أسباب تمزق البنية التنظيمية للحركة الإسلامية (الحلقة الأخيرة)
أ. خالد سيف الدين
7-غياب الوعي السياسي:
إني أتناول هذه النقطة وأضع نصب عيني شعار حركة الجهاد الإسلامي: (إيمان.. وعي.. ثورة). فكلمة "وعي" هي واسطة عقد شعار الحركة، والركن الثاني من أركان بناء مشروع حركة الجهاد الإسلامي.
بهذه الكلمات الثلاث اختصرت حركة الجهاد الإسلامي مشروعها الفكري ـ النهضوي، الذي ميزها عن بقية الحركات الإسلامية.
لكن بالمقارنة بين وضع حركة الجهاد الإسلامي في مرحلة النشأة والتأسيس؛ والسنوات الأولى من عمرها، وبين وضعها الراهن، لا تكاد تجد وجه للمقارنة بين المرحلتين إلا في المسمى وبعض رواسب وما تبقى من الجيل الأول، حيث أن الحركة انطلقت بمنظومة فكرية إسلامية معاصرة مستنيرة في تناول قضايا الدين والأمة والعالم المعاصر، وضخت الحياة من جديد في جسد وروح الحركات الإسلامية التقليدية. أما الآن فوضع الحركة لا يسر أحدا حيث أنها تقهقرت وتراجعت كثيرا عن المشروع الفكري، تراجعت بشكل يثير القلق والخوف في النفس على مستقبل الحركة ومشروعها الفكري، حيث أن قيادات الحركة الحالية سخّرت جل اهتمامها وعنايتها بالمشروع العسكري فقط على حساب المشروع الفكري. الأمر الذي أدى إلى وجود خلل في سياسة ومنهجية الحركة، ووجود جيل كامل من الشباب الجديد لا يعرف عن مشروع الحركة إلا شعارات: (إيمان.. وعي.. ثورة، الإسلام.. فلسطين.. الجهاد، القضية الفلسطينية قضية مركزية للحركة الإسلامية المعاصرة)، وعند مناقشة الخطوط العريضة وتفاصيل المشروع تعقد الألسنة وتذهب الفصاحة والبلاغة، ولا يعرفون عن المشروع شيئا سوى اسمه، وحينما تحدثهم عن المشروع كأنك تحدثهم عن طلاسم لم يسمعوا عنها من قبل.
وإني لأشبه حالة حركة الجهاد الإسلامي بهذا التشبيه: إذ كيف أن الجيل الإسلامي الأول المؤسس للدولة الإسلامية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده لم يتكرر إلى الآن من حيث تمسكهم بأحكام وأخلاقيات وقيم وقواعد الإسلام الحنيف وعلاقاتهم الاجتماعية... إلخ. كذلك هو الحال عند حركة الجهاد الإسلامي، إذ أن الجيل المؤسس للحركة لم يتكرر إلى الآن من حيث درجة الوعي والنضج الفكري والسياسي التي كان يتمتع بها، والانتماء الإسلامي، والغيرة على المشروع الإسلامي، وحمل الهَم الإسلامي، والدفاع عن قضايا العالم الإسلامي... إلخ. وهذا الوضع يثير علامة استفهام كبيرة حول مستقبل الحركة. فإذا ما ذهب بقايا الجيل الأول المؤسس للحركة بالاستشهاد أو الموت الطبيعي أو الاعتقال، فأين الجيل الذي سيحمل الفكرة والمشروع ويدافع عنه؟! أم أن الحركة اختزلت نفسها في المشروع العسكري فقط وتخلت عن المشروع الفكري؟!
لذلك لابد للحركة من أن تصحح مسارها، وأن تعيد الحياة من جديد للمشروع الفكري، سواء بالمحاضرات واللقاءات المنتظمة، أو اللقاءات المفتوحة مع الجيل الجديد، أو كتابة المقالات والنشرات، ووضع الكتب التي تتحدث عن تاريخ وفكر وتراث الحركة، وهذا ما تفتقد إليه مكتبة حركة الجهاد الإسلامي.
