[frame="6 80"]
الفلسطينيون المدعوون بالمتعاونين مع إسرائيل وعائلاتهم
إعداد الدكتور/ سفيان أبو نجيلة رئيس قسم علم النفس بجامعة الأزهر بغزة رئيس مركز البحوث الإنسانية والتنمية الاجتماعية
السيد/ يوسف حاج يحيى ماجستير في علم الإجرام جامعة القدس
الدكتور/ إيدي كوفمان المدير التنفيذي لمعهد هاري س. ترومان للأبحاث وخدمة السلام بالقدس
ترجمة سلمـى مصطفى حمـاد
غزة-دنيا الوطن
ثالثاً: حجم المشكلة
تشير فريدا آدلر (1989) Freda Adler إلى أنه لدراسة حجم أية مشكلة اجتماعية فإنه ينبغي علينا جمع البيانات اللازمة لذلك من ثلاثة مصادر وهى: الإحصاءات الرسمية، وتقارير الضحايا، والتقارير الذاتية.
وإننا نرى أنه من الصعوبة بمكان اتباع مثل هذا الأسلوب مع القضية موضع الدراسة نظراً لعـدم توفر مثل هذه المصادر، فلم نتمكن من الحصول على أية معلومات إلا من خلال استطلاعنا لآراء أفراد عائلات المدعوين بالمتعاونين ممن قتلوا في قطاع غزة. وبالطبع لم يتسنَ لنا الحصول على معلومات عن هذا الموضوع من الضحايا أنفسهم، ولا كان بإمكاننا أيضاً الإطلاع على الوثائق الرسمية بهذا الخصوص. وينبغي أن تؤخذ كل هذه العوامل في الحسبان عند استعراض مجمل النتائج التي توصلنا إليها.
وتشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أنه تم قتل حوالي 750 شخص تقريباً في قطاع غزة على خلفية الاشتباه بتعاونهم، وكان معظمهم من رفح وخان يونس ومدينة غزة. ونظراً للقيود التي أشرنا إليها أعلاه، جاء تحليلنا لصورة الوضع محدوداً، حيث كان لزاماً علينا أن نضع نصب أعيننا باستمرار حقيقة أن الصورة التي رسمناها له انطلاقاً مما تجمع تحت أيدينا من معلومات -مع أنها محدودة للغاية- لا تعتبر انعكاساً حقيقياً للوضع برمته في قطاع غزة. ومما زاد الأمر تعقيداً حساسية هذا الموضوع للمجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء. وإذا أخذنا بعين الاعتبار كل هذه التحفظات فإننا سنخلص إلى أن النتائج التي توصلنا إليها كانت على درجة عالية من الصدق وذات فائدة جمة ويمكنها أن تساعد في لفت الأنظار إلى موضوعٍ كهذا نادراً ما تم تناوله بالبحث والدراسة.
وبدلاً من أن تتبنى مصادر الإعلام الإسرائيلية أسلوباً أكاديمياً متسقاً في معرض تناولها لظاهرة قتل المتعاونين، نزعت إلى البحث عن الإثارة فيما وقع تحت أيديها من معلومات على نحو لا يمكن أن يوصف إلا أنه ترويج للإشاعات. ففي الرابع عشر من يناير عام 1994 نشر عطا الله منصور مقالة تحت عنوان "ظاهرة القتل"، يشجب فيها التقرير الصادر عن منظمة بتسيلم حول قتل المتعاونين. حيث أشار منصور إلى أن هناك آلاف المتعاونين ممن الذين انكشفوا "انحرق كرتهم" يعيشون داخل الخط الأخضر، وأن المحتلين يواجهون معضلة صعبة للغاية حيث يتوجب عليهم اتخاذ قرار بشأن الـ 50,000 متعاون وعائلاتهم. هذا إلى جانب الثغرة التي تضمنتها اتفاقيات إعادة الانتشار التي تم التوقيع عليها من قبل كل من السلطة الفلسطينية وإسرائيل فيما يتعلق بخطة "غزة-أريحا" حيث أنها لم تتطرق إلى مسألة هامة للغاية ألا وهي كيف سيتم التعامل مع المتعاونين الذين يسكنون المناطق التي ستنتقل إلى إدارة السلطة الفلسطينية عما قريب؟؟ إلا أنه لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق واضح بين الطرفين بهذا الخصوص ويرجع سبب ذلك إلى حدٍ ما إلي تعثر عملية السلام. وعلى ما يبدو فإن قضية المتعاونين تقع في أسفل سلم أولويات المفاوضات بين الطرفين، مما يعد تجسيداً حقيقياً لعدم رغبة كلا الطرفين، في تحمل مسئوليته في البحث عن حل لهذه القضية.
وتشير نتائج تقديرات أعداد من قتلوا على خلفية الاشتباه بتعاونهم إلى وجود تضارب واضح للعيان بين ما توصلت إليه هذه الجهة أو تلك، وغالباً ما تكون هذه النتائج محيرة للغاية. فعلى سبيل المثال: تشير تقديرات بتسيلم إلى أنه تم قتل 942 شخص على خلفية الاشتباه بتعاونهم خلال السنوات الست للانتفاضة التي اندلعت عام 1987. في حين تشير التقديرات التي أوردتها وكالة أنباء أسوسشيتدبرس إلى أن عددهم يبلغ 771 شخص. وعلى ما يبدو يتضارب كلا التقديرين أعلاه مع ما ورد في دراستنا هذه، وذلك لأن حساباتنا تقدر عدد من قتلوا على خلفية التعاون في قطاع غزة وحدها بحوالي 750 شخص تقريباً. ومما يزيد في هذا الإشكال ما أورده إيتان رابين Eitan Rabin – المحلل العسكري في جريدة هآرتس اليومية- في مقالة له في السادس من أكتوبر عام 1995، وأشار فيها إلى أن هناك وثيقة أعدها جهاز الأمن ليتم توزيعها من قِبل وزارة الخارجية وورد فيها أنه تم قتل 1000 فلسطيني تقريباً معظمهم من الضفة الغربية. وعلى الرغم من أن دراستنا لم تتناول قضية المتعاونين في الضفة الغربية، إلا أنه يمكننا القول على الأقل إلى أنها ستكون مشابهة إلى حدٍ ما مع الوضع في غزة. وعلى الرغم من أن هذا التفاوت البين في التقديرات "الرسمية" يعوق المضي قدماً في هذا البحث، إلا أنه يعتبر دلالة واضحة على مدى حساسية هذا البحث: فعلى ما يبدو لا أحد يرغب في قول الحقيقة.
• وتشير المعلومات المحدودة المتوفرة عن هذا الموضوع من مصادر أجهزة الأمن الإسرائيلية إلى أن 40% - 45% من أولئك الذين قتلوا على خلفية الاشتباه بتعاونهم كانوا فعلاً على علاقة مع السلطات الإسرائيلية حيث كان معظمهم موظفي حكومة. وسنتعامل مـع هذه الأرقام أيضاً ببعض التحفظ نظراً لأن الوثائق الخاصة بقضية المتعاونين لم يتم نشرها بعد، ومن المرجح أن تحتوي هذه الوثائق على تقديرات مختلفة تماماً. كما أنه من المحتمل أيضاً أن تكون الحكومة الإسرائيلية غير صادقة فيما أعلنته من أرقام لتتنصل من مسئوليتها عن خلق مثل هذه المشكلة. ووفقاً للمعلومات المتوفرة تحت أيدينا حول هذه الظاهرة نستطيع القول أن كافة المصادر أجمعت على أن 10%-15% من المدعوين بالمتعاونين قتلوا على خلفية جنائية (كانت على وجه الخصوص الاتجار بالمخدرات والدعارة)، في حين قتل عدد قليل منهم لخرقهم فقط الأوامر الصادرة عن القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة ( مثل فتح محلاتهم في أيام الإضراب الشامل). وسنناقش فيما بعد ما توصلنا إليه من نتائج حول الأسباب الكامنة وراء عمليات القتل.
• وتكشف مقالة نشرت في صحيفة هآرتس الصادرة في العاشر من يونيو عام 1995 عن أنه تم قتل 31 فلسطينياً على خلفية الاشتباه بتعاونهم منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة وأريحا في الثامن عشر من مايو عام 1994، 29 منهم من الضفة الغربية. كما تشير أيضاً إلى أن اتفاقيات أوسلو نصت على إقامة إدارة تأهيل لحماية الفلسطينيين ممن لا تزال حياتهم معرضة للخطر للاشتباه بتعاونهم . وتشير تقديرات هذه الإدارة إلى أنه تمت رعاية 800 عائلة خاصة في القرى العربية والمدن التي يسكنها عرباً ويهوداً معاً مثل باقة والطيرة والطيبة وجت والناصرة وسخنين وشفا عمر والقدس.
ونتيجة للغموض الذي يكتنف الإحصاءات المتوفرة عن هذه الظاهرة، فليس أمامنا من سبيل لاتباعه لتقدير حجم هذه الظاهرة بدقة. وبعبارة أخرى، ليس بإمكاننا أن نعرف بالضبط عدد من قتلوا على خلفية التعاون حتى الآن، ولا عدد من لا يزالون على قيد الحياة. بالإضافة إلى أنه غالباً ما تتضارب تقديرات المصادر الإسرائيلية والفلسطينية بهذا الخصوص، وفي بعض الأحيان ظهر مثل هذا التضارب في أوساط المصادر الإسرائيلية نفسها. ومع ذلك، لا يزال هناك شيئاً واحداً معروفاً على وجه اليقين: فعلى الرغم من هذا الانتشار الواسع لهذه الظاهرة إلا أن حلها هو تحدٍ في حد ذاته، ويتوجب أن يطول هذا التحدي مختلف الفئات العمرية والاجتماعية والظروف والملابسات التي أحاطت بهذه الظاهرة.
رابعاً: تحديد أسباب المشكلة
سنتناول في هذا الجزء من الدراسة الأسباب الكامنة وراء قضيتين مختلفتين تماماً. أولهما: ما هو السبب الذي دفع أناساً للتعاون وثانيهما: ما هو السبب الذي دفع آخرين للقتل. وقبل الخوض في هذا الموضوع نجد أنه من الأهمية بمكان أن نوضح (مع أن الموضوع قد يبدو أنه لا يحتاج إلى أي توضيح) السبب الرئيسي الذي دعا إسرائيل إلى تجنيد المتعاونين. ويشير لورنس تال (1994) Lowrence Tal إلى أن السلطات العسكرية الإسرائيلية بدأت في تجنيد المتعاونين من الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967. ويضيف تال أن أسلوب تجنيد المتعاونين يعد أسلوباً سهلاً وفعالاً للغاية لفرض السيطرة على الشعوب المعادية. وبإمكان قوى الاحتلال والاستبداد بناء أنظمة حكم فعالة–إذا قامت بالترهيب أو الترغيب- بتجنيد عدد من مواطني منطقة معينة كعملاء لها. ومن الواضح أن إسرائيل اتبعت مثل هذا الأسلوب لفرض هيمنتها على الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلَين على الرغم من أنها لم تفلح لحتى الآن في التوصل بعد إلى استراتيجية واضحة بخصوص ما ستفعله بهذه الأراضي.
أ. أسباب التعاون:
في إطار بحثنا هذا وصلنا إلى نتيجة مفادها أن هناك طريقتين رئيسيتين يمكن بواستطهما تجنيد أعداد كبيرة من الأشخاص للعمل كمتعاونين رغماً عنهم. أولها: الابتزاز، وثانيها: إغراء المرشحين المحتملين بالعديد من المساعدات والامتيازات.
فالتعاون بطبيعته يوفر معلومات قيمة تساعد على بث الفرقة في صفوف قوى المعارضة المحتملة. فهذا التكتيك الكلاسيكي الاستعماري المتمثل في قاعدة "فرق تسد" اتبعته القوى الاستعمارية المختلفة عبر التاريخ مثل الاستعمار البريطاني للهند والفرنسي للجزائر والأمريكي لفيتنام*.
ويشير هيلترمان (1990) Hilterman إلى إن عملية تجنيد المتعاونين تتم في العادة داخل السجون في أوساط المهتمين بالدعارة وإدمان المخدرات. ولكن نظراً لتبعية العمال الفلسطينيين اقتصادياً لإسرائيل فقد فتحت عملية تقدمهم بطلبات للحصول على تصاريح للعمل داخل إسرائيل باباً آخراً أمام جهاز الأمن العام لتجنيد من يرغب في تجنيده. كما اعتُبر أولئك الأشخاص الذين كانوا في أمس الحاجة إلى الخدمات المدنية الأساسية التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية هدفاً للتجنيد أيضاً. ففي شهر يناير عام 1987 -أي قبل عام تقريباً من اندلاع الانتفاضة- نُظم لقاءٌ شعبيٌ احتجاجاً على السياسة الإسرائيلية الخاصة بلم شمل العائلات، حيث توجه أحد المتحدثين في هذا اللقاء للجمهور متسائلاً: من منكم ساومته إسرائيل على التعاون معها مقابل إعطائه تصريحاً بلم الشمل؟ فرد عليه الجمهور بالإيجاب المطلق، وهذا يعد دليلاً واضحاً على أن الأشخاص الذين كانوا في حاجة لمثل هذه الخدمة الأساسية غالباً ما تمت مساومتهم على التعاون.
