إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

    غسان كنفاني شهادة برائحة برتقال حيفا الحزين .. من يجهل هذا الاسم الذي يعتبر أيقونة ثورة فلسطينية بكتاباته التي شكلت جزء مهم من حالة الوعي التي حولت المخيم الى قاعدة انطلاق نحو الوطن الكامل ..
    ونحن على اعتاب ذكرى اغتياله بتاريخ 8/7 /1972 . لابد من وقفة لنجمع فيها شيئاً ولو يسيراً من حضوره الأدبي العميق .. وحتى لا ينتصرالانفجار الآثم الذي أودى بحياته مع ابنه شقيقه لميس ..

    هيك فلّ من عنّا اخر مرة حدا فكر يسحب سلاح المقاومة ! << يقول لبنانيون ..

  • #2
    رد: وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

    ["]غسان من قرع جدار الخزان في صحراء التيه العربي
    غسان من بكى غزة .. بكاها في طفولتها المبتورة
    غسان من انتزع من مأساة المخيم الموهبة المتجسدة في ريشة ناجي العلي
    غسان من كان حاداً في الحق فلا يماري فكان صاحب الرصاصة الكلمة فقابلتها يد الغدر الصهيونية بالانفجار المفجع في بيروت !!


    همسة ::

    - قد لا نقدم في هذا الموضوع الجديد لان المشاركات والمساهمات في مجملها ستكون منقولة عن مواقع نتاج البحث ، ولكن جدواه لاسباب التالية .
    - القسم الادبي لا بدََّ وان يحضر فيه علماً بحجم غسان كنفاني ..
    فالاحتفاء فيه يعني الاحتفاء في فلسطين .
    - قد يكون الكثيرين منكم سمع باسمه ولكن لم يقرأ عنه ولم يقرأ له ..
    - حتى لا يبقى الشهيد العلم رهين حزبه واصحاب فكره بل هو لفلسطين بمختلف فصائلها واختلافاتها الفكرية ؛ لذا لابد ان نعرف أكثر رموز وطنية ساهمت في تشكيل حالة الوعي وابتعاث ارادة الصمود والتحدي في وجدان كل فلسطيني وهنا نحن امام غسان كنفاني نقف امام بطولة وتاريخ اخر لفصيل اخر وهو الجبهة الشعبية للتحرير فلسطين ..


    ..[/color]

    هيك فلّ من عنّا اخر مرة حدا فكر يسحب سلاح المقاومة ! << يقول لبنانيون ..

    تعليق


    • #3
      رد: وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

      ولد الشهيد غسان كنفاني عام 1936 في مدينة عكا بفلسطين..وهو عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين..عرفته جماهيرنا صحفياً تقدمياً جريئاً، دخل السجن نتيجة جرأته في الدفاع عن القضايا الوطنية أكثر من مرة.


      [color="rgb(65, 105, 225)"]نشأته وحياته





      والده:

      خرج أبوه من أسرة عادية من أسر عكا وكان الأكبر لعدد غير قليل من الأشقاء، وبما أن والده لم يكن مقتنعاً بجدوى الدراسات العليا فقد أراد لابنه أن يكون تاجراً أو كاتباً أو متعاطياً لأي مهنة عادية ولكن طموح الابن أبي عليه إلا أن يتابع دراسته العالية فالتحق بمعهد الحقوق بالقدس في ظروف غير عادية.صفر اليدين من النقود وحتى من التشجيع فما كان عليه إلا أن يتكل علي جهده الشخصي لتأمين حياته ودراسته فكان تارة ينسخ المحاضرات لزملائه وتارة يبيع الزيت الذى يرسله له والده ويشترى بدل ذلك بعض الكاز والمأكل، ويشارك بعض الأسر في مسكنها، إلى أن تخرج كمحام.وعاد إلي عكا ليتزوج من أسرة ميسورة ومعروفة ويشد رحاله للعمل في مدينة يافا حيث مجال العمل أرحب وليبني مستقبله هناك.

      وكافح هناك وزوجته إلى جانبه تشد أزره وتشاركه فى السراء والضراء ونجح وكان يترافع فى قضايا معظمها وطني خاصة أثناء ثورات فلسطين واعتقل مرارا كانت إحداها بإيعاز من الوكالة اليهودية.

      وكان من عادة هذا الشاب تدوين مذكراته يوماً بيوم وكانت هذه هى أعز ما يحتفظ به من متاع الحياة وينقلها معه حيثما حل أو ارتحل، وكثيراً ما كان يعود إليها ليقرأ لنا بعضها ونحن نستمتع بالاستماع الى ذكريات كفاحه، فقد كان فريدا بين أبناء جيله، وكان هذا الرجل العصامي ذو الآراء المتميزة مثلاً لنا يحتذي.
      هذا هو والد غسان كنفاني الذى كان له بدون شك أثر كبير فى حياة ثالث أبنائه غسان.


      [color="rgb(65, 105, 225)"]غسان الطفل:
      [/color]

      هو الوحيد بين أشقائه ولد في عكا، فقد كان من عادة أسرته قضاء فترات الأجازة والأعياد فى عكا، ويروى عن ولادته أن أمه حين جاءها المخاض لم تستطع أن تصل إلى سريرها قبل أن تضع وليدها وكاد الوليد يختنق بسبب ذلك وحدث هذا فى التاسع من نيسان عام 1936.

      كان من نصيب غسان الالتحاق بمدرسة ألفريد بيافا وكنا نحسده لأنه يدرس اللغة الفرنسية زيادة عما ندرسه نحن.ولم تستمر دراسته الابتدائية هذه سوى بضع سنوات.فقد كانت أسرته تعيش في حي المنشية بيافا وهو الحي الملاصق لتل أبيب وقد شهد أولى حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود التى بدأت هناك إثر قرار تقسيم فلسطين.لذلك فقد حمل الوالد زوجته وأبناءه وأتي بهم إلي عكا وعاد هو إلى يافا، أقامت العائلة هناك من تشرين عام 47 إلى أن كانت إحدى ليالي أواخر نيسان 1948 حين جري الهجوم الأول على مدينة عكا.بقي المهاجرون خارج عكا على تل الفخار (تل نابليون) وخرج المناضلون يدافعون عن مدينتهم ووقف رجال الأسرة أمام بيت جدنا الواقع في أطراف البلد وكل يحمل ما تيسر له من سلاح وذلك للدفاع عن النساء والأطفال إذا اقتضى الأمر.

      ومما يذكر هنا أن بعض ضباط جيش الإنقاذ كانوا يقفون معنا وكنا نقدم لهم القهوة تباعا علما بان فرقتهم بقيادة أديب الشيشكلي كانت ترابط في أطراف بلدتنا.وكانت تتردد على الأفواه قصص مجازر دير ياسين ويافا وحيفا التي لجأ أهلها إلى عكا وكانت الصور ما تزال ماثلة فى الأذهان.فى هذا الجو كان غسان يجلس هادئاً كعادته ليستمع ويراقب ما يجري.

      استمرت الاشتباكات منذ المساء حتى الفجر وفي الصباح كانت معظم الأسر تغادر المدينة وكانت أسرة غسان ممن تيسر لهم المغادرة مع عديد من الأسر في سيارة شحن إلى لبنان فوصلوا إلى صيدا وبعد يومين من الانتظار استأجروا بيتاً قديما في بلدة الغازية قرب صيدا في أقصى البلدة علي سفح الجبل، استمرت العائلة في ذلك المنزل أربعين يوما في ظروف قاسية اذ أن والدهم لم يحمل معه إلا النذر اليسير من النقود فقد كان أنفقها فى بناء منزل في عكا وآخر في حي العجمي بيافا وهذا البناء لم يكن قد انتهي العمل فيه حين اضطروا للرحيل.