أما بالنسبة إلى حركة حماس فيما يتعلق بمسألة الوعي، إن المتابع للتصريحات السياسية والإعلامية الصادرة عن قادة حماس سواء في الداخل أو في الخارج، يتوصل إلى نتيجة مفادها: أن حركة حماس لا زالت تعيش في مرحلة "الطفولة المبكرة" من حيث الوعي والنضج السياسي والتعاطي مع قضايا الأمة، وقد بدا هذا الأمر واضحا جليا عندما تلاعبت حركة فتح بحماس وأوقعتها في مآزق هي في غنى عنها، ولم تحسب لها الحساب الجيد، مثل: الانجرار إلى السلطة، الانجرار إلى الحرب الأهلية، استجداء طلب التهدئة وفتح المعابر ورفع الحصار من قِبَل العدو الصهيوني... إلخ.
كل هذه التصرفات الصادرة عن حركة حماس ليس لها سوى تفسير واحد هو: غياب الوعي والنضج السياسي عن قادة وأفراد حركة حماس على السواء.
ومن باب الموضوعية يجب الإشارة إلى أن حركة حماس أبدعت في المجال الخدماتي: (صحة، تعليم، جمعيات، بلديات)، وإن كان هذا هو حال أغلب الحركات الإسلامية، تبدع في مجال الخدمات الاجتماعية وتفشل بشكل كبير في الممارسة السياسية، وهذا يرجع بسبب غياب الخلفية السياسية الواسعة، ونظرتهم الضيقة في التعامل مع قضايا الأمة برؤية تقليدية، وغياب مسالة التجديد والتأويل في الربط بين نصوص القرآن والسنة من جهة، والواقع من جهة ثانية.
ومن صور غياب عنصر الوعي:
*إعلان التنظيم الولاء لنظام سياسي أو لجماعة سياسية ما، مقابل استعداء الجميع.
إصدار الخطب المنشورات والخطب المنبرية وعقد اللقاءات الإعلامية التي تناصب العداء للغير.
استسهال قيام حكم إسلامي في بقعة جغرافية صغيرة من بلاد المسلمين، محاصرة سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وعسكريا.
وبالنظر إلى العناصر الثلاثة سالفة الذكر، يجد أنها تنطبق بحرفيتها على حركة حماس، حيث أنه في النقطة الأولى: الولاء التام لإيران وسوريا كنظام سياسي، ولجماعة الإخوان المسلمين (الأم) ، مقابل استعداء بعض الأنظمة العربية، إلى جانب العداء للجماعات السلفية واليسارية.
أما النقطة الثانية: حدّث عنها ولا حرج، فممارسات حماس بهذا الصدد أكبر من أن تحصى في هذا المقام، فهي بحاجة إلى مجلد خاص بها. فهي ترى نفسها بأنها الحركة الإسلامية الوحيدة التي تملك الصواب كله، وما دونها من حركات إسلامية وغير إسلامية فهي على خطأ، وقد صنفت كافة الفصائل الفلسطينية: (فتح: علمانية، الجهاد الإسلامي: شيعة، الجبهات اليسارية: كفار). ناهيك عن السموم التي يبثها إعلام حماس (المرئي، والمسموع، والمقروء) في كل بيت وشارع ومؤسسة، كذلك استغلال المساجد وخطب الجمعة والدروس الدينية للترويج لنظرة حماس وتخوين حركة فتح، ومناصبتها العداء، كذلك استغلت المساجد لتخريج أجيال من المتعصبين حزبيا والمنغلقين فكريا، الذين يكنون الحقد والكراهية لكل من هو غير حمساوي.
أما النقطة الثالثة: هو الفخ الذي وقعت فيه حماس، بأن حاولت أن تجعل من قطاع غزة ولاية إخوانية أو قل إمارة إسلامية ـ وإن لم تصرح بذلك علانية ـ، وليس لديها أدنى مقومات النجاح والاستمرار في الحكم، فما زال العدو الصهيوني جاثم على أراضينا الذي يفرض حصارا خانقا على الشعب الفلسطيني، ناهيك عن مشاركة بعض الأنظمة العربية في فرض الحصار وتضييق الخناق على الشعب الفلسطيني في محاولة لإفشال تجربة حماس في الحكم، لأن نجاح حماس في الحكم يعني انتقال التجربة إلى بقية الدول العربية، وهو ما يعني زعزعة أمن واستقرار كراسي الأنظمة العربية الحاكمة لا سيما في مصر والأردن.