ومع اندلاع الانتفاضة طرأت تغييرات عديدة على الساحة نذكر منها قيام السلطات الإسرائيلية بمنح المتعاونين صلاحيات أوسـع لإحكام سيطرتها البيروقراطية على السكان. كما قامت بتسليح المتعاونين المعروفين لدى الجمهور في معرض ردها على تزايد حدة الكراهية لهم ووتيرة الاعتداءات الجسدية عليهم من قبل السكان المحليين. وما أن فرغت السلطات الإسرائيلية من تسليح المتعاونين حتى قامت بنشرهم مشَكِلَةً بهم جبهة مستعرضة في وجه السكان المحليين وأطلقت لأيديهم العنان، وغالباً ما كان هؤلاء المتعاونون يساعدون الجيش الإسرائيلي في عمليات الاعتقال ووضع الحواجز على الطرقات والقيام بمضايقة السكان المحليين باستمرار كالاعتداء عليهم بالضرب وإطلاق النار عليهم وتخريب ممتلكاتهم وابتزاز أموالهم.
كما أشارت صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر في الثاني عشر من سبتمبر عام 1990 إلى قيام السلطات الإسرائيلية بتجنيد عصابات من المتعاونين في منطقة جنين على صورة ميليشيات طليقة لتساند الجيش الإسرائيلي في جهوده الرامية إلى قمع الانتفاضة. حيث كان المتعاونون يرافقون أفراد الجيش الإسرائيلي فيما يشنونه من حملات، ليرشدوهم ويساعدوهم في القبض على المطلوبين. وقد استعرض يوسف الغازي Yosif El-Ghazi في مقالة له نشرتها صحيفة هآرتس في عددها الصادر في التاسع من يناير عام 1997 الأسباب التي دعت الفلسطينيين إلى التعاون مع إسرائيل. حيث كتب الغازي أنه بعيداً عن أية أسباب أيديولوجية، وافق معظم المتعاونين على العمل مع إسرائيل إما نتيجة لتعرضه للابتزاز، أو لحصوله على امتيازات معينة مقابل تعاونه. وتشمل هذه الامتيازات استصدار تصاريح العمل، إطلاق سراحه أو سراح آخرين عزيزين عليه من السجن، والحصول على تصاريح لم الشمل. ويضيف الغازي أيضاً أن هناك عدد من الأشخاص الذين وافقوا على التعاون مع إسرائيل لثأر شخصي.
ويستعرض تقرير بتسيلم الصادر عام 1994 بإسهاب استخدام أسلوب الابتزاز، الذي أطلقت عليه اسم الإسقاط، وهو يتضمن الحصول على صور لنساء وبنات فلسطينيات وهن عاريات ومن ثم تهديدهن بنشر الصور على الملأ إن لم يوافقن على التعاون. وكان يتم الحصول على هذه الصور بواسطة كاميرات خفية أو في مراكز الاعتقال.
وسنشير في هذا السياق إلى ما يعرف بنظرية التبادل Exchange Theory (انظر Homans 1958; and Blau 1964 ). وتفترض هذه النظرية أن التراكيب الاجتماعية social structures الثابتة تكونت نتيجة حدوث عمليات تبادل فعلية داخل المجموعات الصغيرة نسبياً، وتكون هذه العمليات نافعة ومجزية لبعضها البعض (تكافلية). وعلى العموم، تتعزز أنماط التفاعل المتبادل إذا كان الجزاء الذي يحصل عليه الفرد يتجاوز ما يدفعه من ثمن. وبعبارة أخرى تتعزز أنماط السلوك الاجتماعي المتكررة إذا كانت الفائدة ستعود على جميع الأطراف. ويضيف بلو Blau أن التراكيب الاجتماعية تقوم على التحكم في المصادر كرؤوس الأموال ومراكز القوى. وبالتالي، يصبح أساس العلاقات الاجتماعية هو الرغبة في الخضوع لهذه المصادر أو تلقي جزءً منها.
وبمقدور الجماعات والأفراد على حد سواء الاستفادة من أية عملية تبادل ماداموا يعتقدون أن صفقة التبادل هذه مناسبة لهم. وإذا طبقنا هذه النظرية على الواقع الذي نعيشه فسيتضح لنا السبب الذي يدعو شخصاً ما للتعاون وذلك من منظور اجتماعي تركيبي. ويمكن تحقيق الطموحات عن طريق استغلال تراكيب الحياة اليومية القائمة على المصادر لتحقيق علاقة تكافلية، فهذه العلاقة تساعد الاحتلال العسكري الإسرائيلي وتستغل في ذات الوقت نقاط الضعف في البنية الاجتماعية الفلسطينية الخاضعة له.
ب. أسباب القتل
يتناول هذا الجزء من الدراسة العوامل المهيئة لحدوث عمليات القتل الجماعي للمتعاونين. ويرتكز الجزء الأكبر من تفسيرنا لهذا الأمر على نظرية الإحباط-العدوان. وسنُعرف العدوان في هذا السياق على أنه أي صورة من صور إلحاق الأذى أو الضرر بأي كائن حي آخر، وهذا الكائن يتحفز بدوره لتفادي مثل هذه المعاملة. في حين يُفهم الإحباط على أنه اعتراض سبيل سلوك نامٍ متطور يسعى إلى تحقيق هدف معين. وعلى العموم، فقد ظهرت هذه النظرية أول ما ظهرت على يد دولارد Dollard الذي يرى أن الإحباط يؤدى دائماً إلى استثارة حافز (دافع) ملح يتجه نحو العدوان، وأن العدوان لا يظهر في فراغ اجتماعي، بل يتولد في الغالب من أنماط التفاعل المختلفة مع أناس آخرين، حيث يتحدد وفقاً لهم شكله واتجاهه.
فالإحباط هو السابقة الاجتماعية للعدوان والتي يوجه لها الاهتمام الأكبر وتعتبر على صلة سببية به. وعلى الرغم من أن الإحباط يعتبر على نطاق واسع الدافع الرئيسي وراء العدوان الظاهر، إلا أن الدلائل التي توضح أن له مثل هذا التأثير متباينة تماماً. ويرى ليونارد بيركوفيتز Leonard Berkovitz (1962, 1989, 1993) أن الفرد يقوم بمهاجمة الآخرين عندما يكون مصاباً بالإحباط، أي حينما يفشل الفرد في تحقيق أهدافه أو إذا لم يحصل على الثواب الذي يتوقعه. فالإحباط له معانٍ كثيرة ومتنوعة حتى أن علماء النفس أنفسهم لا يتفقون فيما بينهم على تعريف له. فالبعض منهم يرى أن هذا المصطلح يشير إلى مانع خارجي يعترض سبيل الفرد ويحول دونه ودون وصوله إلى هدفه، في حين يرى البعض الآخر أن الإحباط هو رد فعل انفعالي داخلي ناجم عن مانع معين. ويُعرف دولارد وآخرون Dollard et al (1939)الإحباط على أنه ظرف خارجي يحول دون حصول الفرد على اللذة التي يتوقعها. كما يرون أن كل رد فعل عدواني يمكن تتبع جذوره واكتشاف أنه ناجم عن إحباط أصيب به الفرد فيما مضى. كما يرى بيركوفتز Berkovitz أيضاً أن منع الفرد من تحقيق هدف متوقع يولد لديه دافعاً للسلوك العدواني الانفعالي. ويؤكد دولارد وآخرون Dollard et al أن قوة دافع الإحباط المسبب للعدوان تتناسب تناسباً مباشراً مع حجم المكافأة التي كان يتوقعها الفرد في البداية ثم فشل في الحصول عليها فيما بعد.
وبصورة أكثر تحديداً، يرى دولارد Dollard أنه إذا مُنع الفرد بشكل فجائي من تحقيق أهدافه فسيكون أكثر ميلاً لإلحاق الأذى بالآخرين. فكلما زاد الإشباع الذي يتوقعه الفرد من تحقيقه لهدفه، وكلما كانت العوائق التي تحول دونه ودون تحقيقه هذا الإشباع أكثر إحكاماً، كلما زادت احتمالات تعرض مساعيه الرامية إلى تحقيق هذا الهدف للإحباط. ويعتقد بيركوفيتز (1993) Berkovitzأن الإحباط يولد العدوان، ويعتبر الأثر السلبي لأي فعل مهما كان هو الحافز الرئيسي وراء النزعة العدوانية. وبالتالي فإن المحاولات الإحباطية التعسفية وغير المنطقية هي التي تؤدي وحدها إلى ردود فعلٍ عدوانية. ونادراً ما يترتب على الإحباطات غير التعسفية أية ردود فعل عدوانية، وربما يرجع السبب في ذلك إلى حد ما إلى أن الفرد لم يكن يتوقع حصـوله على اللذة جراء تحقيقه أهدافها أولم يكن يتوقع تحقيق أهدافه كاملة.
وفي حين يرى بعض التجريبيين أن الإحباطات البينشخصية interpersonal thwarting تولد العدوان، يرى البعض الآخر أنها تحدث آثاراً ضعيفة فقط في هذا الاتجاه، لدرجة أنها تفشل في بعض الأحيان في إحداث مثل هذا السلوك على الإطلاق. وهذا يشير إلى وجود العديد من العوامل التي تخفف من حدة آثار الإحباط التي تؤدى إلى العدوان.
ولا ينبغي علينا أن نفترض أن الإحباط يؤدى دائماً إلى العدوان مباشرة، فالأصح أنه يولد دافعاً للسلوك العدواني (أي حافزاً عدوانياً) وهذا بدوره يشجع أو يمهد الطريق أمام مثل هذا السلوك. كما يبدو واضحاً أن الأشخاص المحبطين لا يقومون في العادة باعتداءات لفظية أو جسدية تجاه بعضهم البعض. وفي المقابل نرى أنهم غالباً ما يظهرون ردود فعل متباينة للغاية عند تعرضهم لمثل هذه المعاملة، وتتراوح ردود الفعل هذه ما بين الاستسلام واليأس من جهة والقيام بمحاولات فعالة للتغلب على العوائق التي تعترض سبيلهم من الجهة الأخرى.
ومما يدعم بشكل مباشر هذه الاستنتاجات التي تخلص إلى أن الإحباط لا يؤدى دوماً إلى العدوان تلك النتائج التي توصلت إليها الدراسات الإمبريقية التي أجراها بيركوفيتز (1989)Berkuvitz . وتشير هذه النتائج إلى أنه على الرغم من أن الإحباط يمهد التربة في بعض الأحيان لحدوث العدوان إلا أنه لا ينجم عنها دائماً وأبداً –ولا حتى في العادة- مثل هذه الآثار العدوانية.
أما ميلر (1941) Miller الذي يعتبر من أوائل الذين صاغوا فرضية الإحباط-العدوان سرعان ما عدل من مقترحه الأولي وأشار إلى أن الإحباط يؤدى إلى العديد من أنماط السلوك، وأن العدوان واحدٌ منها فقط. ومن الواضح أن ظاهرة القتل الجماعي للفلسطينيين المدعوين بالمتعاونين لا يمكننا أن نفسرها كلية على أنها حدثت نتيجة للإحباط الذي عانى منه أولئك الذين نفذوا عمليات القتل تلك. ولكنها تشير مع ذلك إلى أن الإحباط يمكن توجيهه إلى منفذ آخر بديل.
إلا أنه من الأسهل أن نفترض أن الإحباط هو الدافع الأولي وراء العدوان. ولكن غالباً ما يحدث العدوان حتى في غياب الظروف المحبطة تماماً. وإلا فكيف سنفسر قيام القتلة المأجورين بقتل أشخاص لم يروهم في حياتهم إطلاقاً ولم يحدث أن سبب المقتول للقاتل أية إحباطات، لذا نـرى أنه لزاماً علينا أن نبحث عن تفسير آخر لهذا الموضوع. وهناك قلة قليلة تنكر أن الفلسطينيين الذين شاركوا في الانتفاضة كانوا يشاركون في معركة اعتبروها نضالاً لنيل حقوقهم واستقلالهم. فسياسة "القبضة الحديدية" التي اتبعها وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين تبنت إجراءات قمعية "لتكسير العظام" وإخماد جذوة العنف التي أشعلتها الانتفاضة. وبالتالي ولدت هذه الإجراءات التعسفية لدى الفلسطينيين شعوراً بالإحباط، هذا الإحباط الذي نجم عن عدم تحقيقهم لأهدافهم وكان ينظر إليه على أنه يرتبط بصورة مباشرة بالإجراءات الإسرائيلية الوقائية لقمع الانتفاضة. لذا كان ينظر إلى المتعاونين الفلسطينيين على أنهم جزء لا يتجزأ من آلة القمع الإسرائيلية هذه، وأنهم عملوا بكل همة ونشاط للوقوف في وجه الطموحات الجماعية لشعبهم. ولكن لسبب أو لآخر اختار الفلسطينيون توجيه جزءٍ كبيرٍ مما يشعرون به من إحباط للمدعوين بالمتعاونين بدلاً من توجيهه للجيش الإسرائيلي.
ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نمر مر الكرام على حقيقة أنه على الرغم من كثرة الأعمال العنيفة، التي قام بها الفلسطينيون ضد الجيش الإسرائيلي أيام الانتفاضة إلا أنهم غالباً ما كانوا يدفعون الثمن جراء قيامهم بمثل هذه الأعمال. أولاً لأنه من المعروف أن لكل عمل تبعاته ومضاعفاته. بالإضافة إلى أن الجيش الإسرائيلي أحدث لديهم نوعاً من الخوف المبرر نتيجة للسياسة القمعية التي يتبعها. وبالتالي أصبح المتعاونون الهدف الأضعف (كبش الفداء) المرتبط بالمصدر الأصلي والذي يمكن إعادة توجيه العدوان إليه خاصة وأن المتعاونين معروفين بوضوح وسيكونون عاجزين نسبياً عن الدفاع عن أنفسهم حال اكتشافهم. هذا إلى جانب كونهم أهدافاً أكثر قرباً.
ففي مثل هذه الحالات، يؤدي الخوف الشديد من العقاب إلى قيام الفرد المحبط بتحويل هجومه عن المصدر الأصلي المسبب للإحباط إلى هدفٍ آخرٍ بديل. وعلى الرغم من أن الشخص المحبط يرى أن العائق الذي حال دونه ودون تحقيقه ما يصبو إليه هو الهدف الأنسب والأفضل لتوجيه جُل عدوانه إليه، إلا أن هناك أشخاصاً آخرين من الممكن أن يقوموا مقامه إذا ما اعتبروا أنهم يماثلون إلى حد مقبول المصدر الأصلي المسبب للإحباط. وإننا نرى أن هذا التفسير يمكن أن يكون أقرب تفسير نفسي منطقي يوضح الدوافع الكامنة وراء قتل المدعوين بالمتعاونين.
خامساً: ردود الفعـل
نناقش في هذا الجزء رد الفعل الاجتماعي على قضية المتعاونين. وعلى العمـوم، كان هناك نوعان من ردود الفعل أولهما: إنزال العقاب بأية طريقة إلا القتل، وثانيهما: القتل. وقبل الخوض بصورة أعمق في تناول هذين النوعين ينبغي علينا أن نتفهم ديناميكيات التفاعل ما بين السلطات العسكرية الإسرائيلية من ناحية والولاء الفلسطيني من الناحية الأخرى، لأنها ستوضح الظروف التي أحاطت بظاهرة إنزال العقاب. ثم سنقوم بتناول أهداف ردود الفعل هذه، ونعرج بعد ذلك على ردود الفعل نفسها. وفي النهاية سنتناول باختصار رد الفعل الإسرائيلي على قتل المدعوين بالمتعاونين.
تفرض علينا ظاهرة المتعاونين مع إسرائيل أن نتناول السلوك الإنساني لأي شخص مهما كان من منظور معايير وقيم المجتمع الذي عاش فيه ذلك الشخص. فبعد اندلاع الانتفاضة تم تشكيل ما يسمى باللجان الشعبية التي كانت بمثابة نظام سياسي في الأراضي المحتلة، كما تم تشكيل القوى الضاربة التي تعمل على تنفيذ الأوامر الصادرة عن القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة. وقد أُوكلت بالقوى الضاربة أيضاً مهمة القيام بتنفيذ النشاطات العسكرية ضد الاحتلال وردع كل الخارجين عن الصف الوطني ومن يقفون ضد المصالح الفلسطينية. كما تشكلت أيضاً لجان الإغاثة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية في مختلف مناطق الضفة الغربية لتقديم العون للسكان الفلسطينيين. ومن ثم تولت القيام بمهام معينة جرى العرف على أن تتولاها العائلة. وتتفق هذه الملاحظة إلى حدٍ بعيد مع نتائج البحث الذي أجراه دياب ومليكيان Diab & Melikian عام 1975 حول انتماءات الطلاب العرب في الفترة التي أعقبت حرب يونيو عام 1967. وقد أعرب الفلسطينيـون الذين شملهم البحث عن انتمائهم للهوية الفلسطينية بالدرجة الأولى. وأيام الانتفاضة أيضاً كان هذا الأمر هو مصدر الإلهام الأساسي بالنسبة للجماهير الفلسطينية التي استوعبته وعملت من أجله. أما العائلة فقد لعبت دوراً ثانوياً. ووفقا للمدخل الوظيفي، كان هناك انسجام في نسق المجتمع إلى حد ما، نجم عن الاتفاق حول القيم والمعايير. ومن ثم ركز النظام الاجتماعي على مسألتي الاستمرارية والاتفاق. وبالتالي تم توحيد المجتمع انطلاقاً من حقيقة أن الناس كانوا أصلاً موحدين، وتم تحقيق كل ذلك بمساعدة القيم والمعايير الاجتماعية. ووفقا للمدخل الوظيفي، فإن النظام الاجتماعي يتأتى بالأساس انطلاقاً من المعايير وليس من المصالح الشخصية للأفراد. وهكذا نخلص إلى نتيجة مفادها أن التمسك الاجتماعي للجماهير الفلسطينية بالهوية الفلسطينية انعكس على الموقف من المتعاونين -في غياب التعاطف مع ظاهرة المتعاونين- حيث كان يُنظر إلى المتعاونين على أنهم يعملون ضد إرادة الشعب الفلسطيني. لذا خلقت القيم العليا للهوية الفلسطينية إجماعاً وعداء لأشخاص بعينهم ممن يعملون ضد هذه القيم. ويذكر أن العائلات لم تتحمل مسئولية تطبيق رد فعل الشعب الفلسطيني تجاه هذه الظاهرة، بل قامت بهذه المهمة اللجان الشعبية. وهذا يعني أن العائلة لم تلعب دوراً بارزاً في تطبيق العقوبة على المتعاونين. ولكن في المقابل تم تطبيق هذه العقوبة بأيدي أفراد ينتمون إلى هذه اللجان الشعبية لضمان استمرارية النضال حتى تحقيق إرادة الشعب الفلسطيني.
1- ديناميكيات التفاعـل
من الأهمية بمكان تفهم ديناميكيات السلطتين الرئيستين اللتان تصارعتا خلال الانتفاضة لأنها تمثل صراع قوى نجم في الأساس من أجل السيطرة على الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. أولاً: كان هناك السلطة الإسرائيلية (بأجنحتها المختلفة المنطوية تحت لوائها وكل من يمثلها أو يدلل عليها)، حيث كانت تتولى فرض النظام وضمان استمرارية الاحتلال للمناطق بسبل شتى منها جيش الدفاع الإسرائيلي والشرطة والمحاكم ونظام السجون الخ... وفي المقابل، كان هناك الولاء الفلسطيني ممثلاً في الفصائل الفلسطينية المختلفة (سواء كانت فتح أو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو حماس، أو الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أو حزب الشعب الفلسطيني، وجميع أجنحتها السرية). وفي حين كان بإمكان السلطة الإسرائيلية العمل جهاراً نهاراً، كانت حركات المعارضة والمقاومة الفلسطينية مضطرة لتنفيذ نشاطاتها في الخفاء. وعلى الرغم من أن الفصائل السياسية وشبه العسكرية المختلفة كانت تمثل المقاومة الشعبية الفلسطينية إلا أنه لم يكن لها إطاراً مرجعياً ولا نظام دعم وتسويغ حقيقي مماثلاً لما هو موجود فعلاً لدى الطرف الإسرائيلي. ونعرض فيما يلي توضيحاً لبيان ديناميكيات هذين الطرفين:
الولاء الإسرائيلي:
يتم فرضه بالقوة وفقاً لنظام الحكم العسكري.
يتم تنفيذ نشاطاته جهاراً نهاراً.
له نظام مرجعي رسمي متمثلاً في الشرطة، والمحاكم والسجون الخ...
دعم وتشجيع تجنيد المتعاونين، سواء القدامى منهم أو الجدد.
إعادة تأهيل وحماية المتعاونين.
الولاء البديل (المقاومة الفلسطينية):
- يتم فرضه بقوة الإرادة الجمعية والتجنيد الشعبي. - تعقد اللقاءات سراً وتنفذ نشاطاتها خفية. - المرجعية الميدانية والتي على الرغم من سريتها في أغلب الأحيان تمثل جميع الفصائل الفلسطينية السياسية وشبه العسكرية نذكر منها على سبيل المثال: فتح، الجهاد الإسلامي، حماس، الفهد الأسود، النسر الأحمر، كتائب عز الدين القسام، الخ... - توجه التحذيرات إلى المتعاونين سواء الفعليين أو المشتبه فيهم. - يتم إنزال أقصى العقوبات بحق جميع المشتبه بتعاونهم.
وهكذا تتضح جوانب الصورة الخاصة بماهية مصادر ديناميكيات رد الفعـل التي يتبناها كل طرف فيما يتعلق بقضية المتعاونين. ففي البداية، ركز الجانب الفلسطيني في تعامله ورده على قضية المتعاونين خلال الانتفاضة على تحذير جميع من يشتبه بتعاونهم مع السلطات الإسرائيلية، من أنه سيتم إنزال أقسى العقوبات التي تستوجبها تلك الأفعال. حيث تم إصدار وتوجيه مثل هذه الدعوات للجماهير الفلسطينية من قِبل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة التي ينطوي تحت لوائها جميع الفصائل الفلسطينية داعية إياها إلى مقاطعة السلطات الإسرائيلية بما فيها جيش الدفاع الإسرائيلي وجهاز الشرطة والإدارة المدنية. وبعد إصدار كل تحذير تترك فسحة من الوقت لمن أراد أن "يعلن توبته". أما أولئك الذين لا يعبأون بمثل هذه التحذيرات ويستمرون في تعاملهم مع السلطات الإسرائيلية فإنهم يعرضون أنفسهم للمصير المحتوم، ويتم تنفيذ مثل هذه الإجراءات من قبل القوى الضاربة التي تم تشكيلها في مختلف المناطق بمقتضى قرارات تصدر عن اللجان الشعبية. وفي فترة لاحقة كان يتم تنفيذ مثل هذه الإجراءات من قبل لجان الأمن الأهلية أيضاً ولكن بمشاركة شعبية أقل في الموضوع، ويشبه هذا الوضع ما حدث في جنوب أفريقيا في سنوات التمييز العنصري حيث تم تأسيس محاكم الشعب في مقاطعات السود والمناطق التي تم امتلاكها بوضع اليد (انظر Scharf 1988).
2- أهداف رد الفعل
أشرنا في الإطار النظري إلى عدد من الجوانب وذلك وفقاً لأشكال ردود الفعل المختلفة التي تبناها الفلسطينيون وهذه الجوانب هي: الردع العام، والردع الخاص، والإعاقة كما صورها ستيفن لاب (1988) Steven Lab.
الردع العام general deterrence ويهدف إلى منع حدوث جرائم في المستقبل، وفى حالتنا هذه يقصد به انجراف مجمل السكان في تيار التعاون، وقد استخدمت العديد من الأساليب للردع خاصة التهديد باللنش threat of lynching -الإعدام بدون محاكمة قانونية- وإنزال عقوبة الإعدام.
أما في المقابل، فهناك الردع الخاصspecific deterrence وهو موجه إلى الفرد المذنب لمنع حدوث أية مخالفات من قبل ذلك الفرد في المستقبل. ويتم تنفيذه بإنزال العقوبة التي ستنغص عليه استمتاعه بما حصل عليه نتيجة اشتراكه في أعمال إجرامية (التعاون).
أما الإعاقة incapacitation فتهدف أيضاً إلي منع القيام بأية جريمة في المستقبل. ويكون السبيل إلى ذلك بالسيطرة البسيطة على الفرد وذلك بالتسبب في إعاقته الجسدية مما يترتب عليه عدم قدرته على التحرك والاشتراك في أعمال إجرامية في المستقبل (وهو ما نقصد به الحجز). وهذا الحجز يوفر إمكانية السيطرة التامة والمستمرة على الفرد مما يحول دون قيامه بأية تصرفات مسيئة للمجتمع.
