إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قصة تدمي القلب والعين ولا مجيب لصرخات الابرياء //ارجوا منكم الدخول

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصة تدمي القلب والعين ولا مجيب لصرخات الابرياء //ارجوا منكم الدخول

    "حكايتُها".. أولُها وآخِرُها.. بماءِ العينِ تكتُبُها.."أم إبراهيم" العر شاركَت جثث "إبراهيم" و"فداء" و"إيمان" الفِراش خمسة أيام.. وهدهدت لأشلاء "راكان" وبحثت عن "نصف" "زوجها" الضائع!

    الزمان: دقائقٌ اختلسها الوقت من تاريخ السبت.. الثالث من كانون ثاني/يناير الماضي.. و"تكّات" الساعة حول معصم السمراء "فداء" كانت تئنُّ بصمت..
    المكان: "عزبة عبد ربه".. هناك حيث لو خطوتَ "بأناملك" فوق خارطة قطاع غزة لوجدتَّها "مذبوحةً" في شماله.. في ذلك المكان.. حيث يترافق التضاد.. فيحبو "الموت" مرتلاً ترانيم "الحياة".. وتبدأ بتاريخ الميلاد "نهاية" حكاية.. بل ألف ألف حكاية..
    المشهد: لا شيء تبقّى من قصاصات الذاكرة إلا أشلاء "راكان" الصغير.. وتمتمات "إبراهيم" آخر الحروف من آية الكرسي.. وساعة "فداء" التي بقيت تئن بصمت.. بقايا أب.. وأشياء أخرى اختزلتها أنّات "إيمان" العطشى لشربة ماءٍ على كتف الكوثر..
    هي قصةٌ تفاصيلها كتفاصيل الحرب كافة.. "دمويةً" "مريرة".. عاشتها عائلة "محمد العر" المكونة من أحد عشر فرداً بكل لحظاتها.. "الحب" فيها.. و"الخوف" و"الأمل" و"الدعاء" و"الرجاء"..
    هي قصة عائلةٍ أخرج أحداثها "بامتياز".. صاروخٌ أطلقته طائرة حربية إسرائيلية انتهك حرمة "الإنسان" فيها.. وهدم أحلام كل من حمل اسمها على وقع صرخات الأم الثكلى "ليلى نصار" (أم إبراهيم).. تلك "الحنون" التي شاركت أبناءها الشهداء "الفِراش" خمسة أيامٍ بلياليها.. قبل أن يجبرها جنود الاحتلال على تركهم.. والرحيل..

    هي من سيتلو الحكاية.. هي من سينادي.. ويصرخ.. ويبكي.. هي..
    ..هي من سيتوجّع حين يعود فيذوق مرارة الذكرى.. هي..
    ..هي من سيحوك التفاصيل بدمعها.. فلنقرأ سوياً..
    *"خوفُها" ولُقيا "الوجوه" الأخير..
    أعطت الشمسُ لحظتَها الأفقَ لوناً "مخملياً".. لم يكن احمراره أقلُّ قتامةً من لون وجنتيّ "أم إبراهيم" وقد أنهَكَتْ لسانَها "التوسلاتُ" للجميع كي يسرعوا استعداداً لمغادرة المنطقة المكشوفة التي يعيشون فيها "بالقرب من المقبرة الشرقية"، سيما وأن البيت المصنوعةُ حوائطُهُ من (ألواح الأسبست) لم يعد قادراً على الصمودِ أكثر أمام انفجارات القذائف بين اللحظة واللحظة هناك..
    "فداء" كانت تتوضأ استعداداً لصلاة المغرب.. و"محمد" زوجها يبتسم مردداً: "الأمان في وجه الله يا امرأة"! أما "إبراهيم" (12 عاماً) فقد امتطى مقدمة عربة الكارو استعداداً لقيادتها بأهله.. بينما "راكان" الصغير(5 أعوام) تشبّث بطرف عبائتها يريد منها أن تحمله بدلاً عن "مَلَكْ" الرضيعة.. وفيما كان "ناهض" -ابنُ زوجها- يساعد زوجتهُ العروس "إيمان" على صعود العربة.. أهلَكَتْ البقية الباقية من بناتها "نداء وياسمين وأسماء" الطريق تحتهنّ جيئةً وذهاباً بين البيت والعربة.. ينقلون إليها ما استطعن لملمته من مئونة..