8-التغني بالشعارات:
كنت قد أشرت في حلقة سابقة، أن بعض التنظيمات تهتم بالكم أكثر من الكيف، لتحشد وتجند أكبر عدد ممكن من الأنصار والموالين للتنظيم. ووسيلة جذب هؤلاء الأنصار الجدد هو الاهتمام بالشعارات أكثر من المضمون، مع العلم أنه لما يكثر عدد أفراد التنظيم يفقد القدرة على ضبط الأفراد هذا من جهة، ولا يستطيع تحويل الشعارات إلى واقع ملموس من جهة أخرى.
خذ على سبيل المثال: واقع نلمسه عيانا، الفجوة الواضحة بين البرنامج الانتخابي لحركة حماس، وبين ممارساتها وسلوكياتها على الأرض. بمعنى آخر، ما وعدت به حماس في برنامجها الانتخابي من حيث: (القضاء على الفساد الإداري، الواسطة والمحسوبية، حرية الكلمة والإعلام... إلخ)، هي مجرد شعارات فقط كانت تتغنى بها قبل وصولها إلى السلطة، إذ أنه بمجرد سيطرتها على قطاع غزة وتقلدها زمام الأمور في القطاع، مارست نفس سلوكيات الأنظمة العربية الحاكمة، بل أبشع من حيث الاستبداد والقمع والاعتقالات، وتكميم الأفواه، ومحاربة حرية الكلمة والصحافة، وفي مسألة التوظيف تقدم أبنائها في المقام الأول، ومن باب لي عنق الحقيقة والتلاعب في استخدام المصطلحات والألفاظ يستخدمون مصطلح "التزكية" بدلا من مصطلح "الواسطة"، وهو وجه آخر من وجوه الواسطة والمحسوبية.
أما على صعيد فهو الإعلام لا يختلف كثيرا عن إعلام الأنظمة العربية الحاكمة، فهو طوال يومه يطبل ويزمر لحكومة حماس مقابل تجاهل بعض الأحداث لا سيما فيما يتعلق بالمواقف البطولية لفصائل المقاومة غير كتائب القسام، فإعلام حماس يوحي لك بأنه ليس هناك فصائل تقاوم وتتصدى لاجتياحات العدو الصهيوني سوى كتائب القسام، لا أحد يستشهد ومستهدف إلا كتائب القسام وقيادات حماس، أما بقية الفصائل المقاومة لا مكان لها في صفحات الجهاد والمقاومة. وبالرجوع إلى الدين الإسلامي الحنيف نجد أن إسلامنا العظيم أولى عناية فائقة بمسألة المضمون أكثر من الشعار، قال تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسادهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم}. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم". وعلى الرغم من هذا لا يعني أن الدين الإسلامي أغفل مسألة الشعارات.
9-الاهتمام بالعمل العسكري:
بعض الأفراد يلتحقون بالتنظيم لا لشيء سوى اهتمامهم وشغفهم بالعمل العسكري، فهم من هواة حمل السلاح والتجول والتسكع به في الطرقات، والأماكن العامة، ووسائل النقل، والأفراح والأتراح، وفي أحيان كثيرة يحملون السلاح لتحقيق مآرب خاصة.
إن حمل السلاح بهذه الصورة وعلى هذه الشاكلة يترتب عليه الكثير من الممارسات الخاطئة، مثل: (الاعتداء على أموال وممتلكات الناس الخاصة، الاعتداء على الممتلكات العامة، إراقة الدم وإزهاق الأرواح دون حسيب أو رقيب أو خشية من قانون، السطو، شراء الأشياء بثمن بخس دراهم تحت تهديد السلاح... إلخ). هذه المظاهر وغيرها عاشها المجتمع الفلسطيني أثناء سيطرة وسطوة سلطة الحكم الذاتي، وفي فترة الاقتتال الداخلي والفلتان الأمني.
كذلك حركة حماس ما سلمت من هكذا ممارسات، حيث أنه قبل وبعد الانقلاب ضمت في صفوف كتائب القسام والقوة التنفيذية عناصر من كل حدب وصوب، وتوزع عليهم قطع السلاح، وبهذا السلاح ارتكبوا أخطاءً فادحة وجرائم كبيرة بحق الناس، وكثير من هذه التصرفات كانت فردية، إلا أنها كانت تجد القبول والاستحسان من قِبَل المسئولين، ولا تجد من يردعها أو يحاسب ويعاقب عليها أو يلجمها، كثير من الحمساويين استغل موقعه في سلطة حماس ومرحلة الفوضى العارمة التي تجتاح القطاع ليثأر لنفسه من أشخاص ارتكبوا بحقهم أخطاء عمرها يزيد عن عقد من الزمان.