3- أشكال العقاب الأخرى (غير القتل)
لقد تم استخدام العديد من أشكال العقاب ضد المتعاونين مع السلطات الإسرائيلية، أو أولئك الذين لم ينضموا إلى المقاطعة الشعبية لإسرائيل. ونورد فيما يلي بعضاً من أساليب العقاب التي لا تؤدى إلى الموت:
التشويه والنبذ الاجتماعي: ويتم تشويه سمعة الشخص بالإعلان عنه بأنه متعاون. وقد كان يتم ذلك بطرق عدة منها كتابة اسم ذلك الشخص على الجدران، الإشارة إلى اسمه في المناشير، الإعلان عنه في المساجد، ويكمن الهدف وراء مثل هذه الأعمال في نبذ المشتبه فيه من قبل الجمهور العام الفلسطيني، وبالتالي شل قدرته على إلحاق الأذى بالمقاومة وبالشعب الفلسطيني بشكل عام. وقد كان يتبع مثل هذا الأسلوب مع المشتبه بقيامهم بمخالفات محدودة نسبياً ولكنها تضمنت أيضاً متعاطي المخدرات ومن لهم سوابق جنائية.
العقاب الجسدي: يتضمن العقاب الجسدي ضد المشتبه بتعاونهم. بإطلاق النار على أرجلهم، وتكسير أطرافهم، وتشريح وجوههم وذلك باستخدام الفؤوس وسكاكين المطبخ وأمواس الحلاقة. وعادة ما كان يتم إنزال مثل هذه العقوبات على مرأى ومسمع من الناس وذلك بغرض ردع من تسول له نفسه القيام بمثل هذه الأعمال.
الإقامة الجبرية: وتتضمن الإقامة الجبرية إصدار أوامر إلى المشتبه فيه بعدم مغادرة بيته لفترة معينة من الوقت. ويهدف هذا الأسلوب إلى عزل المشتبه فيه عن المجتمع مما يحول دون قيامه بأية تصرفات مشينة. وعادة يتم فرض الإقامة الجبرية على ذلك الشخص الذي تعتقد الحركة أنه ينبغي أن تتاح له الفرصة للتفكير ليعيد ترتيب حساباته ويرجع إلى سابق عهده.
4 - أشكـال القتـل
وعلى الرغم من أن المقاومة الفلسطينية استخدمت أساليب ردع ضد المشتبه بتعاونهم فقد قامت أيضاً بقتل أولئك الذين تشتبه فيهم. وعلى الرغم من أننا لم نتمكن من معرفة متى كان يتم تفضيل استخدام أسلوب ما على الآخر، إلا أننا نستطيع القول أنه ومع استمرار الانتفاضة تعالت أصوات المعتدلين الفلسطينيين المطالبة بتحديد وضبط عمليات إنزال عقوبة القتل بالمشتبه بتعاونهم. كما وجدنا صعوبة بالغة في تقدير عدد مرات استخدام أساليب الردع لأنه لم يتم التبليغ عن جميع الحالات وفى معظم الأحيان كانت تلك الأساليب لا تترك أثراً يذكر بخلاف الأمر عند إنزال عقوبة القتل.
قتل في المكان نفسه (على المطرح): أشارت بتسيلم في تقريرها الصادر عام (1994) إلى أنه ووفقاً لشهادات العديد من الشهود وُجد أن أكثر الأساليب شيوعاً في قتل المشتبه بتعاونهم خلال الانتفاضة كان أسلوب القتل في المكان نفسه (على المطرح) بدون تحقيق ولا أية دعاوى قضائية تمهيدية. ووفقاً لهذا الأسلوب يتم قتل المشتبه فيه عمداً ومع سبق الإصرار والترصد، أو بصورة غير مخطط لها مسبقاً، إما في منزله أو في الشارع وذلك بإطلاق النار على الرأس في العادة. كما كان يتم القتل أيضاً بالطعن أو بالفؤوس أو باستخدام أية آلات حادة أخرى.
القتل أثناء التحقيق أو بعد انتهاء التحقيق: ويتم تنفيذ عملية القتل هذه إذا قرر المحقق إنزال عقوبة الإعدام بحق المشتبه بتعاونه. وفي بعض الأحيان، كان يموت المشتبه فيه تحت التعذيب قبل إصدار الحكم عليه، وغالباً ما يكون سبب الوفاة ناجم عن مشاكل في التنفس أو نوبات قلبية. وفى العادة يتم خطف المشتبه فيه إما من بيته أو من الشارع، ومن ثمّ يُقاد إلى التحقيق معه في مكان مجهول.
محاكمات الشعب: وفيها يتم إحضار المشتبه بتعاونه إلى مكان مركزي (وفي العادة يكون هذا المكان إما ساحة عامة أو أي مكان آخر من هذا القبيل) وعلى مرأى ومسمع من الناس. وهناك تتم قراءة اعترافه أو يتم توجيه الأسئلة إليه عن مسألة تعاونه. وبعد ذلك، إذا تم إصدار حكم بالإعدام عليه يتم تنفيذه فيه وذلك عن طريق الضرب أو بالفؤوس والسكاكين أو حتى بإطلاق النار عليه.
اللنش Lynching، الإعدام بدون محاكمة قانونية: في أحيان كثيرة، وخاصة في بداية الانتفاضة، كان يشارك مئات الأشخاص في إعدام متعاونين مسلحين ومعروفين ونذكر على سبيل المثال أنه في 24 فبراير 1988 قام مئات الأشخاص بمحاصرة بيت محمود زكارنة من قباطية لواء جنين حيث قاموا بإلقاء الحجارة على المنزل ومن ثم إحراق المنزل وزكارنة بداخله.
القتل في زنازين الاعتقال: طبقاً للبيانات المتوفرة لدى بتسيلم فإنه ومنذ بداية الانتفاضة قتل 44 من الفلسطينيين المعتقلين في السجـون والمنشآت العسكـرية ومراكز الشرطة ومراكز الاعتقال على يد معتقلين فلسطينيين آخرين اشتبهوا في كونهم متعاونين.
5 - رد الفعل الإسرائيلي على عمليات القتل
ينقسم هذا الجزء إلى قسمين أولهما رد الفعل الإسرائيلي على عمليات القتل وذلك من زاوية ارتباطه بالمتعاونين، وثانيهما من زاوية ارتباطه بالمجتمع الفلسطيني نفسه.
أ. رد الفعل الإسرائيلي على عمليات القتل من زاوية ارتباطه بالمتعاونين
على النقيض من الموقف الفلسطيني المتمثل في نبذ ومعاقبة المشتبه بتعاونهم، تميز الموقف الإسرائيلي باتباعه طرق شتى للدفاع عن المتعاونين وحمايتهم وغالباً ما كان يتم ذلك بمنحهم فرصاً لإعادة دمجهم في المجتمع الإسرائيلي. فدولة إسرائيل تتحمل المسئولية عن رفاهية وأمن جميع سكان المناطق المحتلة. وبالتالي، يقع على عاتق السلطات الإسرائيلية واجب حمايتهم بصورة فعالة فيوجهالاعتداءاتالتي تستهدف حياتهم. وخلال الانتفاضة، انتقل المئات من المتعاونين للعيش داخل إسرائيل. في حين لجأ المئات الآخرين إلي العيش في أماكن معينة داخل المناطق المحتلة وهذه الأماكن هي الفحمة في شمال الضفة الغربية، والدهينية في جنوب قطاع غزة.
الفحمـة:
في بداية السبعينات شرعت إسرائيل في القيام بعملية نقل آلاف الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الفحمة التي تقع في شمال الضفة الغربية بالقرب من جنين والتي كانت فيما مضى عبارة عن معسكر للجيش الأردني. وكان معظم الذين أعيد توطينهم في الفحمة إما من الذين تم إبعادهم من مخيمات اللاجئين في قطاع غزة أو متعاونين انكشفوا وانفضح أمرهم في القطاع.
الدهينيـة:
تقع هذه القرية على الحدود المصرية بالقرب من رفح، وكانت السلطات الإسرائيلية قد أقامتها عام 1975 لأجل إعادة تأهيل البدو الذي أُجلوا عن أراضيهم في تلك المنطقة، وقد انتقلت بضع عشرات من العائلات البدوية للسكن في القرية حيث منحت أراضي من أراضي الدولة لزراعتها، وكانت الحكومة العسكرية التي تولت زمام الأمور في منتصف السبعينات بعد الانسحاب الإسرائيلي من سيناء هي التي قامت ببناء تجمعات المنازل الأولى في هذه القرية. وفى الفترة من 1979-1982 أيضاً أعيد توطين المتعاونين البدو من سيناء في هذه القرية. وتحاط هذه القرية بأسلاك شائكة مكهربة كما يحمل جميع المتعاونين الذين يقطنون فيها تقريباً أسلحة مرخصة. ومع اندلاع الانتفاضة، لجأت اثنا عشر عائلة متعاونين من قطاع غزة إلى الدهينية.
كذلك عملت إسرائيل على منح بضع مئات من المتعاونين تصاريح يومية وتصاريح مبيت داخل إسرائيل. ويعيش معظم هؤلاء في مدن يسكنها عرب ويهود مثل يافا وحيفا والناصرة والقدس. في حين انتقل البعض منهم للسكن في قرى الجليل ومنها شفا عمر وسخنين وطمرة والرامة ومجد الكروم، وفى قرى المثلث ومنها الطيرة، الطيبة، قلنسوة، كفر قاسم، وجلجولية، وأم الفحم، وباقة الغربية، وعرعرة. كما حصل بعض أولئك الذين أعيد تأهيلهم على بطاقات هوية إسرائيلية. وقد اتفق كل من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على مسألة معاملة المتعاونين وحمايتهم حسبما ورد في اتفاقية قطاع غزة ومنطقة أريحا في المادة (20) والمتعلقة بجزئية إجراءات بناء الثقة، حيث نص البند الرابع منها على ما يلي: "مع تولي السلطة الفلسطينية يلتزم الجانب الفلسطيني بحل مشاكل أولئك الفلسطينييـن الذين كانوا على صلة بالسلطة الإسرائيلية. وحتى التوصل إلى حل متفق عليه، يتعهد الجانب الفلسطيني بعدم ملاحقة أولئك الفلسطينيين أو الإضرار بهم بأي طريقة".
ويقدر روني شاكد Roni Shaked من جريدة يديعوت أحرونوت اليومية عدد المتعاونين ما بين (4,000-10,000) متعاون. وقد عملت إسرائيل على إقامة إدارة لتأهيل المتعاونين وذلك بعد التوقيع على اتفاقات أوسلو. حيث تم استيعاب 750 متعاون لحتى الآن. فعملية التأهيل هي عملية طويلة وتدريجية. وتهدف إلى محاولة تعزيز استقلاليتهم والعمل على إيجاد إطار مرجعي لتشغيلهم وتوطينهم. وقد تلقى المتعاونون ومعيلـوهم (زوجاتهم وأطفالهم) دورات بهذا الخصوص وتم تعليمهم على نمط حياة جديدة وذلك بغرض التسريع في دمجهم في المجتمع الإسرائيلي. وتضم طواقم العمل في هذه الإدارة أخصائيين اجتماعيين، وأطباء نفسيين ومرشدين ومحامين. وقد حصل أولئك الذين تم استيعابهم على جوازات سفر إسرائيلية تمكنهم من الانتقال من مكان لآخر وهم يتمتعون بكامل الحقوق الممنوحة لمواطني البلاد. كما يتلقون مخصصات الضمان الاجتماعي ومنح للحصول على سكن.
ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أنه عندما يوافق شخص ما على التعاون لا يوقع علي أية وثيقة أو عقد بهذا الخصوص كما هو الحال بين الموظف وصاحب العمل. وهذه ملاحظة لها أهميتها خاصة عندما نكشف عن النتائج التي توصلنا إليها حول مردود مقتل المدعوين بالمتعاونين على أفراد عائلاتهم.
كما يشير يوسي ألتر Yossi Alterمن صحيفة معاريف اليومية في الثامن من سبتمبر من عام 1995 إلى أنه تم اتخاذ قرار من قبل كل من الحكومة الإسرائيلية وجهاز الأمن العام الإسرائيلي يقضي بإقامة إدارة للمتعاونين الفلسطينيين ولها هيئة توجيه عامة يرأسها الجنرال احتياط مناحيم عينان General (Res.) Menachem Einan. وتتمتع هذه الهيئة بصلاحيات الإدارة والتوجيه والتنسيق بين مكاتبها المختلفة.
ب. رد الفعل الإسرائيلي على عمليات القتل من زاوية ارتباطه بالمجتمع الفلسطيني
لقد قامت السلطات الإسرائيلية بالرد على عمليات القتل الجماعي لمتعاونيها على أيدي الفلسطينيين بإنزال أقصى العقوبات بحق أولئك الذين اشتبه في قتلهم أو معاقبتهم للمتعاونين. وحسب ما أوردته بتسيلم فإن هناك مئات المواطنين العرب الذين تمت محاكمتهم لاشتراكهم في قتل مواطنين آخرين. وبالإضافة إلى صدور أحكام بالسجن لفترات طويلة بحق الفلسطينيين الذين قاموا بإنزال العقاب بالمتعاونين أثناء الانتفاضة فقد قامت السلطات الإسرائيلية أيضاً بإغلاق وهدم منازلهم. وتشير المصادر إلى أنه تم هدم 155 بيت وإغلاق 130 آخرين لهذا السبب.