    *أخذوا "أسماءهم".. و..!

    بصوتٍ مرتعش روت بطلة قصتنا بقايا من تفاصيل "ما قبل النهاية" فكان طرف المشهد هو: "خاطبني "ناهض" بصوتٍ عالٍ "جاهزون يا عمتي".. ج ا هـ ز ووو.... قطع عليه إتمام الكلمة صوتاً هائلاً.. فالصاروخ الذي سقط –هذه المرة- كان لا يبعد عن مكان تواجدنا أكثر من عشرة أمتار.. سمعتُ صوت "فداء" صرَخَت.. فقالت لي إحدى أخواتها أنها وقعت على ساقها.. وكنتُ أنا في قرارة نفسي أعرفُ أنها أصيبت بشظية".. ثم جاءت "فداء" تعرج بتؤدة.. وتجمّع الكل تحت عريشةٍ كان زوجها الخمسينيّ (أبو ناهض) صنَعَها من سعف النخيل...
    هي لحظات.. وكانت صرخة.. صرخةً واحدة فقط.. احترقَ السعف.. وسكنَ الكلام.. امتزجَ الدم بالدخان.. و"أم إبراهيم" التي كانت ساقها اليسرى النازفة "كالنار تحرق الجسد" نادَتْ كلَّ الأسماء.. راكان.. إبراهيم.. محمد.. نداء.. ياسمين.. فداء.. ناهض.. كلها.. كلها.. زحَفَتْ نحو البيت تسحبُ خطّاً من دمٍ خلفَها.. وتنادي.. تنادي.. ولا مجيب..

    *أشلاءُ "راكان" جسرها نحو جثة "إبراهيم"!

    على بُعدِ أعوامٍ من الدخان الأسود.. أنَّتْ "مَلَكْ" وقد نزَفَ رأسها.. ومن البعيد نادى ناهض زوجة أبيه "لقد أصبتُ يا عمتي" ثم مضى يقطر دماً نحو الشارع العام ينادي "إسعافاً".. والطائرات "من مسافةٍ قريبة" تطلق نيران رشاشاتها..
    "يا اللـه من هذا؟".. بهذه الكلمة صَرَخَتْ "هلعاً" أم إبراهيم، حينما تحسسّت جثّةً أخفى ملامحها الدخان، قالت بلسانٍ أثقلَتْهُ صدمةُ عمرها :"أغمضتُّ عيوني عن معرفته.. وكذّبتُ قلبي الذي كان متيقاً أنه هو!!.. إبراهيم حبيبي.. أين وجه القمر؟؟ إبراهيم أجبني.. عانقتُه وبكيت.. بكيت فهذا "بِكري".. أول فرحتي بالصِبْية.. طفلٌ هَرِمَ "قهْراً" بنصف رأس!.. ينزف هو الآخر... بصمت"!!
    "إسعاف يا الله.. إسعاف يا عالم..".. هذا ما استطاعت الأم "المكلومة" حينها أن تستصرِخه.. فلا أمةً عربية كانت لِتَسمَع.. ولا "جيشٌ محتل" كان سيرأف لحالها، تتابع :"كنتُ أعلم أن مجيباً لن يجيب نداءاتي إلا الصدى.. فوصول سيارات الإسعاف إلى المنطقة كان أخطر من مجرد "موتٍ" وحسب"..
    هي لم تتابع الزحف وحدها.. بل زحفت هذه المرة محتضنةً "حبيبها" إبراهيم.. لحظاتٌ فقط، وسُمِعَ في الأفق دويّ صراخ –نداء- الكبرى... "يماااااا.. إلحقينا،، راكان ماااات"..
    أم إبراهيم أغمضت عيناً من بكاء.. واستنزفت في قلبها الكَلِمَ، متابعةً :"ناديتُ بلا صوتي.. اصمتي يا نداء.. أعرف،، أشلاؤه كانت جسراً مررتُ عليه بإبراهيم.. نعم رأيتُهُ فكذّبتُ عيوني،، وضعتُ رأسي بيت كفيَّ وأجبتُها :"الحمدلله.. وإبراهيم أيضاً استُشهِد".