السؤال إلى الأخوة في حركة حماس ـ الذين يدّعون تمسكهم بأخلاق وقيم الإسلام ـ: أين هم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، وخاطب الناس في المجتمع المكي: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وأين هم من قول الله تعالى: {فمن عفى وأصلح فأجره على الله}، وقوله تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}.
إلى جانب ما سبق، عملت حركة حماس على استغلال الدين بصورة خاطئة وسلبية، حيث أنها وظفت الدين لاستصدار فتاوى دينية ـ حزبية تبيح إراقة الدم الفتحاوي، وهدم مراكز الأجهزة الأمنية على مَن فيها... إلخ.
والملاحظة الجديرة بالذكر، أن حمل السلاح قبل أن يكون الفرد قد تنشأ تنشئة دينية صحيحة، وتحلّيه بالأخلاق الإسلامية الحسنة، والانضباط التنظيمي، سيكون هذا السلاح وبالا على حامله ومن ثم على تنظيمه.
وحول هذه الملاحظة لي وقفة مع حركة الجهاد الإسلامي، صحيح أن حركة الجهاد الإسلامي هي أول حركة إسلامية في فلسطين تحيي فريضة "الجهاد" الغائبة في تاريخ فلسطين المعاصر ـ بعد ثورة الشيخ المجاهد عز الدين القسام 1935م، وإرسال الإمام حسن البنا؛ المتطوعين للمشاركة في قتال العدو الصهيوني في حرب 1948م ـ. إلا أن الحركة كانت تؤمن بأن الفكر والعسكر يسيران في خطين متوازيين، وإن قُدِّم واحد على الآخر فإن هذا ينم عن خلل في المنهج. لكن الملاحَظ اليوم أن غُلّب المشروع العسكري على المشروع الفكري، وهذا يعكس الفجوة بين الفكر والممارسة، ويعكس مدى انحراف الحركة الآن عن المسار الذي رسمه الجيل الأول.
إن نحن قدّمنا الفكر على العسكر نكون قد وقعنا في الموقف الذي انتقدنا فيه الحركات الإسلامية التقليدية "بأن عطلت فريضة الجهاد"، ولو أننا اهتممنا بالمشروع العسكري على حساب المشروع الفكري نكون ضيعنا المشروع الفكري ـ النهضوي الذي من أجله انطلقنا وتميزنا به عن بقية الحركات الإسلامية والوطنية والديموقراطية أيضا.
لذلك يجب أن نهتم بالفكر والتربية والإعداد، في نفس الوقت الذي نعد فيه المجاهد حامل الفكر والعقيدة والرسالة. لأنه حينما يخرج المجاهد إلى ساحات الوغى ويقاتل العدو، يكون قتاله وجهاده عن عقيدة راسخة تمنحه مزيدا من الصلابة والقوة في القتال، وإن كان المجاهد غير متسلح بسلاح العقيدة والفكر لا ينفعه سلاحه ولا عتاده وإن كان من أفضل أنواع العتاد الحربي، لأن العقل والقلب خاويان من العقيدة الإسلامية الصلبة والصحيحة، ولا يعرف مَن يقاتل وعلى أي أساس يقاتل، هذا إن لم يترك ساحات المعركة فارا بنفسه خوفا من الموت، وهو في هذه الحالة يرتكب كبيرة من الكبائر من حيث لا يدري (التولي يوم الزحف).
ومن غير المعقول أن يكون هناك مشروع فكري ـ نهضوي دون أن يوجد جيل النهضة، أو جيل الطليعة الذي تحدث عنه شهيد الإسلام "سيد قطب" في كتابه "معالم في الطريق"، الذي يحمل المشروع، وكذلك العمل العسكري لن يؤتي ثماره ما لم يكن العسكريون يحملون هذا المشروع ويدافعون عنه ويسعون إلى تجسيده على أرض الواقع.
10-غياب السرية:
من الأخطاء التي تقع فيها بعض التنظيمات الإسلامية، غياب عنصر السرية، والحذر، والكتمان، الأمر الذي قد يعتبره البعض ـ ممن هم عديمو النظر ـ، أنها تعبير عن الخوف والجبن والوهن.
إن عنصر السرية مطلوب وبشكل كبير لاسيما في المرحلة الأولى من عمر التنظيم.