      من الغازية انتقلوا بالقطار مع آخرين إلى حلب ثم إلى الزبداني ثم إلى دمشق حيث استقر بهم المقام في منزل قديم من منازل دمشق وبدأت هناك مرحلة أخرى قاسية من مراحل حياة الأسرة.غسان فى طفولته كان يلفت النظر بهدوئه بين جميع إخوته وأقرانه ولكن كنا نكتشف دائماً أنه مشترك فى مشاكلهم ومهيأ لها دون أن يبدو عليه ذلك.

      [color="rgb(65, 105, 225)"]
      غسان اليافع:[/color]



      فى دمشق شارك أسرته حياتها الصعبة، أبوه المحامي عمل أعمالاً بدائية بسيطة، أخته عملت بالتدريس، هو وأخوه صنعوا أكياس الورق، ثم عمالاً، ثم قاموا بكتابة الاستدعاءات أمام أبواب المحاكم وفي نفس الوقت الذي كان يتابع فيه دروسه الابتدائية.بعدها تحسنت أحوال الأسرة وافتتح أبوه مكتباً لممارسة المحاماة فأخذ هو إلى جانب دراسته يعمل في تصحيح البروفات في بعض الصحف وأحياناً التحرير واشترك فى برنامج فلسطين في الإذاعة السورية وبرنامج الطلبة وكان يكتب بعض الشعر والمسرحيات والمقطوعات الوجدانية.

      وكانت تشجعه على ذلك وتأخذ بيده شقيقته التى كان لها في هذه الفترة تأثير كبير علي حياته.وأثناء دراسته الثانوية برز تفوقه في الأدب العربي والرسم وعندما أنهى الثانوية عمل في التدريس في مدارس اللاجئين وبالذات فى مدرسة الاليانس بدمشق والتحق بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي وأسند إليه آنذاك تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي وكان معظم ما عرض فيه من جهد غسان الشخصي.وذلك بالإضافة إلى معارض الرسم الاخري التى أشرف عليها.

      وفي هذا الوقت كان قد انخرط في حركة القوميين العرب وأترك الكلام هنا وعن حياته السياسية لرفاقه ولكن ما أذكره انه كان يضطر أحيانا للبقاء لساعات متأخرة من الليل خارج منزله مما كان يسبب له إحراجا مع والده الذي كان يحرص علي إنهائه لدروسه الجامعية وأعرف أنه كان يحاول جهده للتوفيق بين عمله وبين إخلاصه ولرغبة والده.

      قي أواخر عام 1955 التحق للتدريس في المعارف الكويتية وكانت شقيقته قد سبقته في ذلك بسنوات وكذلك شقيقه.وفترة إقامته في الكويت كانت المرحلة التى رافقت إقباله الشديد والذي يبدو غير معقول على القراءة وهى التى شحنت حياته الفكرية بدفقة كبيرة فكان يقرأ بنهم لا يصدق.كان يقول انه لا يذكر يوماً نام فيه دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن ستماية صفحة وكان يقرأ ويستوعب بطريقة مدهشة.

      وهناك بدأ يحرر في إحدى صحف الكويت ويكتب تعليقا سياسياً بتوقيع "أبو العز" لفت إليه الأنظار بشكل كبير خاصة بعد أن كان زار العراق بعد الثورة العراقية عام 58 على عكس ما نشر بأنه عمل بالعراق.

      في الكويت كتب أيضاً أولي قصصه القصيرة "القميص المسروق" التى نال عليها الجائزة الأولي في مسابقة أدبية.
      ظهرت عليه بوادر مرض السكري فى الكويت أيضاً وكانت شقيقته قد أصيبت به من قبل وفي نفس السن المبكرة مما زاده ارتباطاً بها وبالتالي بابنتها الشهيدة لميس نجم التى ولدت في كانون الثاني عام 1955.فأخذ غسان يحضر للميس في كل عام مجموعة من أعماله الأدبية والفنية ويهديها لها وكانت هى شغوفة بخالها محبة له تعتز بهديته السنوية تفاخر بها أمام رفيقاتها ولم يتأخر غسان عن ذلك الا فى السنوات الأخيرة بسبب ضغط عمله.

      عام 1960 حضر غسان إلى بيروت للعمل في مجلة الحرية كما هو معروف.



      غسان الزوج:



      بيروت كانت المجال الأرحب لعمل غسان وفرصته للقاء بالتيارات الأدبية والفكرية والسياسية.

      بدأ عمله في مجلة الحرية ثم أخذ بالإضافة إلى ذلك يكتب مقالاً أسبوعيا لجريدة "المحرر" البيروتية والتي كانت ما تزال تصدر أسبوعية صباح كل اثنين.
      لفت نشاطه ومقالاته الأنظار إليه كصحفي ومفكر وعامل جاد ونشيط للقضية الفلسطينية فكان مرجعاً لكثير من المهتمين.
      عام 1961 كان يعقد فى يوغوسلافيا مؤتمر طلابي اشتركت فيه فلسطين وكذلك كان هناك وفد دانمركي.كان بين أعضاء الوفد الدانمركي فتاة كانت متخصصة في تدريس الأطفال.
      قابلت هذه الفتاة الوفد الفلسطيني ولأول مرة سمعت عن القضية الفلسطينية.

      واهتمت الفتاة اثر ذلك بالقضية ورغبت فى الإطلاع عن كثب على المشكلة فشدت رحالها إلى البلاد العربية مرورا بدمشق ثم إلى بيروت حيث أوفدها أحدهم لمقابلة غسان كنفاني كمرجع للقضية وقام غسان بشرح الموضوع للفتاة وزار وإياها المخيمات وكانت هى شديدة التأثر بحماس غسان للقضية وكذلك بالظلم الواقع على هذا الشعب.ولم تمض على ذلك عشرة أيام إلا وكان غسان يطلب يدها للزواج وقام بتعريفها علي عائلته كما قامت هي بالكتابة إلى أهلها.
      وقد تم زواجهما بتاريخ 19 أكتوبر 1961ورزقا بفايز في 24/8/1962 وبليلي فى 12/11/1966.

      بعد أن تزوج غسان انتظمت حياته وخاصة الصحية اذ كثيراً ما كان مرضه يسبب له مضاعفات عديدة لعدم انتظام مواعيد طعامه.

      عندما تزوج غسان كان يسكن في شارع الحمراء ثم انتقل إلى حى المزرعة، ثم إلى مار تقلا أربع سنوات حين طلب منه المالك إخلاء شقته قام صهره بشراء شقته الحالية وقدمها له بإيجار معقول.

      وفي بيروت أصيب من مضاعفات السكري بالنقرس وهو مرض بالمفاصل يسبب آلاماً مبرحة تقعد المريض أياماً.ولكن كل ذلك لم يستطع يوماً أن يتحكم في نشاطه أو قدرته على العمل فقد كان طاقة لا توصف وكان يستغل كل لحظة من وقته دون كلل.

      وبرغم كل انهماكه في عمله وخاصة في الفترة الأخيرة إلا أن حق بيته وأولاده عليه كان مقدساً.كانت ساعات وجوده بين زوجته وأولاده من أسعد لحظات عمره وكان يقضى أيام عطلته (إذا تسنى له ذلك يعمل فى حديقة منزله ويضفي عليها وعلى منزله من ذوق الفنان ما يلفت النظر رغم تواضع قيمة موجوداته.



      غسان القضية:


      أدب غسان وإنتاجه الأدبي كان متفاعلا دائما مع حياته وحياة الناس وفي كل ما كتب كان يصور واقعا عاشه أو تأثر به.