    *ورحَلَتْ "فداء"..

    في تلك اللحظة تذكَّرَت "أم الشهداء" زوجها "محمد"، فعاتبَتهُ بجروحها "الثكلى" :"ظننتُ أنه هرَبَ تاركاً إيانا نرفع أشلاءنا وحدَنا".. لحظاتٌ أخرى، وجلجل صوت "نداء" ثانيةً :"يمااا إلحقي –فداء-.. فداء تتنفس.. فداء فيها الروح"..
    خرَجَتْ "أم إبراهيم" تجرّ ساقها المصابة "بلا وعي".. ووجَدَتْ "فداء".. "كلا.. لم تكن فداء.. ليستْ تلكَ يداها.. أين هي "فداء"؟ أين المُجِدّة التي كان حلم الالتحاق بكلية الحقوق يراودها منذ سنين؟؟"
    أدخلَتْها أمها البيت "بكفّيْها المدمّيتين"، عاتبَتْهَا بقهر.. "لا يا فداء.. إبراهيم استشهد.. وراكان استشهد.. وانتي كمان يما يا حبيبتي بدك تروحي وتتركيني؟.. ومضتْ فداء.. واستقبلتها "السماء".. رأيتُها تنطِق الشهادة.. فاحتسبتُها عند الله "حبيبة".. "شهيدة".. "شفيعةً" يوم العرض..

    *يكفي يا "نداء".. و"إيمان" أيضاً؟!

    "ما بالك يا "نداء".. دعيني أموت بسلام".. كانت هذه ردة الفعل الأولى من قبِلِ "الأم" على صرخة "نداء" الرابعة.. وهذه المرة بانفعالٍ أكبر.. "يمااااا... إلحقي إيمان".. تسرد "أم إبراهيم" تفاصيل استشهاد "إيمان" أيضاً، وتقول بصوتها المتحشرج "الدامي" :"ضربتُ ساقيَّ المدميتين بكفّيّ مراراً.."ألحق مين ولّا مين يا نداء.. ألحق مين ولا مين؟"، مضيفةً :"إيمان زوجة ناهض، كانت لا تزال على قيد الحياة... وجهها كان متفحماً.. وساقيها هشمتهما الشظايا.. رفعتُها فبقيَتا تنتظران من يلملمهما إلى بقية الجسد.. ليست ساقيها وحسب.. بل ساعِدُها الأيسر كذلك سقط"..
    ثلاثتهم كانوا في الغرفة.. "إبراهيم".. و"فداء".. و"إيمان" التي اختفت معالمها تنادي عليهم اسماً اسماً.. "عمتي.. أسعفيني يا عمتي.. نداء.. أسعفيني... أسعفني يا ناهض.. راكان أين أنت؟؟.. أرجوكِ يا عمتي.."..
    تستدرك :"بكيتْ.. ماذا ترايَ أفعل من أجل هذه المسكينة؟.. بكيتُ بحرقة.. قلت لها :"ليتني أستطيع يا إيمان.. سيارات الإسعاف لن تصل.. ونحن إن لم نمت اليوم.. سنموت غداً"...

    *في بيت "الجيران".. شهيدةٌ "عطشى"!