إن غياب عنصر السرية وجعل أوراق التنظيم السرية والخاصة مكشوفة أمام الجميع بكل يسر وسهولة، فيه ضرر كبير على التنظيم وعناصره، كما أن فيه مخالفة شرعية، إذ يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم}، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان".
بهذه الكلمات الثلاث اختصرت حركة الجهاد الإسلامي مشروعها الفكري ـ النهضوي، الذي ميزها عن بقية الحركات الإسلامية.
لكن بالمقارنة بين وضع حركة الجهاد الإسلامي في مرحلة النشأة والتأسيس؛ والسنوات الأولى من عمرها، وبين وضعها الراهن، لا تكاد تجد وجه للمقارنة بين المرحلتين إلا في المسمى وبعض رواسب وما تبقى من الجيل الأول، حيث أن الحركة انطلقت بمنظومة فكرية إسلامية معاصرة مستنيرة في تناول قضايا الدين والأمة والعالم المعاصر، وضخت الحياة من جديد في جسد وروح الحركات الإسلامية التقليدية. أما الآن فوضع الحركة لا يسر أحدا حيث أنها تقهقرت وتراجعت كثيرا عن المشروع الفكري، تراجعت بشكل يثير القلق والخوف في النفس على مستقبل الحركة ومشروعها الفكري، حيث أن قيادات الحركة الحالية سخّرت جل اهتمامها وعنايتها بالمشروع العسكري فقط على حساب المشروع الفكري. الأمر الذي أدى إلى وجود خلل في سياسة ومنهجية الحركة، ووجود جيل كامل من الشباب الجديد لا يعرف عن مشروع الحركة إلا شعارات: (إيمان.. وعي.. ثورة، الإسلام.. فلسطين.. الجهاد، القضية الفلسطينية قضية مركزية للحركة الإسلامية المعاصرة)، وعند مناقشة الخطوط العريضة وتفاصيل المشروع تعقد الألسنة وتذهب الفصاحة والبلاغة، ولا يعرفون عن المشروع شيئا سوى اسمه، وحينما تحدثهم عن المشروع كأنك تحدثهم عن طلاسم لم يسمعوا عنها من قبل.
وإني لأشبه حالة حركة الجهاد الإسلامي بهذا التشبيه: إذ كيف أن الجيل الإسلامي الأول المؤسس للدولة الإسلامية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده لم يتكرر إلى الآن من حيث تمسكهم بأحكام وأخلاقيات وقيم وقواعد الإسلام الحنيف وعلاقاتهم الاجتماعية... إلخ. كذلك هو الحال عند حركة الجهاد الإسلامي، إذ أن الجيل المؤسس للحركة لم يتكرر إلى الآن من حيث درجة الوعي والنضج الفكري والسياسي التي كان يتمتع بها، والانتماء الإسلامي، والغيرة على المشروع الإسلامي، وحمل الهَم الإسلامي، والدفاع عن قضايا العالم الإسلامي... إلخ. وهذا الوضع يثير علامة استفهام كبيرة حول مستقبل الحركة. فإذا ما ذهب بقايا الجيل الأول المؤسس للحركة بالاستشهاد أو الموت الطبيعي أو الاعتقال، فأين الجيل الذي سيحمل الفكرة والمشروع ويدافع عنه؟! أم أن الحركة اختزلت نفسها في المشروع العسكري فقط وتخلت عن المشروع الفكري؟!
لذلك لابد للحركة من أن تصحح مسارها، وأن تعيد الحياة من جديد للمشروع الفكري، سواء بالمحاضرات واللقاءات المنتظمة، أو اللقاءات المفتوحة مع الجيل الجديد، أو كتابة المقالات والنشرات، ووضع الكتب التي تتحدث عن تاريخ وفكر وتراث الحركة، وهذا ما تفتقد إليه مكتبة حركة الجهاد الإسلامي.
أما بالنسبة إلى حركة حماس فيما يتعلق بمسألة الوعي، إن المتابع للتصريحات السياسية والإعلامية الصادرة عن قادة حماس سواء في الداخل أو في الخارج، يتوصل إلى نتيجة مفادها: أن حركة حماس لا زالت تعيش في مرحلة "الطفولة المبكرة" من حيث الوعي والنضج السياسي والتعاطي مع قضايا الأمة، وقد بدا هذا الأمر واضحا جليا عندما تلاعبت حركة فتح بحماس وأوقعتها في مآزق هي في غنى عنها، ولم تحسب لها الحساب الجيد، مثل: الانجرار إلى السلطة، الانجرار إلى الحرب الأهلية، استجداء طلب التهدئة وفتح المعابر ورفع الحصار من قِبَل العدو الصهيوني... إلخ.