      "عائد إلى حيفا"، عمل وصف فيه رحلة مواطني حيفا في انتقالهم إلى عكا؛ وقد وعي ذلك، وهو ما يزال طفلاً يجلس ويراقب ويستمع. ثم تركزت هذه الأحداث في مخيلته فيما بعد من تواتر الرواية.

      "أرض البرتقال الحزين"، تحكى قصة رحلة عائلته من عكا وسكناهم في الغازية. "موت سرير رقم 12"، استوحاها من مكوثه بالمستشفي بسبب المرض. "رجال في الشمس" من حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت واثر عودته إلى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، كانت المعاناة ووصفها هى تلك الصورة الظاهرية للأحداث أما في هدفها فقد كانت ترمز وتصور ضياع الفلسطينيين فى تلك الحقبة وتحول قضيتهم إلى قضية لقمة العيش مثبتاً أنهم قد ضلوا الطريق.
      فى قصته "ما تبقي لكم"، التي تعتبر مكملة "لرجال في الشمس"، يكتشف البطل طريق القضية، في أرض فلسطين وكان ذلك تبشيراً بالعمل الفدائي.

      قصص "أم سعد" وقصصه الاخري كانت كلها مستوحاة من ناس حقيقيين. في فترة من الفترات كان يعد قصة ودراسة عن ثورة 36 في فلسطين فأخذ يجتمع إلى ناس المخيمات ويستمع إلى ذكرياتهم عن تلك الحقبة، والتي سبقتها والتي تلتها، وقد أعد هذه الدراسة لكنها لم تنشر (نشرت في مجلة شؤون فلسطين) أما القصة فلم يكتب لها أن تكتمل بل اكتمل منها فصول نشرت بعض صورها في كتابه "عن الرجال والبنادق".

      كانت لغسان عين الفنان النافذة وحسه الشفاف المرهف فقد كانت في ذهنه في الفترة الأخيرة فكرة مكتملة لقصة رائعة استوحاها من مشاهدته لأحد العمال وهو يكسر الصخر فى كاراج البناية التى يسكنها وكان ينوى تسميتها "الرجل والصخر".


      [color="rgb(65, 105, 225)"]غسان الرائد:[/color]


      تجب وضع دراسة مفصلة عن حياة غسان الأدبية والسياسية والصحفية ولكننا في هذه العجالة نكتفي بإيراد أمثلة عن ريادته بذكر بعض المواقف في حياته وعتها الذاكرة:
      كان غسان أول من كتب عن حياة أبناء الخليج المتخلفة ووصف حياتهم وصفاً دقيقا مذهلا وذلك في قصته "موت سرير رقم 12"، ولا أستطيع أن أؤكد إذا كان سواه قد كتب عن ذلك من بعده.

      فى أوائل ثورة الـ 58 بالعراق أيام حكم عبد الكريم قاسم زار غسان العراق ورأى بحسه الصادق انحراف النظام فعاد وكتب عن ذلك بتوقيع "أبو العز" مهاجما العراق فقامت قيامة الأنظمة المتحررة ضده إلى أن ظهر لهم انحراف الحكم فعلا فكانوا أول من هنأوه على ذلك مسجلين سبقه في كتاب خاص بذلك.

      بعد أن استلم رئاسة تحرير جريدة "المحرر" اليومية استحدث صفحة للتعليقات السياسية الجادة وكانت على ما أذكر الصفحة الخامسة وكان يحررها هو وآخرون.ومنذ سنة تقريبا استحدثت إحدى كبريات الصحف اليومية فى بيروت صفحة مماثلة وكتب من كتب وأحدهم أستاذ صحافة فى الجامعة الأميركية كتبوا في تقريظ هذه الصفحة وساءني أن يجهل حتى المختصون بالصحافة أن غسان قام بهذه التجربة منذ سنوات.

      لا أحد يجهل أن غسان كنفاني هو أول من كتب عن شعراء المقاومة ونشر لهم وتحدث عن أشعارهم وعن أزجالهم الشعبية فى الفترات الأولى لتعريف العالم العربي على شعر المقاومة، لم تخل مقالة كتبت عنهم من معلومات كتبها غسان وأصبحت محاضرته عنهم ومن ثم كتابه عن "شعراء الأرض المحتلة" مرجعا مقررا فى عدد من الجامعات وكذلك مرجعا للدارسين.

      الدراسة الوحيدة الجادة عن الأدب الصهيونى كانت لغسان ونشرتها مؤسسة الأبحاث بعنوان "في الأدب الصهيوني". أشهر الصحافيين العرب يكتب الآن عن حالة اللا سلم واللا حرب ولو عدنا قليلا إلى الأشهر التى تلت حرب حزيران 67 وتابعنا تعليقات غسان السياسية فى تلك الفترة لوجدناه يتحدث عن حالة اللا سلم واللا حرب أى قبل سنوات من الاكتشاف الأخير الذى تحدثت عنه الصحافة العربية والأجنبية.

      إننا نحتاج إلى وقت طويل قبل أن نستوعب الطاقات والمواهب التى كان يتمتع بها غسان كنفاني. هل نتحدث عن صداقاته ونقول أنه لم يكن له عدو شخصي ولا في أى وقت وأي ظرف أم نتحدث عن تواضعه وهو الرائد الذى لم يكن يهمه سوى الإخلاص لعمله وقضيته أم نتحدث عن تضحيته وعفة يده وهو الذى عرضت عليه الألوف والملايين ورفضها بينما كان يستدين العشرة ليرات من زملائه.ماذا نقول وقد خسرناه ونحن أشد ما نكون فى حاجة إليه، إلى إيمانه وإخلاصه واستمراره على مدى سنوات في الوقت الذى تساقط سواه كأوراق الخريف يأساً وقنوطا وقصر نفس.

      كان غسان شعباً في رجل، كان قضية، كان وطناً، ولا يمكن أن نستعيده إلا إذا استعدنا الوطن.[/color]

      هيك فلّ من عنّا اخر مرة حدا فكر يسحب سلاح المقاومة ! << يقول لبنانيون ..

      تعليق


      • #4
        رد: وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

        ورقة من غزة - غسان كنفاني

        القصة القصيرة للأديب الشهيد غسان كنفاني من مجموعة "أرض البرتقال الحزين"


