهلة قد جهدت وتجرأت على المجاهرة في تحويل شعب الجبارين الذي استخلفه الله في الأرض المقدسة ليكون سادنها إلى أحط شعوب الأرض وأشدهم جوعا وقحطا. أما الجريمة الأخرى المحتملة فهي مهاجمة غزة وتصفية الجماعات الجهادية فيها جسديا أو زجهم في السجون.
للأسف هذا ما جلبته توجهات قيادة حماس الجديدة بالمشاركة السياسية في سلطة نبذها القادة المؤسسون وطعنوا في شرعيتها الدينية والسياسية وفجأة تغير الموقف بحجة أن المشاركة أملتها الظروف لمنع التنازلات والتفريط في القضية الفلسطينية، ولا شك أن حماس كانت في أوج مجدها قبل المشاركة السياسية وكانت تحتفظ برصيد شعبي كبير بين العرب والمسلمين في شتى أنحاء العالم وها هي للأسف تخسر وتتعرض لحصار خانق هي وشعبها. فإذا كنا وصلنا إلى هذه الحال منذ ما يزيد عن العام، ألم يكن من الأجدى التهيئة للانسحاب من هكذا عملية سياسية قذرة قبل فوات الأوان؟ ألا تشعر حماس أن حركة فتح فاقدة لإرادتها وبالتالي فهي عاجزة عن استيعاب ما حصل في غزة؟ بل أنها ليست معنية به؟ وفي أحسن الأحوال ليست مهيئة لخطوة من هذا القبيل؟ أليس من الأجدى على حماس الانسحاب التام من العملية السياسية والاحتماء سريعا بحركة الجهاد والألوية تحت سقف المقاومة عبر تشكيل جبهة موحدة استعدادا للمرحلة القادمة؟ أيعقل أن تعجز الجهاد والألوية أو أي فصيل فلسطيني على مساعدة حماس في توفير مظلة عمل جديدة تخرجها من المأزق؟