كل هذه التصرفات الصادرة عن حركة حماس ليس لها سوى تفسير واحد هو: غياب الوعي والنضج السياسي عن قادة وأفراد حركة حماس على السواء.
ومن باب الموضوعية يجب الإشارة إلى أن حركة حماس أبدعت في المجال الخدماتي: (صحة، تعليم، جمعيات، بلديات)، وإن كان هذا هو حال أغلب الحركات الإسلامية، تبدع في مجال الخدمات الاجتماعية وتفشل بشكل كبير في الممارسة السياسية، وهذا يرجع بسبب غياب الخلفية السياسية الواسعة، ونظرتهم الضيقة في التعامل مع قضايا الأمة برؤية تقليدية، وغياب مسالة التجديد والتأويل في الربط بين نصوص القرآن والسنة من جهة، والواقع من جهة ثانية.
ومن صور غياب عنصر الوعي:
*إعلان التنظيم الولاء لنظام سياسي أو لجماعة سياسية ما، مقابل استعداء الجميع.
إصدار الخطب المنشورات والخطب المنبرية وعقد اللقاءات الإعلامية التي تناصب العداء للغير.
استسهال قيام حكم إسلامي في بقعة جغرافية صغيرة من بلاد المسلمين، محاصرة سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وعسكريا.
وبالنظر إلى العناصر الثلاثة سالفة الذكر، يجد أنها تنطبق بحرفيتها على حركة حماس، حيث أنه في النقطة الأولى: الولاء التام لإيران وسوريا كنظام سياسي، ولجماعة الإخوان المسلمين (الأم) ، مقابل استعداء بعض الأنظمة العربية، إلى جانب العداء للجماعات السلفية واليسارية.
أما النقطة الثانية: حدّث عنها ولا حرج، فممارسات حماس بهذا الصدد أكبر من أن تحصى في هذا المقام، فهي بحاجة إلى مجلد خاص بها. فهي ترى نفسها بأنها الحركة الإسلامية الوحيدة التي تملك الصواب كله، وما دونها من حركات إسلامية وغير إسلامية فهي على خطأ، وقد صنفت كافة الفصائل الفلسطينية: (فتح: علمانية، الجهاد الإسلامي: شيعة، الجبهات اليسارية: كفار). ناهيك عن السموم التي يبثها إعلام حماس (المرئي، والمسموع، والمقروء) في كل بيت وشارع ومؤسسة، كذلك استغلال المساجد وخطب الجمعة والدروس الدينية للترويج لنظرة حماس وتخوين حركة فتح، ومناصبتها العداء، كذلك استغلت المساجد لتخريج أجيال من المتعصبين حزبيا والمنغلقين فكريا، الذين يكنون الحقد والكراهية لكل من هو غير حمساوي.
أما النقطة الثالثة: هو الفخ الذي وقعت فيه حماس، بأن حاولت أن تجعل من قطاع غزة ولاية إخوانية أو قل إمارة إسلامية ـ وإن لم تصرح بذلك علانية ـ، وليس لديها أدنى مقومات النجاح والاستمرار في الحكم، فما زال العدو الصهيوني جاثم على أراضينا الذي يفرض حصارا خانقا على الشعب الفلسطيني، ناهيك عن مشاركة بعض الأنظمة العربية في فرض الحصار وتضييق الخناق على الشعب الفلسطيني في محاولة لإفشال تجربة حماس في الحكم، لأن نجاح حماس في الحكم يعني انتقال التجربة إلى بقية الدول العربية، وهو ما يعني زعزعة أمن واستقرار كراسي الأنظمة العربية الحاكمة لا سيما في مصر والأردن.
8-التغني بالشعارات:
كنت قد أشرت في حلقة سابقة، أن بعض التنظيمات تهتم بالكم أكثر من الكيف، لتحشد وتجند أكبر عدد ممكن من الأنصار والموالين للتنظيم. ووسيلة جذب هؤلاء الأنصار الجدد هو الاهتمام بالشعارات أكثر من المضمون، مع العلم أنه لما يكثر عدد أفراد التنظيم يفقد القدرة على ضبط الأفراد هذا من جهة، ولا يستطيع تحويل الشعارات إلى واقع ملموس من جهة أخرى.