        عزيزي:استلمت رسالتك الآن، و فيها تخبرني أنك أتممتَ لي كل ما أحتاج إليه ليدعم إقامتي معك في ساكرمنتو، وكذلك وصلني ما يشعر أنني قبلت في فرع الهندسة المدنية في جامعة كاليفورنيا، لابد لي يا صديقي من شكرك على كل شيء، لكن سيبدو لك غريبا بعض الشيء، أن أزف إ ليك هذا النبأ، وثق تماما يا مصطفى أنني لا أشعر بالتردد قط، بل أكاد أجزم أنني لم أر الأمور بهذا الوضوح أكثر مني الساعة، لا يا صديقي: لقد غيرت رأيي، فأنا لن أتبعك "إلى حيث الخضرة والماء والوجه الحسن " كما كتبت، بل سأبقى هنا، ولن أبرح أبدا.إنه لشيء يزعجني حقيقة، يا مصطفى، أن لا نكمل ذلك الجريان لحياتينا في خط واحد، فإني أكاد أسمعك تذكرني بعهدنا على الاستمرار معا، وكيف كنا نهتف: "سنصيرأغنياء"، ولكن يا صديقي ليس في يدي حيلة، نعم، إنني لا زلت أذكر تماماَ يوم وقفتُ في ساحة المطار في القاهرة، أشد على يدك وأحدق في المحرك المجنون، كان كل شيء ساعتئذ يدور مع المحرك ذلك الدوران الصاخب، وكنتَ أنت تقف أمامي، بوجخك المليء الصامت، لم يتغير وجهك عن الوجه الذي نشأت به في حي "الشجاعية" في غزة، لولا هذه الغضون المسطحة، قد نشأنا معا، وكان واحدنا يفهم الاخر تمام الفهم، وتعاهدنا على الاستمرار معا الى النهاية.. ولكن:ـــ "بقي ربع ساعة وستقلع الطائرة، لا تحدق هكذا باللاشيء، اسمعني، ستذهب في العام القادم الى الكويت، وستوفر من راتبك ما يقتلعك من غزة الى كاليفورنيا، لقد بدأنا معا، ويجب أن نستمر.. "و كنتُ لحظتذاك أرقب شفتيك وهما تتحركان بسرعة، هكذا كانت طريقتك في الكلام: لا فواصل ولا نقاط، لكنني كنت أحس إحساسا غامضا أنك غير راض تماما عن هروبك، لم تكن تستطيع أن تعد ثلاثة أسباب وجيهة لهذا الهروب، وكنت أعاني أنا أيضا من هذا التمزق، ولكن الشعور الأوضح كان: لماذا لا نترك هذه الغزة ونهرب.. لماذا؟ الا أن وضعك كان قد أخذ يتحسن: فلقد تعاقدتْ معك معارف الكويت دون أن تتعاقد معي، وفي غمرة من البؤس الذي كنت أعيش فيه، كانت تصلني منك في بعض الأحيان مبالغ صغيرة، كنت تريدني أن أعتبرها دينا، خوف أن أشعر بالصغار، بقد كنتَ تعرف ظروفي العائلية تماما، وكنت تعرف أن راتبي الضئيل في مدارس وكالة الغوث الدولية لم يكن يكفي لإعالة أمي، وزوجة أخي الأرملة وأولادها الأربعة.ــ " اسمعني جيدا، أكتب لي كل يوم.. كل ساعة.. كل دقيقة، لقد أوشكت الطائرة أن تطير، استودعك الله، بل قل الى اللقاء..الى اللقاء".ومست شفاهك الباردة وجنتي، وأدرت عني وجهك ميمماً شطر الطائرة، وعندما التفت الي مرة ثانية كنت أرى دموعك..وبعدها تعاقدت معي معارف الكويت، لا داعي لأن أكرر عليك كيف كانت تجري تفاصيل حياتي هناك، فلقد كنت أكتب لك دائما عن كل شيء، كانت حياتي دبقة، فارغة، كمحارة صغيرة: ضياع في الوحدة الثقيلة، وتنازع بطيء مع مستقبل غامض كأول الليل، وروتين عفن، ونضال ممزوج مع الزمن، كل شيء كان لزجا حارا، كانت حياتي كلها زلقة، كلها توق الى آخر الشهر!وفي منتصف العام، ذلك العام، ضرب اليهود مركز الصبحة، وقذفوا غزة، غزتنا، بالقنابل واللهب، كان يمكن أن يغير لي هذا الحدث شيئاً من الروتين، لكنه لم يكن لي ما آبه له كثيرا: فأنا سأخلف هذه الغزة ورائي، وسأمضي الى كاليفورنيا أعيش لذاتي التي تعذبت طويلا، انني أكره غزة، ومن في غزة: كل شيء في البلد المقتول يذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي انسان مريض، نعم، لقد كنت أرسل لأمي، ولأرملة أخي وأولادها، مبالغ ضئيلة تعينهم على الحياة, لكنني – أيضا- سأتحرر من هذا الخيط الأخير، هناك، في كاليفورنيا الخضراء البعيدة عن رائحة الهزيمة التي تزكم أنفي منذ سبع سنوات.. ان الشفقة التي تربطني بأولاد أخي وأمهم وأمي، لاتكفي أبدا لتبرير جريان ماساتي هذا الجريان الشاقولي.. لا يمكن أن تشدني الى تحت.. أكثر مما شدتني.. يجب أن أهرب!أنت تعرف يا مصطفى هذه الأحاسيس، لأنك عشتها فعلا: ما هذا الشيء الغامض الذي كان يربطنا الى غزة فيحد من حماسنا الى الهروب؟ لماذا لا نشرح الأمر تشريحا يعطيه معنى واضحا، لماذا لا نترك هذه الهزيمة، بجراحها، ونمضي الى حياة أكثر ألوانا وأعمق سلوى... لماذا؟ لم نكن ندري بالضبط !وعندما أخذت إجازتي في حزيران، وجمعت كل ما أملك توقا إلى الانطلاقة الحلوة، إلى هذه الأشياء الصغيرة التي تعطي الحياة معنى لطيفا ملونا، وجدت غزة كما تعهدها تماما: انغلاقا كأنه غلاف داخلي، لتف على نفسه، لقوقعة صدئة قذفها الموج الى الشاطيء الرملي اللزج قرب المسلخ، غزة هذه، أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة، ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر، وبيوتها ذوات المشارف الناتئة..