    كانت لحظة وصول "الجيران" كفيلةً بأن تدَعَ "أم إبراهيم" تستسلمُ لألمٍ كانت نسِيَتْهُ "ألماً" لألمٍ من نوعٍ آخر.. "ألمٌ" بمذاق الدمِ تجرّعت مرارته "وحدها" قدحاً.. قدحاً.. :"أخذوني وبناتي الأربعة -اللواتي أكرمهنّ الله فحماهُنَّ- إلى بيتهم، وحملوا الجثث الثلاثة.. وبقيت أشلاء "راكان" في صقيع الليل تنتظر"..
    أشفقتُ عليهِ من سماءٍ قد تنزف ليلتها،، وبينما هممتُ للخروج ألملمُ جسد طفلي، أمسَكَتْ نداء بساقيّ وقبّلتهما متوسّلةً إياي أن أبقى معهنّ.. فالطائرات لم تهدأ.. وأي تحركٍ سيعني قصفاً جديداً،، وقالت لي وقد أيْقَنَتْ أنني بدأتُ أفقدُ عقلي :ماذا ستلملمين يا أمي؟؟ كل أصبعٍ من أصابع راكان في جهة".. ووعدتني أنها "صباح الغد" ستحضره لي كاملاً".. جاء المغرب.. وذهب المغرب.. و"فداء" التي استشهدت "طهورةً" لم تصلِّ المغرب..
    "إيمان" العشرينية كانت لا تزال على قيد الحياة.. كانت "عطشى" لشربة ماء.. :"نادتني، عمتي أريد ماءً.. فأجبتُها، ليتني أستطيع الوصول إلى الصنبور في الخارج، ثم عادت وطلبت كوباً من الشاي تصنَعُه لها نداء"... "نداء.. اصنعي لي الشاي.. أرجوكِ.. خذيني إلى غرفتي..أشعر بالبرد هنا".. "نداء" المكلومة أخبرتها أنها إن طلع الصبح ستأخذها.. فعادت تطلب الشاي "بإصرار"..
    بصعوبةٍ استطاعت نسوة الجيران جلب علبةٍ تحتوي شاياً مجففاً "نفل".. ففتحت "إيمان العلبة وقد اقترب الوقت من أذان الفجر.. تناولت ورقتين صغيرتين.. وضعتْهُما على شفتيها وغابت عن الدنيا "شهيدةً".. "شهيدةً".. "شهيدة"..

    *نداء: "جثة والدي في الخارج أيضاً يا أمي"

    خمسة أيام والمناشدات تتوالى من آل "العر" عبر محطّات المذياع المحلية.. فخطورة المنطقة كانت تتوعّدٌ من تبقّى على قيد الحياة منهم "بأجلٍ قريب"، خمسة أيّامٍ قضَتْهَا "أم إبراهيم" تَهذي "معاتبةً" ثلاثةً غادروا الحياة ومكثوا معها ينتظرون بأجسادهم "الميتة".. موتاً آخر..
    "فداء انهضي هيا.. كراريسك وحقيبة المدرسة تنتظرانك.. إبراهيم،، أصدقاؤك سيفتقدون مرحك.. "إيمان" كنتِ تنتظرين "حياةً" تدبّ في رحمك.. رحم الأرض.. ها هو ينتظرك"....
    أما راكان الصغير.. فبقيت أشلاءه تنتظر طوال تلك المدة من يلملمها.. :"كنتُ أغني له مهدهدةً من خلف النافذة.. أنادي عليه.. أنتظرُه حتى يقول لي كما كان يفعل كل ليلة: لو استُشهدت يا أمي سألقي لكِ بتفاحٍ الجنة وموزها تأكلينه وحدك.. وإياكِ أن تطعمي ملك"..
    خمسة أيام.. ونداء تتوسط المنامة بيني وبين إبراهيم المسجى.. :"كنتُ كلّما حاولتُ رفع الغطاء عنه كي أقبّل جبينه المهشّم، تستيقظ فداء فتدفعني عنه خوفاً عليّ.. خمسة أيامٍ وهي تخفي عني خبراً كان "القشة التي قصمت ظهر البعير""، والدها محمد العر (أبو ناهض) استشهد مع إخوِتِها أيضاً.. لكنها أخفت الخبر خوفاً على أمها التي انهارت كلياً بعدما رأت بعينيها أشلاء أربعةٍ من غواليها..