خذ على سبيل المثال: واقع نلمسه عيانا، الفجوة الواضحة بين البرنامج الانتخابي لحركة حماس، وبين ممارساتها وسلوكياتها على الأرض. بمعنى آخر، ما وعدت به حماس في برنامجها الانتخابي من حيث: (القضاء على الفساد الإداري، الواسطة والمحسوبية، حرية الكلمة والإعلام... إلخ)، هي مجرد شعارات فقط كانت تتغنى بها قبل وصولها إلى السلطة، إذ أنه بمجرد سيطرتها على قطاع غزة وتقلدها زمام الأمور في القطاع، مارست نفس سلوكيات الأنظمة العربية الحاكمة، بل أبشع من حيث الاستبداد والقمع والاعتقالات، وتكميم الأفواه، ومحاربة حرية الكلمة والصحافة، وفي مسألة التوظيف تقدم أبنائها في المقام الأول، ومن باب لي عنق الحقيقة والتلاعب في استخدام المصطلحات والألفاظ يستخدمون مصطلح "التزكية" بدلا من مصطلح "الواسطة"، وهو وجه آخر من وجوه الواسطة والمحسوبية.
أما على صعيد فهو الإعلام لا يختلف كثيرا عن إعلام الأنظمة العربية الحاكمة، فهو طوال يومه يطبل ويزمر لحكومة حماس مقابل تجاهل بعض الأحداث لا سيما فيما يتعلق بالمواقف البطولية لفصائل المقاومة غير كتائب القسام، فإعلام حماس يوحي لك بأنه ليس هناك فصائل تقاوم وتتصدى لاجتياحات العدو الصهيوني سوى كتائب القسام، لا أحد يستشهد ومستهدف إلا كتائب القسام وقيادات حماس، أما بقية الفصائل المقاومة لا مكان لها في صفحات الجهاد والمقاومة. وبالرجوع إلى الدين الإسلامي الحنيف نجد أن إسلامنا العظيم أولى عناية فائقة بمسألة المضمون أكثر من الشعار، قال تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسادهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم}. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم". وعلى الرغم من هذا لا يعني أن الدين الإسلامي أغفل مسألة الشعارات.
9-الاهتمام بالعمل العسكري:
بعض الأفراد يلتحقون بالتنظيم لا لشيء سوى اهتمامهم وشغفهم بالعمل العسكري، فهم من هواة حمل السلاح والتجول والتسكع به في الطرقات، والأماكن العامة، ووسائل النقل، والأفراح والأتراح، وفي أحيان كثيرة يحملون السلاح لتحقيق مآرب خاصة.
إن حمل السلاح بهذه الصورة وعلى هذه الشاكلة يترتب عليه الكثير من الممارسات الخاطئة، مثل: (الاعتداء على أموال وممتلكات الناس الخاصة، الاعتداء على الممتلكات العامة، إراقة الدم وإزهاق الأرواح دون حسيب أو رقيب أو خشية من قانون، السطو، شراء الأشياء بثمن بخس دراهم تحت تهديد السلاح... إلخ). هذه المظاهر وغيرها عاشها المجتمع الفلسطيني أثناء سيطرة وسطوة سلطة الحكم الذاتي، وفي فترة الاقتتال الداخلي والفلتان الأمني.
كذلك حركة حماس ما سلمت من هكذا ممارسات، حيث أنه قبل وبعد الانقلاب ضمت في صفوف كتائب القسام والقوة التنفيذية عناصر من كل حدب وصوب، وتوزع عليهم قطع السلاح، وبهذا السلاح ارتكبوا أخطاءً فادحة وجرائم كبيرة بحق الناس، وكثير من هذه التصرفات كانت فردية، إلا أنها كانت تجد القبول والاستحسان من قِبَل المسئولين، ولا تجد من يردعها أو يحاسب ويعاقب عليها أو يلجمها، كثير من الحمساويين استغل موقعه في سلطة حماس ومرحلة الفوضى العارمة التي تجتاح القطاع ليثأر لنفسه من أشخاص ارتكبوا بحقهم أخطاء عمرها يزيد عن عقد من الزمان.
السؤال إلى الأخوة في حركة حماس ـ الذين يدّعون تمسكهم بأخلاق وقيم الإسلام ـ: أين هم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، وخاطب الناس في المجتمع المكي: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وأين هم من قول الله تعالى: {فمن عفى وأصلح فأجره على الله}، وقوله تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}.