[/frame]
إعداد الدكتور/ سفيان أبو نجيلة رئيس قسم علم النفس بجامعة الأزهر بغزة رئيس مركز البحوث الإنسانية والتنمية الاجتماعية
السيد/ يوسف حاج يحيى ماجستير في علم الإجرام جامعة القدس
الدكتور/ إيدي كوفمان المدير التنفيذي لمعهد هاري س. ترومان للأبحاث وخدمة السلام بالقدس
ترجمة سلمـى مصطفى حمـاد
غزة-دنيا الوطن
ثالثاً: حجم المشكلة
تشير فريدا آدلر (1989) Freda Adler إلى أنه لدراسة حجم أية مشكلة اجتماعية فإنه ينبغي علينا جمع البيانات اللازمة لذلك من ثلاثة مصادر وهى: الإحصاءات الرسمية، وتقارير الضحايا، والتقارير الذاتية.
وإننا نرى أنه من الصعوبة بمكان اتباع مثل هذا الأسلوب مع القضية موضع الدراسة نظراً لعـدم توفر مثل هذه المصادر، فلم نتمكن من الحصول على أية معلومات إلا من خلال استطلاعنا لآراء أفراد عائلات المدعوين بالمتعاونين ممن قتلوا في قطاع غزة. وبالطبع لم يتسنَ لنا الحصول على معلومات عن هذا الموضوع من الضحايا أنفسهم، ولا كان بإمكاننا أيضاً الإطلاع على الوثائق الرسمية بهذا الخصوص. وينبغي أن تؤخذ كل هذه العوامل في الحسبان عند استعراض مجمل النتائج التي توصلنا إليها.
وتشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أنه تم قتل حوالي 750 شخص تقريباً في قطاع غزة على خلفية الاشتباه بتعاونهم، وكان معظمهم من رفح وخان يونس ومدينة غزة. ونظراً للقيود التي أشرنا إليها أعلاه، جاء تحليلنا لصورة الوضع محدوداً، حيث كان لزاماً علينا أن نضع نصب أعيننا باستمرار حقيقة أن الصورة التي رسمناها له انطلاقاً مما تجمع تحت أيدينا من معلومات -مع أنها محدودة للغاية- لا تعتبر انعكاساً حقيقياً للوضع برمته في قطاع غزة. ومما زاد الأمر تعقيداً حساسية هذا الموضوع للمجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء. وإذا أخذنا بعين الاعتبار كل هذه التحفظات فإننا سنخلص إلى أن النتائج التي توصلنا إليها كانت على درجة عالية من الصدق وذات فائدة جمة ويمكنها أن تساعد في لفت الأنظار إلى موضوعٍ كهذا نادراً ما تم تناوله بالبحث والدراسة.
وبدلاً من أن تتبنى مصادر الإعلام الإسرائيلية أسلوباً أكاديمياً متسقاً في معرض تناولها لظاهرة قتل المتعاونين، نزعت إلى البحث عن الإثارة فيما وقع تحت أيديها من معلومات على نحو لا يمكن أن يوصف إلا أنه ترويج للإشاعات. ففي الرابع عشر من يناير عام 1994 نشر عطا الله منصور مقالة تحت عنوان "ظاهرة القتل"، يشجب فيها التقرير الصادر عن منظمة بتسيلم حول قتل المتعاونين. حيث أشار منصور إلى أن هناك آلاف المتعاونين ممن الذين انكشفوا "انحرق كرتهم" يعيشون داخل الخط الأخضر، وأن المحتلين يواجهون معضلة صعبة للغاية حيث يتوجب عليهم اتخاذ قرار بشأن الـ 50,000 متعاون وعائلاتهم. هذا إلى جانب الثغرة التي تضمنتها اتفاقيات إعادة الانتشار التي تم التوقيع عليها من قبل كل من السلطة الفلسطينية وإسرائيل فيما يتعلق بخطة "غزة-أريحا" حيث أنها لم تتطرق إلى مسألة هامة للغاية ألا وهي كيف سيتم التعامل مع المتعاونين الذين يسكنون المناطق التي ستنتقل إلى إدارة السلطة الفلسطينية عما قريب؟؟ إلا أنه لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق واضح بين الطرفين بهذا الخصوص ويرجع سبب ذلك إلى حدٍ ما إلي تعثر عملية السلام. وعلى ما يبدو فإن قضية المتعاونين تقع في أسفل سلم أولويات المفاوضات بين الطرفين، مما يعد تجسيداً حقيقياً لعدم رغبة كلا الطرفين، في تحمل مسئوليته في البحث عن حل لهذه القضية.
وتشير نتائج تقديرات أعداد من قتلوا على خلفية الاشتباه بتعاونهم إلى وجود تضارب واضح للعيان بين ما توصلت إليه هذه الجهة أو تلك، وغالباً ما تكون هذه النتائج محيرة للغاية. فعلى سبيل المثال: تشير تقديرات بتسيلم إلى أنه تم قتل 942 شخص على خلفية الاشتباه بتعاونهم خلال السنوات الست للانتفاضة التي اندلعت عام 1987. في حين تشير التقديرات التي أوردتها وكالة أنباء أسوسشيتدبرس إلى أن عددهم يبلغ 771 شخص. وعلى ما يبدو يتضارب كلا التقديرين أعلاه مع ما ورد في دراستنا هذه، وذلك لأن حساباتنا تقدر عدد من قتلوا على خلفية التعاون في قطاع غزة وحدها بحوالي 750 شخص تقريباً. ومما يزيد في هذا الإشكال ما أورده إيتان رابين Eitan Rabin – المحلل العسكري في جريدة هآرتس اليومية- في مقالة له في السادس من أكتوبر عام 1995، وأشار فيها إلى أن هناك وثيقة أعدها جهاز الأمن ليتم توزيعها من قِبل وزارة الخارجية وورد فيها أنه تم قتل 1000 فلسطيني تقريباً معظمهم من الضفة الغربية. وعلى الرغم من أن دراستنا لم تتناول قضية المتعاونين في الضفة الغربية، إلا أنه يمكننا القول على الأقل إلى أنها ستكون مشابهة إلى حدٍ ما مع الوضع في غزة. وعلى الرغم من أن هذا التفاوت البين في التقديرات "الرسمية" يعوق المضي قدماً في هذا البحث، إلا أنه يعتبر دلالة واضحة على مدى حساسية هذا البحث: فعلى ما يبدو لا أحد يرغب في قول الحقيقة.
• وتشير المعلومات المحدودة المتوفرة عن هذا الموضوع من مصادر أجهزة الأمن الإسرائيلية إلى أن 40% - 45% من أولئك الذين قتلوا على خلفية الاشتباه بتعاونهم كانوا فعلاً على علاقة مع السلطات الإسرائيلية حيث كان معظمهم موظفي حكومة. وسنتعامل مـع هذه الأرقام أيضاً ببعض التحفظ نظراً لأن الوثائق الخاصة بقضية المتعاونين لم يتم نشرها بعد، ومن المرجح أن تحتوي هذه الوثائق على تقديرات مختلفة تماماً. كما أنه من المحتمل أيضاً أن تكون الحكومة الإسرائيلية غير صادقة فيما أعلنته من أرقام لتتنصل من مسئوليتها عن خلق مثل هذه المشكلة. ووفقاً للمعلومات المتوفرة تحت أيدينا حول هذه الظاهرة نستطيع القول أن كافة المصادر أجمعت على أن 10%-15% من المدعوين بالمتعاونين قتلوا على خلفية جنائية (كانت على وجه الخصوص الاتجار بالمخدرات والدعارة)، في حين قتل عدد قليل منهم لخرقهم فقط الأوامر الصادرة عن القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة ( مثل فتح محلاتهم في أيام الإضراب الشامل). وسنناقش فيما بعد ما توصلنا إليه من نتائج حول الأسباب الكامنة وراء عمليات القتل.
• وتكشف مقالة نشرت في صحيفة هآرتس الصادرة في العاشر من يونيو عام 1995 عن أنه تم قتل 31 فلسطينياً على خلفية الاشتباه بتعاونهم منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة وأريحا في الثامن عشر من مايو عام 1994، 29 منهم من الضفة الغربية. كما تشير أيضاً إلى أن اتفاقيات أوسلو نصت على إقامة إدارة تأهيل لحماية الفلسطينيين ممن لا تزال حياتهم معرضة للخطر للاشتباه بتعاونهم . وتشير تقديرات هذه الإدارة إلى أنه تمت رعاية 800 عائلة خاصة في القرى العربية والمدن التي يسكنها عرباً ويهوداً معاً مثل باقة والطيرة والطيبة وجت والناصرة وسخنين وشفا عمر والقدس.
ونتيجة للغموض الذي يكتنف الإحصاءات المتوفرة عن هذه الظاهرة، فليس أمامنا من سبيل لاتباعه لتقدير حجم هذه الظاهرة بدقة. وبعبارة أخرى، ليس بإمكاننا أن نعرف بالضبط عدد من قتلوا على خلفية التعاون حتى الآن، ولا عدد من لا يزالون على قيد الحياة. بالإضافة إلى أنه غالباً ما تتضارب تقديرات المصادر الإسرائيلية والفلسطينية بهذا الخصوص، وفي بعض الأحيان ظهر مثل هذا التضارب في أوساط المصادر الإسرائيلية نفسها. ومع ذلك، لا يزال هناك شيئاً واحداً معروفاً على وجه اليقين: فعلى الرغم من هذا الانتشار الواسع لهذه الظاهرة إلا أن حلها هو تحدٍ في حد ذاته، ويتوجب أن يطول هذا التحدي مختلف الفئات العمرية والاجتماعية والظروف والملابسات التي أحاطت بهذه الظاهرة.
رابعاً: تحديد أسباب المشكلة
سنتناول في هذا الجزء من الدراسة الأسباب الكامنة وراء قضيتين مختلفتين تماماً. أولهما: ما هو السبب الذي دفع أناساً للتعاون وثانيهما: ما هو السبب الذي دفع آخرين للقتل. وقبل الخوض في هذا الموضوع نجد أنه من الأهمية بمكان أن نوضح (مع أن الموضوع قد يبدو أنه لا يحتاج إلى أي توضيح) السبب الرئيسي الذي دعا إسرائيل إلى تجنيد المتعاونين. ويشير لورنس تال (1994) Lowrence Tal إلى أن السلطات العسكرية الإسرائيلية بدأت في تجنيد المتعاونين من الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967. ويضيف تال أن أسلوب تجنيد المتعاونين يعد أسلوباً سهلاً وفعالاً للغاية لفرض السيطرة على الشعوب المعادية. وبإمكان قوى الاحتلال والاستبداد بناء أنظمة حكم فعالة–إذا قامت بالترهيب أو الترغيب- بتجنيد عدد من مواطني منطقة معينة كعملاء لها. ومن الواضح أن إسرائيل اتبعت مثل هذا الأسلوب لفرض هيمنتها على الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلَين على الرغم من أنها لم تفلح لحتى الآن في التوصل بعد إلى استراتيجية واضحة بخصوص ما ستفعله بهذه الأراضي.
أ. أسباب التعاون:
في إطار بحثنا هذا وصلنا إلى نتيجة مفادها أن هناك طريقتين رئيسيتين يمكن بواستطهما تجنيد أعداد كبيرة من الأشخاص للعمل كمتعاونين رغماً عنهم. أولها: الابتزاز، وثانيها: إغراء المرشحين المحتملين بالعديد من المساعدات والامتيازات.
فالتعاون بطبيعته يوفر معلومات قيمة تساعد على بث الفرقة في صفوف قوى المعارضة المحتملة. فهذا التكتيك الكلاسيكي الاستعماري المتمثل في قاعدة "فرق تسد" اتبعته القوى الاستعمارية المختلفة عبر التاريخ مثل الاستعمار البريطاني للهند والفرنسي للجزائر والأمريكي لفيتنام*.
ويشير هيلترمان (1990) Hilterman إلى إن عملية تجنيد المتعاونين تتم في العادة داخل السجون في أوساط المهتمين بالدعارة وإدمان المخدرات. ولكن نظراً لتبعية العمال الفلسطينيين اقتصادياً لإسرائيل فقد فتحت عملية تقدمهم بطلبات للحصول على تصاريح للعمل داخل إسرائيل باباً آخراً أمام جهاز الأمن العام لتجنيد من يرغب في تجنيده. كما اعتُبر أولئك الأشخاص الذين كانوا في أمس الحاجة إلى الخدمات المدنية الأساسية التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية هدفاً للتجنيد أيضاً. ففي شهر يناير عام 1987 -أي قبل عام تقريباً من اندلاع الانتفاضة- نُظم لقاءٌ شعبيٌ احتجاجاً على السياسة الإسرائيلية الخاصة بلم شمل العائلات، حيث توجه أحد المتحدثين في هذا اللقاء للجمهور متسائلاً: من منكم ساومته إسرائيل على التعاون معها مقابل إعطائه تصريحاً بلم الشمل؟ فرد عليه الجمهور بالإيجاب المطلق، وهذا يعد دليلاً واضحاً على أن الأشخاص الذين كانوا في حاجة لمثل هذه الخدمة الأساسية غالباً ما تمت مساومتهم على التعاون.