    "هششش.. ما من شهداءٍ هنا"!!

    بقي الشهداء الثلاثة ملفوفون بأغطيةٍ صوفية و"راكان" هناك.. وحيداً.. يعانق "نصف جسد والده" تمرُّ عنهما الكلاب ليلاً.. وترحل..
    طوال تلك الأيام.. لا الإسعاف وصل,, ولا القصف هدأ.. وآخر البشرى كانت.. "الاجتياح البري بدأ"!!... :"فوجئنا صباح الثامن من يناير، بدبابات الاحتلال تصوّب فوهات مدافعها نحو البيت "الذي نحن فيه"، وجرافاتٌ أخرى.. كانت تجرّف الأرض "مكان زوجي محمد وطفلي راكان"".. في تلك اللحظة طلبت الجارة العجوز صاحبة البيت منهم –حسب أم إبراهيم- أن يخرجوا للجيش براياتٍ بيضاء، سيما وأن كل من كان موجوداً آنذاك هم نسوةٌ وأطفال.. أما لقاؤهم بالجنود.. فكانت له قصةٌ أخرى..
    تصف أم إبراهيم بشاعة المحتل، وموت الرحمة في قلبه برواية الموقف الذي أدمى قلبها أكثر من مشهد مفارقة روح أولادها الجسد، قالت :"طلبوا منا التجمع في زاوية، ثم اقترب أحد الجنود من ابن الجيران (12 سنة تقريبا)، وقال له :"انت حماس.. يلا حبيبي طلّع الآر بي جي اللي عندك".. ثوانٍ وإذا به يشير إلى سائق الجرافة التي حملت نجمة "الصهيونية" كي يجرّفنا نحن والبيت سوياً"، مستكملةً حديثها بعيونٍ نازفة :"صرَخَت العجوز بوجهه "ماذا تجرّف؟؟ هل جننت؟؟ كلهم أطفال".. قال لها:"إذا ابتعدوا قليلاً سنجرّف البيت فقط"، ردّت عليه بانفعال :"لا.. في البيت شهداء.. في البيت شهداء.. لا تجرّف".. قرّب وجهه من وجهها ووضع إصبعه على فمه بعنفٍ وأجابها: "هشششش.. لا تقولي شهداء.. مافي شهداء هون.. ستتأكدين من كلامي بعد قليل".. ثم طلَبَ منا أن نغادر على شكل "طابور" وأن لا نلتفت للخلف "وإلا....."..

    ودّعَتْهُمْ بدمعٍ.. ودم!

    هرول "الكلّ".. وأم إبراهيم تجرّ ساقها الجريحة "تهذي".. دفَعَهَا "الحبّ" أن تلتفتَ والرصاص من فوقها وتحت قدميها كزخّ المطر.. فرأتهم.. رأتهم يجرّفون بيت الجيران.. "بيت الشهداء".. انهارَتْ وسقطَتْ أرضاً وقد غسَلَتْ الأرض بدمعٍ ودم.. نادتْ بأعلى الصوت غير مكترثةٍ لتوسلات بناتها.. "سامحوووني.. سامحني يا إبراهيم.. يا فداء.. راكان يا حبيب أمك.. محمد يا سندي.. إيماااان.. سامحوني كلكم.. ما بيدي شيء.. سامحوني"..
    وبينما لا شيء تراه الأعين طوال الطريق إلا ركام البيوت وجثث الضحايا.. صرختْ عجوزٌ اختبأت خلف كومةٍ من حجارة، كانت مصابةً منذ ثلاثة أيام تنزف "وحدها" تصارع الموت.. حمَلتْها أم إبراهيم "المصابة أيضاً" بمساعدة بناتها وقالت لهن :"إما أن نموت وهي معنا.. أو ننجو برفقتها"..
    بأعجوبةٍ استطاعوا اجتياز شارع صلاح الدين، وهناك.. أسلمت عيونها لفقدان وعي استمر يومين ونيّف، استيقظت بعده في بيت قريبٍ لها بجوار مستشفى الشهيد كمال عدوان، وقد التفّت حولها بناتها الأربعة يحمدون الله على سلامتها..
    وفي يوم "الجلاء"..