هذه غزة، لكن ما هي هذه الأمور الغامضة، غير المحددة، التي تجذب الإنسان لأهله، لبيته، لذكرياته، كما تجذب النبعة قطيعا ضالا من الوعول؟ لا أعرف! وكل الذي أعرف أنني ذهبت لأمي في دارنا ذلك الصباح، وهناك قابلتني زوجة أخي المرحوم ساعة وصولي، وطلبت مني وهي تبكي، أن ألبي رغبة نادية ابنتها الجريحة، في مستشفى غزة، فأزورها ذلك المساء.أنت تعرف نادية ابنة أخي الجميلة ذات الأعوام الثلاثة عشر؟في ذلك المساء اشتريت رطلا من التفاح، ويممت شطر المستشفى أزور نادية..كنت أعرف أن في الأمر شيئا أخفته عني أمي وزوجة أخي، شيئا لم تستطيعا أن تقولاه بألسنتهما..شيئا عجيبا لم أستطع أن أحدد أطرافه البتة! لقد اعتدت أن أحب نادية، اعتدت أن أحب كل ذلك الجيل الذي رضع الهزيمة والتشرد إلى حد حسب فيه أن الحياة السعيدة ضرب من الشذوذ الاجتماعي.ماذا حدث في تلك الساعة؟ لا أدري!لقد دخلت الغرفة البيضاء بهدوء جم، إن الطفل المريض يكتسب شيئا من القداسة، فكيف إذا كان الطفل مريضا إثر جراح قاسية مؤلمة؟.كانت نادية مستلقية على فراشها، وظهرها معتمد على مسند أبيض انتثر عليه شعرها، كفروة ثمينة، كان في عينيها الواسعتين صمت عميق، ودمعة هي أبدا في قاع بؤبئها الأسود البعيد، وجهها كان هادئا ساكنا، لكنه موح كوجه نبي معذب،لا زالت نادية طفلة..لكنها كانت تبدو أكثر من طفلة، أكثر بكثير، وأكبر من طفلة ، أكبر بكثير..ــ نادية..لا أدري، هل أنا الذي قلتها، أم إنسان آخر خلفي؟ لكنها رفعت عينيها نحوي ، وشعرت بهما تذيباني كقطعة من السكر سقطت في كوب شاي ساخن، ومع بسمتها الخفيفة سمعت صوتها:ــ عمي.. وصلت من الكويت؟وتكسر صوتها في حنجرتها، ورفعت نفسها متكئة على كفيها، ومدت عنقها نحوي، فربت على ظهرها، وجلست قربها:ــ نادية، لقد أحضرت لك هدايا من الكويت، هدايا كثيرة سأنتظرك إلى حين تنهضين من فراشك سالمة معافاة، وتأتين داري فأسلمك إياها، ولقد اشتريت لك البنطال الأحمر الذي أرسلت تطلبينه مني..نعم..لقد اشتريته..كانت كذبة ولدها الموقف المتوتر..وشعرت وأنا ألفظها كأنني أتكلم الحقيقة لأول مرة، أما نادية فقد ارتعشت كمن مسه تيار صاعق، وطأطأت رأسها بهدوء رهيب، وأحسست بدمعها يبلل ظاهر كفي:ــ قولي يا نادية..ألا تحبين البنطال الأحمر؟ورفعت بصرها نحوي، وهمت أن تتكلم، لكنها كفت، وشدت على أسنانها، وسمعت صوتها مرة أخرى من بعيد:ــ يا عمي!ومدت كفها، فرفعت بأصابعها الغطاء الأبيض ، وأشارت إلى ساق مبتورة من أعلى الفخذ...يا صديقي..أبداً لن أنسى ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ،لا ، ولن أنسى الحزن الذي هيكل وجهها واندمج في تقاطيعه الحلوة الى الأبد.. لقد خرجت يومها من المستشفى الى شوارع غزة، وأنا أشد باحتقار صارخ على الجنيهين اللذين أحضرتهما معي لأعطيهما لنادية، كانت الشمس الساطعة تملأ الشوارع بلون الدم .. كانت غزة، يا مصطفى، جديدة كل الجدة، ابداً لم نرها هكذا أنا وأنت: الحجارة المركومة على أول حي الشجاعية، حيث كنا نسكن، كان لها معنى كأنما وضعت هناك لتتشرحه فقط، غزة هذه، التي عشنا فيها ومع رجالها الطيبين سبع سنوات في النكبة كانت شيئا جديدا، كانت تلوح لي أنها.. بداية فقط، لا أدري لماذا كنت أشعر أنها بداية فقط، كنت أتخيل أن الشارع الرئيسي، وأنا أسير فيه عائدا إلى داري، لم يكن إلا بداية صغيرة لشارع طويل طويل يصل إلى صفد، كل شيء كان في غزة هذه ينتفض حزنا على ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، حزنا لا يقف على حدود البكاء، إنه التحدي، بل أكثر من ذلك، إنه شيء يشبه استرداد الساق المبتورة!..لقد خرجت إلى شوارع غزة، شوارع يملؤها ضوء الشمس، لقد قالوا لي أن نادية فقدت ساقها عندما ألقت بنفسها فوق اخوتها الصغار تحميهم من القنابل واللهب، وقد أنشبا أظفارهما في الدار، كانت نادية تستطيع أن تنجو بنفسها، أن تهرب…أن تنقذ ساقها، لكنها لم تفعل..لماذا؟لا يا صديقي! لن آتي لسكرمنتو، وأنا لست آسفا البتة، لا ولن أكمل ما بدأناه معا منذ طفولتنا: هذا الشعور الغامض الذي أحسسته وأنت تغادر غزة.. هذا الشعور الصغير يجب أن ينهض عملاقا في أعماقك.. يجب أن يتضاخم، يجب أن تبحث عنه كي تجد نفسك.. هنا بين أنقاض الهزيمة البشعة..لن آتي إليك..بل عد أنت لنا..عد.. لتتعلم من ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ،ما هي الحياة.. وما قيمة الوجود..عد يا صديقي..فكلنا ننتظرك.
        .