ومع اندلاع الانتفاضة طرأت تغييرات عديدة على الساحة نذكر منها قيام السلطات الإسرائيلية بمنح المتعاونين صلاحيات أوسـع لإحكام سيطرتها البيروقراطية على السكان. كما قامت بتسليح المتعاونين المعروفين لدى الجمهور في معرض ردها على تزايد حدة الكراهية لهم ووتيرة الاعتداءات الجسدية عليهم من قبل السكان المحليين. وما أن فرغت السلطات الإسرائيلية من تسليح المتعاونين حتى قامت بنشرهم مشَكِلَةً بهم جبهة مستعرضة في وجه السكان المحليين وأطلقت لأيديهم العنان، وغالباً ما كان هؤلاء المتعاونون يساعدون الجيش الإسرائيلي في عمليات الاعتقال ووضع الحواجز على الطرقات والقيام بمضايقة السكان المحليين باستمرار كالاعتداء عليهم بالضرب وإطلاق النار عليهم وتخريب ممتلكاتهم وابتزاز أموالهم.
كما أشارت صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر في الثاني عشر من سبتمبر عام 1990 إلى قيام السلطات الإسرائيلية بتجنيد عصابات من المتعاونين في منطقة جنين على صورة ميليشيات طليقة لتساند الجيش الإسرائيلي في جهوده الرامية إلى قمع الانتفاضة. حيث كان المتعاونون يرافقون أفراد الجيش الإسرائيلي فيما يشنونه من حملات، ليرشدوهم ويساعدوهم في القبض على المطلوبين. وقد استعرض يوسف الغازي Yosif El-Ghazi في مقالة له نشرتها صحيفة هآرتس في عددها الصادر في التاسع من يناير عام 1997 الأسباب التي دعت الفلسطينيين إلى التعاون مع إسرائيل. حيث كتب الغازي أنه بعيداً عن أية أسباب أيديولوجية، وافق معظم المتعاونين على العمل مع إسرائيل إما نتيجة لتعرضه للابتزاز، أو لحصوله على امتيازات معينة مقابل تعاونه. وتشمل هذه الامتيازات استصدار تصاريح العمل، إطلاق سراحه أو سراح آخرين عزيزين عليه من السجن، والحصول على تصاريح لم الشمل. ويضيف الغازي أيضاً أن هناك عدد من الأشخاص الذين وافقوا على التعاون مع إسرائيل لثأر شخصي.
ويستعرض تقرير بتسيلم الصادر عام 1994 بإسهاب استخدام أسلوب الابتزاز، الذي أطلقت عليه اسم الإسقاط، وهو يتضمن الحصول على صور لنساء وبنات فلسطينيات وهن عاريات ومن ثم تهديدهن بنشر الصور على الملأ إن لم يوافقن على التعاون. وكان يتم الحصول على هذه الصور بواسطة كاميرات خفية أو في مراكز الاعتقال.
وسنشير في هذا السياق إلى ما يعرف بنظرية التبادل Exchange Theory (انظر Homans 1958; and Blau 1964 ). وتفترض هذه النظرية أن التراكيب الاجتماعية social structures الثابتة تكونت نتيجة حدوث عمليات تبادل فعلية داخل المجموعات الصغيرة نسبياً، وتكون هذه العمليات نافعة ومجزية لبعضها البعض (تكافلية). وعلى العموم، تتعزز أنماط التفاعل المتبادل إذا كان الجزاء الذي يحصل عليه الفرد يتجاوز ما يدفعه من ثمن. وبعبارة أخرى تتعزز أنماط السلوك الاجتماعي المتكررة إذا كانت الفائدة ستعود على جميع الأطراف. ويضيف بلو Blau أن التراكيب الاجتماعية تقوم على التحكم في المصادر كرؤوس الأموال ومراكز القوى. وبالتالي، يصبح أساس العلاقات الاجتماعية هو الرغبة في الخضوع لهذه المصادر أو تلقي جزءً منها.
وبمقدور الجماعات والأفراد على حد سواء الاستفادة من أية عملية تبادل ماداموا يعتقدون أن صفقة التبادل هذه مناسبة لهم. وإذا طبقنا هذه النظرية على الواقع الذي نعيشه فسيتضح لنا السبب الذي يدعو شخصاً ما للتعاون وذلك من منظور اجتماعي تركيبي. ويمكن تحقيق الطموحات عن طريق استغلال تراكيب الحياة اليومية القائمة على المصادر لتحقيق علاقة تكافلية، فهذه العلاقة تساعد الاحتلال العسكري الإسرائيلي وتستغل في ذات الوقت نقاط الضعف في البنية الاجتماعية الفلسطينية الخاضعة له.
ب. أسباب القتل
يتناول هذا الجزء من الدراسة العوامل المهيئة لحدوث عمليات القتل الجماعي للمتعاونين. ويرتكز الجزء الأكبر من تفسيرنا لهذا الأمر على نظرية الإحباط-العدوان. وسنُعرف العدوان في هذا السياق على أنه أي صورة من صور إلحاق الأذى أو الضرر بأي كائن حي آخر، وهذا الكائن يتحفز بدوره لتفادي مثل هذه المعاملة. في حين يُفهم الإحباط على أنه اعتراض سبيل سلوك نامٍ متطور يسعى إلى تحقيق هدف معين. وعلى العموم، فقد ظهرت هذه النظرية أول ما ظهرت على يد دولارد Dollard الذي يرى أن الإحباط يؤدى دائماً إلى استثارة حافز (دافع) ملح يتجه نحو العدوان، وأن العدوان لا يظهر في فراغ اجتماعي، بل يتولد في الغالب من أنماط التفاعل المختلفة مع أناس آخرين، حيث يتحدد وفقاً لهم شكله واتجاهه.
فالإحباط هو السابقة الاجتماعية للعدوان والتي يوجه لها الاهتمام الأكبر وتعتبر على صلة سببية به. وعلى الرغم من أن الإحباط يعتبر على نطاق واسع الدافع الرئيسي وراء العدوان الظاهر، إلا أن الدلائل التي توضح أن له مثل هذا التأثير متباينة تماماً. ويرى ليونارد بيركوفيتز Leonard Berkovitz (1962, 1989, 1993) أن الفرد يقوم بمهاجمة الآخرين عندما يكون مصاباً بالإحباط، أي حينما يفشل الفرد في تحقيق أهدافه أو إذا لم يحصل على الثواب الذي يتوقعه. فالإحباط له معانٍ كثيرة ومتنوعة حتى أن علماء النفس أنفسهم لا يتفقون فيما بينهم على تعريف له. فالبعض منهم يرى أن هذا المصطلح يشير إلى مانع خارجي يعترض سبيل الفرد ويحول دونه ودون وصوله إلى هدفه، في حين يرى البعض الآخر أن الإحباط هو رد فعل انفعالي داخلي ناجم عن مانع معين. ويُعرف دولارد وآخرون Dollard et al (1939)الإحباط على أنه ظرف خارجي يحول دون حصول الفرد على اللذة التي يتوقعها. كما يرون أن كل رد فعل عدواني يمكن تتبع جذوره واكتشاف أنه ناجم عن إحباط أصيب به الفرد فيما مضى. كما يرى بيركوفتز Berkovitz أيضاً أن منع الفرد من تحقيق هدف متوقع يولد لديه دافعاً للسلوك العدواني الانفعالي. ويؤكد دولارد وآخرون Dollard et al أن قوة دافع الإحباط المسبب للعدوان تتناسب تناسباً مباشراً مع حجم المكافأة التي كان يتوقعها الفرد في البداية ثم فشل في الحصول عليها فيما بعد.
وبصورة أكثر تحديداً، يرى دولارد Dollard أنه إذا مُنع الفرد بشكل فجائي من تحقيق أهدافه فسيكون أكثر ميلاً لإلحاق الأذى بالآخرين. فكلما زاد الإشباع الذي يتوقعه الفرد من تحقيقه لهدفه، وكلما كانت العوائق التي تحول دونه ودون تحقيقه هذا الإشباع أكثر إحكاماً، كلما زادت احتمالات تعرض مساعيه الرامية إلى تحقيق هذا الهدف للإحباط. ويعتقد بيركوفيتز (1993) Berkovitzأن الإحباط يولد العدوان، ويعتبر الأثر السلبي لأي فعل مهما كان هو الحافز الرئيسي وراء النزعة العدوانية. وبالتالي فإن المحاولات الإحباطية التعسفية وغير المنطقية هي التي تؤدي وحدها إلى ردود فعلٍ عدوانية. ونادراً ما يترتب على الإحباطات غير التعسفية أية ردود فعل عدوانية، وربما يرجع السبب في ذلك إلى حد ما إلى أن الفرد لم يكن يتوقع حصـوله على اللذة جراء تحقيقه أهدافها أولم يكن يتوقع تحقيق أهدافه كاملة.
وفي حين يرى بعض التجريبيين أن الإحباطات البينشخصية interpersonal thwarting تولد العدوان، يرى البعض الآخر أنها تحدث آثاراً ضعيفة فقط في هذا الاتجاه، لدرجة أنها تفشل في بعض الأحيان في إحداث مثل هذا السلوك على الإطلاق. وهذا يشير إلى وجود العديد من العوامل التي تخفف من حدة آثار الإحباط التي تؤدى إلى العدوان.
ولا ينبغي علينا أن نفترض أن الإحباط يؤدى دائماً إلى العدوان مباشرة، فالأصح أنه يولد دافعاً للسلوك العدواني (أي حافزاً عدوانياً) وهذا بدوره يشجع أو يمهد الطريق أمام مثل هذا السلوك. كما يبدو واضحاً أن الأشخاص المحبطين لا يقومون في العادة باعتداءات لفظية أو جسدية تجاه بعضهم البعض. وفي المقابل نرى أنهم غالباً ما يظهرون ردود فعل متباينة للغاية عند تعرضهم لمثل هذه المعاملة، وتتراوح ردود الفعل هذه ما بين الاستسلام واليأس من جهة والقيام بمحاولات فعالة للتغلب على العوائق التي تعترض سبيلهم من الجهة الأخرى.
ومما يدعم بشكل مباشر هذه الاستنتاجات التي تخلص إلى أن الإحباط لا يؤدى دوماً إلى العدوان تلك النتائج التي توصلت إليها الدراسات الإمبريقية التي أجراها بيركوفيتز (1989)Berkuvitz . وتشير هذه النتائج إلى أنه على الرغم من أن الإحباط يمهد التربة في بعض الأحيان لحدوث العدوان إلا أنه لا ينجم عنها دائماً وأبداً –ولا حتى في العادة- مثل هذه الآثار العدوانية.
أما ميلر (1941) Miller الذي يعتبر من أوائل الذين صاغوا فرضية الإحباط-العدوان سرعان ما عدل من مقترحه الأولي وأشار إلى أن الإحباط يؤدى إلى العديد من أنماط السلوك، وأن العدوان واحدٌ منها فقط. ومن الواضح أن ظاهرة القتل الجماعي للفلسطينيين المدعوين بالمتعاونين لا يمكننا أن نفسرها كلية على أنها حدثت نتيجة للإحباط الذي عانى منه أولئك الذين نفذوا عمليات القتل تلك. ولكنها تشير مع ذلك إلى أن الإحباط يمكن توجيهه إلى منفذ آخر بديل.
إلا أنه من الأسهل أن نفترض أن الإحباط هو الدافع الأولي وراء العدوان. ولكن غالباً ما يحدث العدوان حتى في غياب الظروف المحبطة تماماً. وإلا فكيف سنفسر قيام القتلة المأجورين بقتل أشخاص لم يروهم في حياتهم إطلاقاً ولم يحدث أن سبب المقتول للقاتل أية إحباطات، لذا نـرى أنه لزاماً علينا أن نبحث عن تفسير آخر لهذا الموضوع. وهناك قلة قليلة تنكر أن الفلسطينيين الذين شاركوا في الانتفاضة كانوا يشاركون في معركة اعتبروها نضالاً لنيل حقوقهم واستقلالهم. فسياسة "القبضة الحديدية" التي اتبعها وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين تبنت إجراءات قمعية "لتكسير العظام" وإخماد جذوة العنف التي أشعلتها الانتفاضة. وبالتالي ولدت هذه الإجراءات التعسفية لدى الفلسطينيين شعوراً بالإحباط، هذا الإحباط الذي نجم عن عدم تحقيقهم لأهدافهم وكان ينظر إليه على أنه يرتبط بصورة مباشرة بالإجراءات الإسرائيلية الوقائية لقمع الانتفاضة. لذا كان ينظر إلى المتعاونين الفلسطينيين على أنهم جزء لا يتجزأ من آلة القمع الإسرائيلية هذه، وأنهم عملوا بكل همة ونشاط للوقوف في وجه الطموحات الجماعية لشعبهم. ولكن لسبب أو لآخر اختار الفلسطينيون توجيه جزءٍ كبيرٍ مما يشعرون به من إحباط للمدعوين بالمتعاونين بدلاً من توجيهه للجيش الإسرائيلي.
ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نمر مر الكرام على حقيقة أنه على الرغم من كثرة الأعمال العنيفة، التي قام بها الفلسطينيون ضد الجيش الإسرائيلي أيام الانتفاضة إلا أنهم غالباً ما كانوا يدفعون الثمن جراء قيامهم بمثل هذه الأعمال. أولاً لأنه من المعروف أن لكل عمل تبعاته ومضاعفاته. بالإضافة إلى أن الجيش الإسرائيلي أحدث لديهم نوعاً من الخوف المبرر نتيجة للسياسة القمعية التي يتبعها. وبالتالي أصبح المتعاونون الهدف الأضعف (كبش الفداء) المرتبط بالمصدر الأصلي والذي يمكن إعادة توجيه العدوان إليه خاصة وأن المتعاونين معروفين بوضوح وسيكونون عاجزين نسبياً عن الدفاع عن أنفسهم حال اكتشافهم. هذا إلى جانب كونهم أهدافاً أكثر قرباً.
ففي مثل هذه الحالات، يؤدي الخوف الشديد من العقاب إلى قيام الفرد المحبط بتحويل هجومه عن المصدر الأصلي المسبب للإحباط إلى هدفٍ آخرٍ بديل. وعلى الرغم من أن الشخص المحبط يرى أن العائق الذي حال دونه ودون تحقيقه ما يصبو إليه هو الهدف الأنسب والأفضل لتوجيه جُل عدوانه إليه، إلا أن هناك أشخاصاً آخرين من الممكن أن يقوموا مقامه إذا ما اعتبروا أنهم يماثلون إلى حد مقبول المصدر الأصلي المسبب للإحباط. وإننا نرى أن هذا التفسير يمكن أن يكون أقرب تفسير نفسي منطقي يوضح الدوافع الكامنة وراء قتل المدعوين بالمتعاونين.
خامساً: ردود الفعـل
نناقش في هذا الجزء رد الفعل الاجتماعي على قضية المتعاونين. وعلى العمـوم، كان هناك نوعان من ردود الفعل أولهما: إنزال العقاب بأية طريقة إلا القتل، وثانيهما: القتل. وقبل الخوض بصورة أعمق في تناول هذين النوعين ينبغي علينا أن نتفهم ديناميكيات التفاعل ما بين السلطات العسكرية الإسرائيلية من ناحية والولاء الفلسطيني من الناحية الأخرى، لأنها ستوضح الظروف التي أحاطت بظاهرة إنزال العقاب. ثم سنقوم بتناول أهداف ردود الفعل هذه، ونعرج بعد ذلك على ردود الفعل نفسها. وفي النهاية سنتناول باختصار رد الفعل الإسرائيلي على قتل المدعوين بالمتعاونين.
تفرض علينا ظاهرة المتعاونين مع إسرائيل أن نتناول السلوك الإنساني لأي شخص مهما كان من منظور معايير وقيم المجتمع الذي عاش فيه ذلك الشخص. فبعد اندلاع الانتفاضة تم تشكيل ما يسمى باللجان الشعبية التي كانت بمثابة نظام سياسي في الأراضي المحتلة، كما تم تشكيل القوى الضاربة التي تعمل على تنفيذ الأوامر الصادرة عن القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة. وقد أُوكلت بالقوى الضاربة أيضاً مهمة القيام بتنفيذ النشاطات العسكرية ضد الاحتلال وردع كل الخارجين عن الصف الوطني ومن يقفون ضد المصالح الفلسطينية. كما تشكلت أيضاً لجان الإغاثة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية في مختلف مناطق الضفة الغربية لتقديم العون للسكان الفلسطينيين. ومن ثم تولت القيام بمهام معينة جرى العرف على أن تتولاها العائلة. وتتفق هذه الملاحظة إلى حدٍ بعيد مع نتائج البحث الذي أجراه دياب ومليكيان Diab & Melikian عام 1975 حول انتماءات الطلاب العرب في الفترة التي أعقبت حرب يونيو عام 1967. وقد أعرب الفلسطينيـون الذين شملهم البحث عن انتمائهم للهوية الفلسطينية بالدرجة الأولى. وأيام الانتفاضة أيضاً كان هذا الأمر هو مصدر الإلهام الأساسي بالنسبة للجماهير الفلسطينية التي استوعبته وعملت من أجله. أما العائلة فقد لعبت دوراً ثانوياً. ووفقا للمدخل الوظيفي، كان هناك انسجام في نسق المجتمع إلى حد ما، نجم عن الاتفاق حول القيم والمعايير. ومن ثم ركز النظام الاجتماعي على مسألتي الاستمرارية والاتفاق. وبالتالي تم توحيد المجتمع انطلاقاً من حقيقة أن الناس كانوا أصلاً موحدين، وتم تحقيق كل ذلك بمساعدة القيم والمعايير الاجتماعية. ووفقا للمدخل الوظيفي، فإن النظام الاجتماعي يتأتى بالأساس انطلاقاً من المعايير وليس من المصالح الشخصية للأفراد. وهكذا نخلص إلى نتيجة مفادها أن التمسك الاجتماعي للجماهير الفلسطينية بالهوية الفلسطينية انعكس على الموقف من المتعاونين -في غياب التعاطف مع ظاهرة المتعاونين- حيث كان يُنظر إلى المتعاونين على أنهم يعملون ضد إرادة الشعب الفلسطيني. لذا خلقت القيم العليا للهوية الفلسطينية إجماعاً وعداء لأشخاص بعينهم ممن يعملون ضد هذه القيم. ويذكر أن العائلات لم تتحمل مسئولية تطبيق رد فعل الشعب الفلسطيني تجاه هذه الظاهرة، بل قامت بهذه المهمة اللجان الشعبية. وهذا يعني أن العائلة لم تلعب دوراً بارزاً في تطبيق العقوبة على المتعاونين. ولكن في المقابل تم تطبيق هذه العقوبة بأيدي أفراد ينتمون إلى هذه اللجان الشعبية لضمان استمرارية النضال حتى تحقيق إرادة الشعب الفلسطيني.
1- ديناميكيات التفاعـل
من الأهمية بمكان تفهم ديناميكيات السلطتين الرئيستين اللتان تصارعتا خلال الانتفاضة لأنها تمثل صراع قوى نجم في الأساس من أجل السيطرة على الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. أولاً: كان هناك السلطة الإسرائيلية (بأجنحتها المختلفة المنطوية تحت لوائها وكل من يمثلها أو يدلل عليها)، حيث كانت تتولى فرض النظام وضمان استمرارية الاحتلال للمناطق بسبل شتى منها جيش الدفاع الإسرائيلي والشرطة والمحاكم ونظام السجون الخ... وفي المقابل، كان هناك الولاء الفلسطيني ممثلاً في الفصائل الفلسطينية المختلفة (سواء كانت فتح أو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو حماس، أو الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أو حزب الشعب الفلسطيني، وجميع أجنحتها السرية). وفي حين كان بإمكان السلطة الإسرائيلية العمل جهاراً نهاراً، كانت حركات المعارضة والمقاومة الفلسطينية مضطرة لتنفيذ نشاطاتها في الخفاء. وعلى الرغم من أن الفصائل السياسية وشبه العسكرية المختلفة كانت تمثل المقاومة الشعبية الفلسطينية إلا أنه لم يكن لها إطاراً مرجعياً ولا نظام دعم وتسويغ حقيقي مماثلاً لما هو موجود فعلاً لدى الطرف الإسرائيلي. ونعرض فيما يلي توضيحاً لبيان ديناميكيات هذين الطرفين:
الولاء الإسرائيلي:
يتم فرضه بالقوة وفقاً لنظام الحكم العسكري.
يتم تنفيذ نشاطاته جهاراً نهاراً.
له نظام مرجعي رسمي متمثلاً في الشرطة، والمحاكم والسجون الخ...
دعم وتشجيع تجنيد المتعاونين، سواء القدامى منهم أو الجدد.
إعادة تأهيل وحماية المتعاونين.
الولاء البديل (المقاومة الفلسطينية):
- يتم فرضه بقوة الإرادة الجمعية والتجنيد الشعبي. - تعقد اللقاءات سراً وتنفذ نشاطاتها خفية. - المرجعية الميدانية والتي على الرغم من سريتها في أغلب الأحيان تمثل جميع الفصائل الفلسطينية السياسية وشبه العسكرية نذكر منها على سبيل المثال: فتح، الجهاد الإسلامي، حماس، الفهد الأسود، النسر الأحمر، كتائب عز الدين القسام، الخ... - توجه التحذيرات إلى المتعاونين سواء الفعليين أو المشتبه فيهم. - يتم إنزال أقصى العقوبات بحق جميع المشتبه بتعاونهم.
وهكذا تتضح جوانب الصورة الخاصة بماهية مصادر ديناميكيات رد الفعـل التي يتبناها كل طرف فيما يتعلق بقضية المتعاونين. ففي البداية، ركز الجانب الفلسطيني في تعامله ورده على قضية المتعاونين خلال الانتفاضة على تحذير جميع من يشتبه بتعاونهم مع السلطات الإسرائيلية، من أنه سيتم إنزال أقسى العقوبات التي تستوجبها تلك الأفعال. حيث تم إصدار وتوجيه مثل هذه الدعوات للجماهير الفلسطينية من قِبل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة التي ينطوي تحت لوائها جميع الفصائل الفلسطينية داعية إياها إلى مقاطعة السلطات الإسرائيلية بما فيها جيش الدفاع الإسرائيلي وجهاز الشرطة والإدارة المدنية. وبعد إصدار كل تحذير تترك فسحة من الوقت لمن أراد أن "يعلن توبته". أما أولئك الذين لا يعبأون بمثل هذه التحذيرات ويستمرون في تعاملهم مع السلطات الإسرائيلية فإنهم يعرضون أنفسهم للمصير المحتوم، ويتم تنفيذ مثل هذه الإجراءات من قبل القوى الضاربة التي تم تشكيلها في مختلف المناطق بمقتضى قرارات تصدر عن اللجان الشعبية. وفي فترة لاحقة كان يتم تنفيذ مثل هذه الإجراءات من قبل لجان الأمن الأهلية أيضاً ولكن بمشاركة شعبية أقل في الموضوع، ويشبه هذا الوضع ما حدث في جنوب أفريقيا في سنوات التمييز العنصري حيث تم تأسيس محاكم الشعب في مقاطعات السود والمناطق التي تم امتلاكها بوضع اليد (انظر Scharf 1988).
2- أهداف رد الفعل
أشرنا في الإطار النظري إلى عدد من الجوانب وذلك وفقاً لأشكال ردود الفعل المختلفة التي تبناها الفلسطينيون وهذه الجوانب هي: الردع العام، والردع الخاص، والإعاقة كما صورها ستيفن لاب (1988) Steven Lab.
الردع العام general deterrence ويهدف إلى منع حدوث جرائم في المستقبل، وفى حالتنا هذه يقصد به انجراف مجمل السكان في تيار التعاون، وقد استخدمت العديد من الأساليب للردع خاصة التهديد باللنش threat of lynching -الإعدام بدون محاكمة قانونية- وإنزال عقوبة الإعدام.
أما في المقابل، فهناك الردع الخاصspecific deterrence وهو موجه إلى الفرد المذنب لمنع حدوث أية مخالفات من قبل ذلك الفرد في المستقبل. ويتم تنفيذه بإنزال العقوبة التي ستنغص عليه استمتاعه بما حصل عليه نتيجة اشتراكه في أعمال إجرامية (التعاون).
أما الإعاقة incapacitation فتهدف أيضاً إلي منع القيام بأية جريمة في المستقبل. ويكون السبيل إلى ذلك بالسيطرة البسيطة على الفرد وذلك بالتسبب في إعاقته الجسدية مما يترتب عليه عدم قدرته على التحرك والاشتراك في أعمال إجرامية في المستقبل (وهو ما نقصد به الحجز). وهذا الحجز يوفر إمكانية السيطرة التامة والمستمرة على الفرد مما يحول دون قيامه بأية تصرفات مسيئة للمجتمع.