    طوال الفترة ما بين وصولها إلى بيت قريبها، وإعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت وقف إطلاق النار.. كانت أم إبراهيم "يوماً بيوم" تلتقط الموز والتفاح تمدُّها أنامل "راكان" من الجنة "في مناماتها".. كانت تصفّق فخراً بمرافعةٍ تلقيها ابنتها "المحامية" فداء.. تداعب حفيدها المُنتَظَر ابن "إيمان".. تهدهد له.. وتفكُّ نزاعاته مع عمته "ملك" ابنة العامين..
    كانت وأبا محمد يشربان الشاي يشاركهما إياه إبراهيم تحت عريشة السعف قبل أن ينطلقا يرعيان الحلال..
    وحتى اليوم الموعود.. كانت تُرسِل أبناء اخيها يترقبون انسحاب الآليات من فوق جبل الصوراني.. وما كادت تنسحب حتى بدأت رحلة البحث عن "أشلاء" الكل.. من جديد..
    عناية الله شملت الثلاثة الملفوفين بأغطية الصوف، فبقوا على حالهم كما ترَكَتْهُمْ "أم إبراهيم".. أما "راكان" فقد تحلل لحمه وصارت أشلاؤه وأصابعه التي وعدَتْهَا "نداء" بلملمتها يوماً "عظاماً" فقط.. وبقي "محمد" أبو ناهض.. زوجُها الحبيب لم يجدوه.. وبعد أربعة أيامٍ من دفن أبناءه.. وجدوا "نصف" محمد!!
    لو أن "أم إبراهيم" وافقت على التقاطي صورةً لها ولبناتها الخمسة.. لكانت شلالات الدمع تنحدر من مقلتيها وفّرَتْ ألف ألفَ كلمةٍ تُقال.. لو كان القلم يبكي لنزف على الورق "دماً" وهو يخطّ رسالةً من قلبٍ يئنّ أنّة احتضار.. يسألُ كل عينٍ حدّقت به: "هل من أحدٍ يدلّني على من يعيد لي خمس سنواتٍ من عمر وردتي "راكان"؟.. هل من محكمةٍ أتوجه إليها.. تردّ لي ابتسامة وجه القمر "إبراهيم"؟.. أي حقوق إنسان وأي مواثيق تبرئ عينيّ برؤية "فداء" على منصة القضاء؟؟ هل من حاكمٍ استطاع حقاً أن يفرّق بين الضحة والجلاد يعاقِب من وأَدَ أملَ "إيمان" بحياةٍ تدبُّ في رحمها؟؟ هل يعيد لي سند هَرَمي "زوجي محمد"؟...
    رسالتي هي "ابتسامة".. سأطلقها من بعييييييدٍ جداً.. سأطلقها معانقةً كلَّ من فقدْت.. حينما يسأل الله أولي الأمر عن أهل أكناف بيت المقدس -ماذا فعلوا من أجلهم؟؟- فيجيبونه بخزيٍ "يوم القيامة" وعار"...
    اللهم لا تحرمنا الشهادة بذنوبنا
    اللهم إن كنا لا نستحقها فأنت ارحم الراحمين
    اللهم لا تحرمنا منها يا الله
يعمل...
X