        هيك فلّ من عنّا اخر مرة حدا فكر يسحب سلاح المقاومة ! << يقول لبنانيون ..

        تعليق


        • #5
          رد: وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

          المدفع


          لقد عرفه الجميع ...وكادوا أن يعهدوا وجهه كجزء لا ينفصل عن القرية كلها: وجهه المربع يعترضه حاجبان يتصلان ببعضهما باخدود يعين طرف انفه العلوي، وانفه المفلطح تدور باسفله دائرتان واسعتان فوق شارب رمادي كثيف، يتدلى، فيخفي شفته العليا ... اما ذقنه فلقد كانت عريضة حادة، كانها قطعت لتوها من صدره، ومن ثم، بردت رقبته الثخينة بردا.
          ان سعيد الحمضوني نادرا ما يتكلم عن ماضيه، انه دائما يتحدث عما سياتي، وما ينفك يعتقد ان غدا سيكون احسن من اليوم، ولكن اهل(السلمة) يتناقلون فيما بينهم، بشيء كثير من المبالغة، اخبار سعيد الحمضوني ايام كان يقود حركات ثورية في 1936، يقولون-هناك في القرية- ان سعيدا اطلق سراحه من المعتقل لانه لم يدن .. ويقال انه لم يقبض عليه بعد، ومهما يكن، فهو الان يملأ القرية، ويربط الصبيان كل احاسيسهم وتخيلاتهم التي يرسمونها للرجل الممتاز .. وليد المغامرة القاسية ...
          لقد عاد سعيد مؤخرا من يافا، واحضر معه رشاشا من طراز(الماشينغن) كان قد قضي قرابة اسبوع كامل يجمع ثمنه من التبرعات، ومع ان سكان السلمة كانوا على يقين كبير ان ثمن مدفع من هذا الطراز لا يمكن انيجمع من التبرعات، فلقد اثروا ان يسكتوا، لان وصول المدفع الرائع اهم بكثير جدا من طريقة وصوله، فالقرية في اشد الحاجة الى اي نوع من انواع السلاح، فكيف اذا حصلت على سلاح من نوع جيد؟..
          لقد عرف سعيد الحمضوني ماذا يشتري! ان هذا المدفع، مدفع (الماشينغن ) كفيل برد اي هجوم يهودي مسعور، انه نوع راق من السلاح، والقرية في اشد الحاجة اليه.. فلماذا يفكرون في طريقة و صول المدفع ؟ . ولكن سكوت رجال السلمة، لا يعني سكوت نسائها، لقد بقيت المشكلة بالنسبة لهن تلح الحاحا قاسيا، ولما لم يجدن من يدلهن على حقيقة الأمر، استطعن ان يقنعن انفسهن، ان سعيد الحمضوني كان قد سلم في ثورة 1936 مدفعا من هذا الطراز ابلى من خلفه بلاءا حسنا، ثم خبأه في الجبال الى ان ان اوان استعماله من جديد .. ولكن التساؤل بقي متضمنا في اعمق اعماق السلمة، لم يكن من اليسير ان يجمع الانسان ثمن مدفع من طراز الماشينغن ..
          اذن فمن اين اتى سعيد الحمضوني بهذا المدفع ؟ نعم .من اين؟
          المهم .. ان هذا المدفع الاسود صار قوة هائلة تكمن في نفوس اهل السلمة، و هو يعني بالنسبة لهم اشياء كثرة، اشياء كثيرة يعرفونها، واشياء اكثر لا يعرفونها .. ولكنهم يشعرون بها، هكذا، في ابهام مطمئن .. ان كل كهل و كل شاب في السلمة، صار يربط حياته ربطا وثيقا بوجود هذا المدفع، وصار من صوته المتتابع الثقيل، اثناء تجربته في كل امسيتين، نوعا من الشعور بالحماية..
          وكما يرتبط الشيء بالاخر، اذا تلازما، ربط الناس صورة المدفع بوجه سعيد الحمضوني المربع، لم تعد تجد من يفصل هذا عن ذاك في حديث الدفاع عن السلمة، ان سعيد الحمضوني اصبح الان ضرورة مكملة .. بل اساسية، للمدفع، وعندما يتحدث الناس عن سعيد، كانوا يشعرون انه اداة من ادوات المدفع المعقدة .. شيء كحبل الرصاص، كقائمتي المدفع .. كالماسورة: كل متماسك لا تنفصل اطرافه عن بعضها . بل واكثر من ذلك، لقد صار يربط سعيد الحمضوني حياته نفسها ربطا شديدا بوجود المدفع . كان المدفع يعني بالنسبة له شعورا هادئا بالطمأنينة، شعورا يوحي بالمنعة : فهو دائم التفكير بالمدفع، دائم الاعتناء به، تكاد لا تراه الا وهو يدرب شباب القرية على استعماله، ويدلهم في نهاية التدريب على المكان الذي وضع فيه خرقة لمسح المدفع، هذا المكان الذي سيصير –فيما بعد – معتادا . ومع مرور الايام بدأ سعيد الحمضوني يتغير.. لقد تبدل لونه عن ذي قبل . وبدا كأنه يضمر شيئا فشيئا، و احس شباب السلمة ان سعيد الحمضوني صار يبدو اكبر من ذي قبل، وانه صار يققد هذه الحركة الحية في وجهه وفي صوته .. انه صامت الان، صامت الى حد يخيل للانسان معه انه نسى كيف كان يتكلم الناس، وصار شيئا مألوفا ان يجده الناس منطلقا الى جنوب السلمة، حيث ركز المدفع، ليجلس وحيدا بقربة الى العشية .
          هذا الرجل الجبار .. الهاديء.. الثائر.. هل كان يعتقد انسان انه سيرتجف كذرة من القطن المندوف على قوس المنجد؟ لقد فتحواعليه باب داره والصباح يوشك ان ينبلج، وتضاخمت امامه كتلة سوداء، وضربت الارض وبرز منها صوت احد رجاله، يدوركالدوامة، ليبتلع كل احساس بالوجود :
          - المدفع .. لقد اصابه العطب .. ان ماسورته تتحرك بغير ما توجيه.. اليهود يتقدمون.
          وأحس سعيد الحمضوني بقوة جبارة تقتلع من جوفه شيئا يعز عليه ان يضيع منه، شيئا كقلبه لا يستطيع ان يتابع وجوده الا معه .. كان يشعر بكل هذا و هو منطلق عبر الحقول الباهتة النائمة في اخر الليل .. ووصل الى حيث كان الرشاش يتكيء كالطفل الميت على الاغصان اليابسة، كل شيء ساكن، الا طلقات البنادق الهزيلة، تحاول عبثا الوقوف في وجه الهجوم .. اما المدفع .. اما جهنم ..
          وهز سعيد الحمضونيرأسه و كأنه يواسي نفسه بمصاب ابنه، ثم فكر : ان لا بد من اجراء .. لا بد .. شيء قوي كالكلابة يجب ان يمسك الفوهة الهاربة الى بطن الدفع.. شيء قوي..
          - اسمع .. سأشد الماسورة الى بطن المدفع بكفي. وحاول ان تطلق .. لا يوجد اية دقيقة لتضيع في كلام .. دعنانجرب،
          - لكن ..
          - اطلق!
          - سيرانا اليهود وانت فوق الحفرة .
          - اطلق!
          - ستحرق كفيك بلهب الرصاص..
          - اطلق.. اطلق!.
          وبدأالمدفع يهدر بصوته المتتابع الثقيل، ومع صوته المحبوب، شعر سعيد الحمضوني بنفسيته التي تغذت طويلا بالثورة والدم والقتال في الجبال، شعر بانها النهاية .. نهاية تاق اليها طويلا وها هي ذي تتقدم اليه بتؤدة، كم هو بشع الموت .. وكم هو جميل ان يختار الانسان القدر الذي يريد.. وسمع صوته من خلال دقات الرصاص:
          - اسمع اريد ان اوصيك و صية هامة ..
          - وعاد يصيخ الى المدفع واستخلص من صوت الرصاص ثقة جديدة ليتابع وهو يحاول ان يمضغ المه:
          - قرب قرية ( ابو كبير ) ابعد منها قليلا، يوجد مستشفى للسل ..عرفته؟حسنا! لي هناك مبلغ جيد من المال، قالوا لي .. ان ارجع لأقبضه بعد ان يفحصوا الدم .. انا متأكد انه .. دم جيد.. في كل مرة يقولون انهم يريدون ان يفحصوا الدم كأن دم الانسان يتغير في خلال اسبوع و نصف .. اسمع .. ان ثمن المدفع لم يسدد كله .. ستجد اسم التاجر في داري .. هو من يافا . لقد دفعت قسما كبيرا من ثمنه من تبرعاتكم . لقد اوشك ثمنه ان يتم .. هل تعرف انهم يشترون الدم بمبلغ كبير؟ لو عشت شهرين فقط؟ شهرين اخرين لاستطعت ان اسدد كل ثمنه .. انني اعطيهم دما جيدا .. ثمنه جيد .. خذ حسن و حسين واذهب الى ذلك المستشفى .. الا تريد ان يبقى المدفع عندكم .. ان حسن وحسين .. ولدي.. يعرفان كيف يذهبان الى هناك.. لقد كانا يذهبان معي في كل مرة .. ان دماءنا جميعا جيدة.. جيدة جدا.. القضية قضية الحليب الذي رضعناه . قضية.. اريد ان اقول لك شيئا اخر.. اذا تراجع اليهود هذه المرة .. تكون اخر مرة يهجمون بها من هذه الناحية .. سيخافون .. فعليكم ان تنقلوا المدفع الى الشمال .. لان الهجوم التالي سيكون من هناك ..
          واشتد شعوره بالنار تلسع كفيه بقسوة .. واحس احساسا ملحا انه لو كان في صحته العادية لاستطاع ان يقاوم احسن من الان، وراوده شعور قاتم بالندم على انه سلك في شراء المدفع ذلك السبيل، ولكنه احس احساسا دافقا ان المدفع طرف اخر من الموضوع، طرف هام.. ان وجوده يحافظ على اهميته قبل ان يموت هو، وبعد ان يموت..
          فأغمض عينيه، وحاول جاهدا ان يحرر نفسه من سجن ذاته كي ينسى المه .. لكنه لم يستطع .. فأسقط ركبته على الارض في ثقل..

          وعلى صوت الطلقات المتقطعة بانتظام وعنف.. احس سعيد الحمضوني باشياء كثيرة .. كانها ملايين الابر تدخل في شرايينه فتسلبه ما تبقى من دمه، ثم شعر باطرافه جميعها تنكمش كانها ورقة جافة في نهاية الصيف.. وبجهد شرس حاول ان يرفع راسه ليشم الحياة، الا انه وجد نفسه فجأة في تنور من ذلك النوع الذي يكثر .. في السلمة، والذي عاش الى جواره فترات طويلة من صباه، وجد نفسه في ذلك التنور جنبا الى جنب مع الارغفة الساخنة تحمر تحت السنة اللهب، ورأى بعينيه فقاقيع العجين الملتهبة، تطير عن رغيف المرقوق وتلتصق على شفتيه، وشعر بيد قاسية تشد رأسه الى ادنى .. الى ادنى .. الى ادنى .. فيسمع لفقرات رقبته صوتا منتظما ثقيلا وهي تتكسر تحت ثقل راسه .. واحس انه فعلا لا يريد ان يموت، واعطته الفكرة دفقة اخرى من الحياة .. فاكتشف ان صوت تكسر فقرات رقبته هو صوت الرصاص الذي ينطلق من المدفع الرشاش، وشعر بمواساة من نوع غريب، مواساة تشبه تلك التي يراها الوالد في ولد عاش بعد مصرع اخيه، فابتسم باطمئنان، وخرج من( التنور ) لكنه شعر انه لم يلمس الارض بقدميه..
          وشيعته القرية كلها الى مقره الاخير.. او الاول .. سيان..