إلى جانب ما سبق، عملت حركة حماس على استغلال الدين بصورة خاطئة وسلبية، حيث أنها وظفت الدين لاستصدار فتاوى دينية ـ حزبية تبيح إراقة الدم الفتحاوي، وهدم مراكز الأجهزة الأمنية على مَن فيها... إلخ.
والملاحظة الجديرة بالذكر، أن حمل السلاح قبل أن يكون الفرد قد تنشأ تنشئة دينية صحيحة، وتحلّيه بالأخلاق الإسلامية الحسنة، والانضباط التنظيمي، سيكون هذا السلاح وبالا على حامله ومن ثم على تنظيمه.
وحول هذه الملاحظة لي وقفة مع حركة الجهاد الإسلامي، صحيح أن حركة الجهاد الإسلامي هي أول حركة إسلامية في فلسطين تحيي فريضة "الجهاد" الغائبة في تاريخ فلسطين المعاصر ـ بعد ثورة الشيخ المجاهد عز الدين القسام 1935م، وإرسال الإمام حسن البنا؛ المتطوعين للمشاركة في قتال العدو الصهيوني في حرب 1948م ـ. إلا أن الحركة كانت تؤمن بأن الفكر والعسكر يسيران في خطين متوازيين، وإن قُدِّم واحد على الآخر فإن هذا ينم عن خلل في المنهج. لكن الملاحَظ اليوم أن غُلّب المشروع العسكري على المشروع الفكري، وهذا يعكس الفجوة بين الفكر والممارسة، ويعكس مدى انحراف الحركة الآن عن المسار الذي رسمه الجيل الأول.
إن نحن قدّمنا الفكر على العسكر نكون قد وقعنا في الموقف الذي انتقدنا فيه الحركات الإسلامية التقليدية "بأن عطلت فريضة الجهاد"، ولو أننا اهتممنا بالمشروع العسكري على حساب المشروع الفكري نكون ضيعنا المشروع الفكري ـ النهضوي الذي من أجله انطلقنا وتميزنا به عن بقية الحركات الإسلامية والوطنية والديموقراطية أيضا.
لذلك يجب أن نهتم بالفكر والتربية والإعداد، في نفس الوقت الذي نعد فيه المجاهد حامل الفكر والعقيدة والرسالة. لأنه حينما يخرج المجاهد إلى ساحات الوغى ويقاتل العدو، يكون قتاله وجهاده عن عقيدة راسخة تمنحه مزيدا من الصلابة والقوة في القتال، وإن كان المجاهد غير متسلح بسلاح العقيدة والفكر لا ينفعه سلاحه ولا عتاده وإن كان من أفضل أنواع العتاد الحربي، لأن العقل والقلب خاويان من العقيدة الإسلامية الصلبة والصحيحة، ولا يعرف مَن يقاتل وعلى أي أساس يقاتل، هذا إن لم يترك ساحات المعركة فارا بنفسه خوفا من الموت، وهو في هذه الحالة يرتكب كبيرة من الكبائر من حيث لا يدري (التولي يوم الزحف).
ومن غير المعقول أن يكون هناك مشروع فكري ـ نهضوي دون أن يوجد جيل النهضة، أو جيل الطليعة الذي تحدث عنه شهيد الإسلام "سيد قطب" في كتابه "معالم في الطريق"، الذي يحمل المشروع، وكذلك العمل العسكري لن يؤتي ثماره ما لم يكن العسكريون يحملون هذا المشروع ويدافعون عنه ويسعون إلى تجسيده على أرض الواقع.
10-غياب السرية:
من الأخطاء التي تقع فيها بعض التنظيمات الإسلامية، غياب عنصر السرية، والحذر، والكتمان، الأمر الذي قد يعتبره البعض ـ ممن هم عديمو النظر ـ، أنها تعبير عن الخوف والجبن والوهن.
إن عنصر السرية مطلوب وبشكل كبير لاسيما في المرحلة الأولى من عمر التنظيم.
إن غياب عنصر السرية وجعل أوراق التنظيم السرية والخاصة مكشوفة أمام الجميع بكل يسر وسهولة، فيه ضرر كبير على التنظيم وعناصره، كما أن فيه مخالفة شرعية، إذ يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم}، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان".
تعليق