3- أشكال العقاب الأخرى (غير القتل)
لقد تم استخدام العديد من أشكال العقاب ضد المتعاونين مع السلطات الإسرائيلية، أو أولئك الذين لم ينضموا إلى المقاطعة الشعبية لإسرائيل. ونورد فيما يلي بعضاً من أساليب العقاب التي لا تؤدى إلى الموت:
التشويه والنبذ الاجتماعي: ويتم تشويه سمعة الشخص بالإعلان عنه بأنه متعاون. وقد كان يتم ذلك بطرق عدة منها كتابة اسم ذلك الشخص على الجدران، الإشارة إلى اسمه في المناشير، الإعلان عنه في المساجد، ويكمن الهدف وراء مثل هذه الأعمال في نبذ المشتبه فيه من قبل الجمهور العام الفلسطيني، وبالتالي شل قدرته على إلحاق الأذى بالمقاومة وبالشعب الفلسطيني بشكل عام. وقد كان يتبع مثل هذا الأسلوب مع المشتبه بقيامهم بمخالفات محدودة نسبياً ولكنها تضمنت أيضاً متعاطي المخدرات ومن لهم سوابق جنائية.
العقاب الجسدي: يتضمن العقاب الجسدي ضد المشتبه بتعاونهم. بإطلاق النار على أرجلهم، وتكسير أطرافهم، وتشريح وجوههم وذلك باستخدام الفؤوس وسكاكين المطبخ وأمواس الحلاقة. وعادة ما كان يتم إنزال مثل هذه العقوبات على مرأى ومسمع من الناس وذلك بغرض ردع من تسول له نفسه القيام بمثل هذه الأعمال.
الإقامة الجبرية: وتتضمن الإقامة الجبرية إصدار أوامر إلى المشتبه فيه بعدم مغادرة بيته لفترة معينة من الوقت. ويهدف هذا الأسلوب إلى عزل المشتبه فيه عن المجتمع مما يحول دون قيامه بأية تصرفات مشينة. وعادة يتم فرض الإقامة الجبرية على ذلك الشخص الذي تعتقد الحركة أنه ينبغي أن تتاح له الفرصة للتفكير ليعيد ترتيب حساباته ويرجع إلى سابق عهده.
4 - أشكـال القتـل
وعلى الرغم من أن المقاومة الفلسطينية استخدمت أساليب ردع ضد المشتبه بتعاونهم فقد قامت أيضاً بقتل أولئك الذين تشتبه فيهم. وعلى الرغم من أننا لم نتمكن من معرفة متى كان يتم تفضيل استخدام أسلوب ما على الآخر، إلا أننا نستطيع القول أنه ومع استمرار الانتفاضة تعالت أصوات المعتدلين الفلسطينيين المطالبة بتحديد وضبط عمليات إنزال عقوبة القتل بالمشتبه بتعاونهم. كما وجدنا صعوبة بالغة في تقدير عدد مرات استخدام أساليب الردع لأنه لم يتم التبليغ عن جميع الحالات وفى معظم الأحيان كانت تلك الأساليب لا تترك أثراً يذكر بخلاف الأمر عند إنزال عقوبة القتل.
قتل في المكان نفسه (على المطرح): أشارت بتسيلم في تقريرها الصادر عام (1994) إلى أنه ووفقاً لشهادات العديد من الشهود وُجد أن أكثر الأساليب شيوعاً في قتل المشتبه بتعاونهم خلال الانتفاضة كان أسلوب القتل في المكان نفسه (على المطرح) بدون تحقيق ولا أية دعاوى قضائية تمهيدية. ووفقاً لهذا الأسلوب يتم قتل المشتبه فيه عمداً ومع سبق الإصرار والترصد، أو بصورة غير مخطط لها مسبقاً، إما في منزله أو في الشارع وذلك بإطلاق النار على الرأس في العادة. كما كان يتم القتل أيضاً بالطعن أو بالفؤوس أو باستخدام أية آلات حادة أخرى.
القتل أثناء التحقيق أو بعد انتهاء التحقيق: ويتم تنفيذ عملية القتل هذه إذا قرر المحقق إنزال عقوبة الإعدام بحق المشتبه بتعاونه. وفي بعض الأحيان، كان يموت المشتبه فيه تحت التعذيب قبل إصدار الحكم عليه، وغالباً ما يكون سبب الوفاة ناجم عن مشاكل في التنفس أو نوبات قلبية. وفى العادة يتم خطف المشتبه فيه إما من بيته أو من الشارع، ومن ثمّ يُقاد إلى التحقيق معه في مكان مجهول.
محاكمات الشعب: وفيها يتم إحضار المشتبه بتعاونه إلى مكان مركزي (وفي العادة يكون هذا المكان إما ساحة عامة أو أي مكان آخر من هذا القبيل) وعلى مرأى ومسمع من الناس. وهناك تتم قراءة اعترافه أو يتم توجيه الأسئلة إليه عن مسألة تعاونه. وبعد ذلك، إذا تم إصدار حكم بالإعدام عليه يتم تنفيذه فيه وذلك عن طريق الضرب أو بالفؤوس والسكاكين أو حتى بإطلاق النار عليه.
اللنش Lynching، الإعدام بدون محاكمة قانونية: في أحيان كثيرة، وخاصة في بداية الانتفاضة، كان يشارك مئات الأشخاص في إعدام متعاونين مسلحين ومعروفين ونذكر على سبيل المثال أنه في 24 فبراير 1988 قام مئات الأشخاص بمحاصرة بيت محمود زكارنة من قباطية لواء جنين حيث قاموا بإلقاء الحجارة على المنزل ومن ثم إحراق المنزل وزكارنة بداخله.
القتل في زنازين الاعتقال: طبقاً للبيانات المتوفرة لدى بتسيلم فإنه ومنذ بداية الانتفاضة قتل 44 من الفلسطينيين المعتقلين في السجـون والمنشآت العسكـرية ومراكز الشرطة ومراكز الاعتقال على يد معتقلين فلسطينيين آخرين اشتبهوا في كونهم متعاونين.
5 - رد الفعل الإسرائيلي على عمليات القتل
ينقسم هذا الجزء إلى قسمين أولهما رد الفعل الإسرائيلي على عمليات القتل وذلك من زاوية ارتباطه بالمتعاونين، وثانيهما من زاوية ارتباطه بالمجتمع الفلسطيني نفسه.
أ. رد الفعل الإسرائيلي على عمليات القتل من زاوية ارتباطه بالمتعاونين
على النقيض من الموقف الفلسطيني المتمثل في نبذ ومعاقبة المشتبه بتعاونهم، تميز الموقف الإسرائيلي باتباعه طرق شتى للدفاع عن المتعاونين وحمايتهم وغالباً ما كان يتم ذلك بمنحهم فرصاً لإعادة دمجهم في المجتمع الإسرائيلي. فدولة إسرائيل تتحمل المسئولية عن رفاهية وأمن جميع سكان المناطق المحتلة. وبالتالي، يقع على عاتق السلطات الإسرائيلية واجب حمايتهم بصورة فعالة فيوجهالاعتداءاتالتي تستهدف حياتهم. وخلال الانتفاضة، انتقل المئات من المتعاونين للعيش داخل إسرائيل. في حين لجأ المئات الآخرين إلي العيش في أماكن معينة داخل المناطق المحتلة وهذه الأماكن هي الفحمة في شمال الضفة الغربية، والدهينية في جنوب قطاع غزة.
الفحمـة:
في بداية السبعينات شرعت إسرائيل في القيام بعملية نقل آلاف الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الفحمة التي تقع في شمال الضفة الغربية بالقرب من جنين والتي كانت فيما مضى عبارة عن معسكر للجيش الأردني. وكان معظم الذين أعيد توطينهم في الفحمة إما من الذين تم إبعادهم من مخيمات اللاجئين في قطاع غزة أو متعاونين انكشفوا وانفضح أمرهم في القطاع.
الدهينيـة:
تقع هذه القرية على الحدود المصرية بالقرب من رفح، وكانت السلطات الإسرائيلية قد أقامتها عام 1975 لأجل إعادة تأهيل البدو الذي أُجلوا عن أراضيهم في تلك المنطقة، وقد انتقلت بضع عشرات من العائلات البدوية للسكن في القرية حيث منحت أراضي من أراضي الدولة لزراعتها، وكانت الحكومة العسكرية التي تولت زمام الأمور في منتصف السبعينات بعد الانسحاب الإسرائيلي من سيناء هي التي قامت ببناء تجمعات المنازل الأولى في هذه القرية. وفى الفترة من 1979-1982 أيضاً أعيد توطين المتعاونين البدو من سيناء في هذه القرية. وتحاط هذه القرية بأسلاك شائكة مكهربة كما يحمل جميع المتعاونين الذين يقطنون فيها تقريباً أسلحة مرخصة. ومع اندلاع الانتفاضة، لجأت اثنا عشر عائلة متعاونين من قطاع غزة إلى الدهينية.
كذلك عملت إسرائيل على منح بضع مئات من المتعاونين تصاريح يومية وتصاريح مبيت داخل إسرائيل. ويعيش معظم هؤلاء في مدن يسكنها عرب ويهود مثل يافا وحيفا والناصرة والقدس. في حين انتقل البعض منهم للسكن في قرى الجليل ومنها شفا عمر وسخنين وطمرة والرامة ومجد الكروم، وفى قرى المثلث ومنها الطيرة، الطيبة، قلنسوة، كفر قاسم، وجلجولية، وأم الفحم، وباقة الغربية، وعرعرة. كما حصل بعض أولئك الذين أعيد تأهيلهم على بطاقات هوية إسرائيلية. وقد اتفق كل من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على مسألة معاملة المتعاونين وحمايتهم حسبما ورد في اتفاقية قطاع غزة ومنطقة أريحا في المادة (20) والمتعلقة بجزئية إجراءات بناء الثقة، حيث نص البند الرابع منها على ما يلي: "مع تولي السلطة الفلسطينية يلتزم الجانب الفلسطيني بحل مشاكل أولئك الفلسطينييـن الذين كانوا على صلة بالسلطة الإسرائيلية. وحتى التوصل إلى حل متفق عليه، يتعهد الجانب الفلسطيني بعدم ملاحقة أولئك الفلسطينيين أو الإضرار بهم بأي طريقة".
ويقدر روني شاكد Roni Shaked من جريدة يديعوت أحرونوت اليومية عدد المتعاونين ما بين (4,000-10,000) متعاون. وقد عملت إسرائيل على إقامة إدارة لتأهيل المتعاونين وذلك بعد التوقيع على اتفاقات أوسلو. حيث تم استيعاب 750 متعاون لحتى الآن. فعملية التأهيل هي عملية طويلة وتدريجية. وتهدف إلى محاولة تعزيز استقلاليتهم والعمل على إيجاد إطار مرجعي لتشغيلهم وتوطينهم. وقد تلقى المتعاونون ومعيلـوهم (زوجاتهم وأطفالهم) دورات بهذا الخصوص وتم تعليمهم على نمط حياة جديدة وذلك بغرض التسريع في دمجهم في المجتمع الإسرائيلي. وتضم طواقم العمل في هذه الإدارة أخصائيين اجتماعيين، وأطباء نفسيين ومرشدين ومحامين. وقد حصل أولئك الذين تم استيعابهم على جوازات سفر إسرائيلية تمكنهم من الانتقال من مكان لآخر وهم يتمتعون بكامل الحقوق الممنوحة لمواطني البلاد. كما يتلقون مخصصات الضمان الاجتماعي ومنح للحصول على سكن.
ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أنه عندما يوافق شخص ما على التعاون لا يوقع علي أية وثيقة أو عقد بهذا الخصوص كما هو الحال بين الموظف وصاحب العمل. وهذه ملاحظة لها أهميتها خاصة عندما نكشف عن النتائج التي توصلنا إليها حول مردود مقتل المدعوين بالمتعاونين على أفراد عائلاتهم.
كما يشير يوسي ألتر Yossi Alterمن صحيفة معاريف اليومية في الثامن من سبتمبر من عام 1995 إلى أنه تم اتخاذ قرار من قبل كل من الحكومة الإسرائيلية وجهاز الأمن العام الإسرائيلي يقضي بإقامة إدارة للمتعاونين الفلسطينيين ولها هيئة توجيه عامة يرأسها الجنرال احتياط مناحيم عينان General (Res.) Menachem Einan. وتتمتع هذه الهيئة بصلاحيات الإدارة والتوجيه والتنسيق بين مكاتبها المختلفة.
ب. رد الفعل الإسرائيلي على عمليات القتل من زاوية ارتباطه بالمجتمع الفلسطيني
لقد قامت السلطات الإسرائيلية بالرد على عمليات القتل الجماعي لمتعاونيها على أيدي الفلسطينيين بإنزال أقصى العقوبات بحق أولئك الذين اشتبه في قتلهم أو معاقبتهم للمتعاونين. وحسب ما أوردته بتسيلم فإن هناك مئات المواطنين العرب الذين تمت محاكمتهم لاشتراكهم في قتل مواطنين آخرين. وبالإضافة إلى صدور أحكام بالسجن لفترات طويلة بحق الفلسطينيين الذين قاموا بإنزال العقاب بالمتعاونين أثناء الانتفاضة فقد قامت السلطات الإسرائيلية أيضاً بإغلاق وهدم منازلهم. وتشير المصادر إلى أنه تم هدم 155 بيت وإغلاق 130 آخرين لهذا السبب.
تعليق