          دمشق 12/8/57
          فصرخت فيهم صرخة قالوا كفانا تملقـا..!
          أتريـد منـا ثـورة أتريـد فعـلا أحمـقـا...؟!
          زمنُ البطولة قد مضي وكفانا قولا أخرقا
          إنا تعودنا القيــود ومثلنــا لــن يُعتقـــا..!
          النومُ أفضلُ غايــةً لسنا لمجــدٍ مطلقـا
          يامن تريد كرامةً ثوب الكرامة أُحرِقا..


          وقل ربي ادخلني مدخل صدق واخرجني مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا.
          نموت ويبقى كل ما قد كتبناه فياليت من يقرأ مقالي دعا لياْْْْ لعل إلهي أن يمن بلطفه ويرحم تقصيري وسوء فعاليا .

          تعليق


          • #6
            رد: وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

            قرار موجز


            كان من هواة الفلسفة ..و الحياة بالنسبة له هي مجرد نظرية .. لقد بدأ يتفلسف منذ كان طفلا، و يذكر تماما كيف اوجد لنفسه سؤالا شغله طيلة اسبوع كامل، واعتبره مشكلة جديرة بالتفكير العميق : لماذا يلبس الانسان القبعة في رأسه و الحذاء في قدمه ؟ لماذا لا يضع على رأسه حذاء و يلبس قبعة في قدمه؟ .لماذا؟ . و فكر مرة اخرى بسؤال جديد : لماذا لا يسير الانسان على يديه ورجليه شأن سائر الحيوانات .. الا يكون مسيره ذاك مدعاة لراحة اكثر؟
            الا ان مستوى فلسفته ارتفع مع مسيرالزمن . و توصل وتوصل مؤخرا الى قرار موجز : "طالما ان الانسان دفع ليعيش دون ان يؤخذ رأيه بذلك، فلماذا لا يختار هو وحده نهايته ". ومن هذا القرار الموجز توصل الى قرار اكثر ايجازا :"الموت هو خلاصة الحياة ".
            وهكذا، توصل الى استقرار دعاه بنهاية المطاف .. واخذ ينتظر اللحظة التي يستطيع فيها ان يشرع باختيار طريقة مشرفة لميتة ما..
            اذن، فان من يدعي ان عبد الجبار دفع دفعا ليشترك في ثورة ..... لا يعرف الحقيقة مطلقا .. فهو قد اختار بنفسه ان يذهب لمركز التطوع وان يقف امام طاولة الضابط الذي يقول بصوت ثابت:
            - اريد بارودة لاستطيع ان اشترك بالثورة ..وسرعان ما اكتشف ان قضية البارودة ليست سهلة بالمرة..وان عليه هو ان يصطاد بارودة ما بالكيفية التي اريد.. ومن ثم يستطيع ان يشترك بالثورة ..
            - ولكنني قد اموت قبل ان احصل على بارودة ..هكذا قال خانقا، ولكنه ما لبث ان سكت و هو يسمع جوابا غريبا، ولكنه صحيح تقريبا:
            - وهل اتيت الى هنا كي تستمتع بصيفية لطيفة .. ثم لتعود الى دارك ؟
            هنا، فكر ان فلسفته تعديلا طفيفا .. اذ انه ربما مات قبل ان يحصل على بارودة، ولم تنقض فترة طويلة جدا كي يتوصل لقرار موجز جديد :"ليس المهم ان يموت الانسان قبل ان يحقق فكرته النبيلة .. بل المهم ان يجد لنفسه فكرة نبيلة قبل ان يموت .."
            وهكذا استطاع عبد الجبار ان يستحصل على بارودة جديدة تقريبا، ولم تكلفه جهدا بالشكل الذي تصور او بالشكل الذي اعد، اذ انه كان يتجول خارج "...." بعد معركة حدثت في الصباح، فوجد جنديا ميتا "والميت لا يحتاج لبارودة "، هكذا قال لنفسه وهو يقلب الجثة عن بارودة فرنسية ذات فوهة مدببة .
            وبين رفاق المتراس عرف عبد الجبار "بالفيلسوف"، وجد المناضلون في فلسفته منطقا صالحا لتبرير الامور التي تحدث.. كان معظم الثوار من الشباب، وكان يسره انه يكبرهم قليلا وانه يستطيع ان يجمعهم بعد كل معركة ليدرسهم قراره الموجز الجديد بشأن الموت.وبعد كل قتيل، كانت الفلسفة تتطور و تتغير .. ففي ليلة مظلمة مات فلاح امي.. و قبل ان يسقط فوق التراس شتم "....." ورجال "....." .. وفكر عبد الجبار بكلمة تصلح لتأبين الشهيد، فاذا بالكلمة تصبح قراره الموجز الجديد :"ان الفكرة النبيلة لا تحتاج غالبا للفهم .. بل تحتاج للاحساس!"وبعد ليلة واحدة مات شاب كان قد خرج من المتراس وهجم بالسكين على جندي كان يزحف قرب الجدار، وطلقت النار عليه وهو في طريق عودته الى المتراس .. وقال عبدالجبار"ان الشجاعة هي مقياس الاخلاص.." وكان عبدالجبار بالذات شجاعا .. فلقد طلب منه الضابط، وكان قد توصل اخيرا الى ايجاد بذلة عسكرية ملائمة، ان يذهب للميناء كي يرى ماذا يجرى هناك، وقال له ان منظر وجهه الهادىء الحزين لا يثير الريبة في قلوب الخائفين ..
            وسار عبدالجبار في الشوارع بلا سلاح، ووصل للميناء و تجول ما شاء له التجول، ثم قفل عائدا الى متراسه..
            ان الامور تجري عكس ما يفترض الرء .. فلقد عرفه واحد ممن اشتركوا مرة في الهجوم .. وفبض عليه .. وساقه الى حيث قال له ضايط خائف بعد ان صفعه:


            - انك ثائر...

            - نعم ...
            - ملعون..
            - كلا!
            ولم ينس عبد الجبار وهو تحت الضرب الذي لا يرحم ان يضع قرارا موجزا جديدا :" ان ضرب السجين هو تعبير مغرور عن الخوف ..." وشعر اثر ذلك القرار، بشيء من الارتياح ..

            ***
            ولكن الامور جرت، من ثم، على نحو مغاير .فلقد توصل الضابط اخبرا الى فكرة اعتبرها، بينه وبين اعوانه الخلصين فكرة ذكية .. بينما عدها عبدالجبار تصرفا مغرورا اخر ينتج في العادة عن الخوف ...
            قال له الضابط:
            - ستسير امامنا الى متراسكم الملعون ... وستعلن لرفاقك المجانين انك احضرت معك عددا جديدا من الثوار... ثم سيكمل جنودي بقية القصة...
            - وانا؟
            - ستعيش معززا مكرما .. او ستموت كالكلب ان حاولت خيانتنا ..
            وقال عبد الجبار في ذات نفسه " ان الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة ".
            وامام صفين من الجنود سار عبدالجبار مرفوع الجبين، وفوهة مدفع رشاش تنخر خاصرته .. وقبل ان يصل الى المتراس بقليل سمع صوت الضابط المبحوح يفح في الظلام:
            - هيا..
            لم يكن عبد الجبار خائفا اذ ان رفاق التراس قالوا ان صوته كان ثابتا قويا عندما سمعوه يصيح :
            - .. لقد احضرت لكم خمسين جنديا.

            ***

            لم يكن عبدالجبار قد مات، بعد، عندما وصل رفاقه اليه ملقى بين جثث الجنود .. وبصعوبة جمة سمع احدهم صوته يملي قراره الموجز الاخير:
            " ليس المهم ان يموت احدنا .. المهم ان تستمروا.."
            ثم مات.


            دمشق 21/7/1958
            فصرخت فيهم صرخة قالوا كفانا تملقـا..!
            أتريـد منـا ثـورة أتريـد فعـلا أحمـقـا...؟!
            زمنُ البطولة قد مضي وكفانا قولا أخرقا
            إنا تعودنا القيــود ومثلنــا لــن يُعتقـــا..!
            النومُ أفضلُ غايــةً لسنا لمجــدٍ مطلقـا
            يامن تريد كرامةً ثوب الكرامة أُحرِقا..


            وقل ربي ادخلني مدخل صدق واخرجني مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا.
            نموت ويبقى كل ما قد كتبناه فياليت من يقرأ مقالي دعا لياْْْْ لعل إلهي أن يمن بلطفه ويرحم تقصيري وسوء فعاليا .

            تعليق


            • #7
              رد: وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

              في البدء كان غسان كنفاني, وبدؤه هو الفلسطيني, وهو الذي افتتح طريق الدم قبلنا, ونحن نقتفي اليوم دمه ونسير إليه.
              كان الجسد – الدم , وكان بروميثيوس – المعرفة .
              وبالمعرفة أضاء وبالجسد أيضا , من أجل ذلك كان منارة .
              وعندما نتحدث عنه نحن الأحياء, الموتى المؤجلين, تنتابنا الرعشة والجلال معا.
              وفي زمنه الفلسطيني والعربي, وفي حياته وموته, كان قامة لا تطال, وكان أخضا أبدا كشجر برتقال يافا.
              لم أره في حياتي,لكنني كنت أقرأ كل كلمة كتبها ويكتبها, وفي روايته " رجال في الشمس " و " ما تبقى لكم " تعارفنا تعارف الأرض للمطر.
              عنصر غريب في قصصه , يفارق كل ما كتب عنه فيما بعد , هو الذي أقلقني وهزني : الموت.
              الموت في سياقه الملحمي واالمصادفة.بعيدا عن جوهر الوجودي والعبثي.
              الموت في سياق الضرورة لا المصادفة .
              التركيز على عنصوالموت في مجمل أعماله الأدبية , يتجلى كعنصر ايجابي بما هو مضاد لذاته . أي مضاد للفناء والغياب . انه يتجلى كالقيامة.
              موت شخصيات " رجال في الشمس " , لا يشير فقط إلى غياب الفلسطيني قبل انبثاق المقاومة , بقدر ما يشير إلى ضرورة موت الانتهازية والخديعة والعجز والجوع والاتكالية .
              وفي " ما تبقى لكم "والنفس,يتجه موت الضرورة إلى الخيانة والهرب من المسؤولية .
              يأخذ الخط البياني لمسار الموت لدى غسان اتجاه الداخل – العدو أي العناصر الميتة واليابسة في الشجرة الفلسطينية .
              ففي الجسد الفلسطيني والنفس , ثمة خلايا لا تصلح للحياة , لاستمرارية الحياة , ولكي ينبض هذا الجسد وتتوهج تلك النفس بكل القها لابد من بتر تلك الخلايا الفاسدة .إن مجابهة العدو – الخارجي, والصدام معه في معركة البقاء أو الموت, الشرسة والحادة, تحتاجان تطهيرا داخليا.
              هكذا يأتي الموت التطهيري ولادة وخروجا من الذات القديمة والذاكرة القديمة , المصابتين بالعجز واليأس والانتهازية والعدمية والخيانة , إلى الذات الجديدة والذاكرة الجديدة , اللتين ستواجهان الزمن التراجيدي للموت – الولادة .

              نلمح ذلك في " ما تبقى لكم " عندما تطعن مريم زوجها الخائن والراغب في إجهاضها ,في حين تظل المواجهة بين حامد وعدوه الإسرائيلي معلقة .
              إننا نعرف , كاستنتاج رمزي , أن الصراع بين حامد وبين عدوه الى ما بعد موت زكريا الفلسطيني – الخائن الذي سلم صديقه سالم للعدو .
              تكشف دلالة العطب الداخلي في النفس وضرورة القضاء على هذا العطب
              أولا : عن المدى المعرفي – السياسي , المذهل لدى غسان الأديب . ان هذه الأطروحة الحساسة لا تلقى صداها الاحتفالي في أعماق ممثلي النزعة التفاؤلية التي تحتفي بطيبة الشعب وبراءته ونقائه شبه المطلق.
              لكن الأديب الحقيقي لا يأخذ شهادة براءة أو صك غفران إلا من قناعاته ورؤياه التي تتجاوز التفاؤل و الايجابي , والتي تتجه كسكين الجراح نحو الدمل في الجس العليل .
              حياتنا , علاقاتنا , ميراثنا , التكوين النفسي الداخلي ,مراكمة بالأسود والسلبي والهزائم و العجز و الكبت .
              والى أن نخرج إلى الشمس, بدق جدران الخزانات التي نَشوى داخلها, لا بد أن يموت ذلك العجز الذي يشلنا.
              إذ ذاك نقوم . وبعدها نواجه موتا آخر . الموت الملحمي – الخارجي مع العدو .
              هكذا في عصر التراجيديا الفلسطينية – العربية, لم يكتشف غسان كنفاني الموت في الكتابة فحسب, إنما اكتشف موته هو. إن عرسه الدموي المجيد يذكرنا بلوركا وهو يهوي فرق تراب غرناطة اغتيالا . وبين غسان ولوركا مسافة دم نصلها نحن الذين ننتظر وما بدّلنا طريق الدم ولن .






              مما قاله الكاتب والروائي حيدر حيدر عن الاديب والثائر غسان كنفاني .
              التعديل الأخير تم بواسطة عائد الى حيفا; الساعة 07-07-2011, 10:31 PM.
              وضع الشعب
              صعب..صعب..صعب!!!!

              تعليق


              • #8
                رد: وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

                رحم الله الشهيد غسان كنفاني وتشكر اخي على كل ما قدمت

                هذه صورة للشهيد غسان كنفاني برفقة ابناءه فايز وليلى

                تعليق


                • #9
                  رد: وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

                  كان يجب أن نراك، أن نعرفك ، أن نسير معك قبل اليوم
                  ولكن اليوم لم ينضج فينا
                  نُعزي أهلك؟!!!!!!
                  لا
                  نعزي أنفسنا؟!!!
                  لا
                  نذهب إلى جبل الكرمل ونعزيه؟
                  نذهب إلى فلسطين ونعزيها؟
                  هي المفجوعةُ
                  هي الثَّكلى
                  نعزيها أم نهنِّئها؟
                  لا أدري
                  فهي التي سترتب عظامكَ
                  هي التي ستعيد تكوينك من جديد
                  ونحن هنا سنموت كثيرا .... كثيرا نموت إلى أن نصبحَ فلسطينيين حقيقيين
                  وعربا حقيقيين

                  وداعا غســان


                  درويش ..

                  هيك فلّ من عنّا اخر مرة حدا فكر يسحب سلاح المقاومة ! << يقول لبنانيون ..

                  تعليق


                  • #10
                    رد: وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

                    بقلم: محمود درويش.


                    اكتملت رؤياك، ولن يكتمل جسدك. تبقى شظايا منه ضائعة في الريح، وعلى سطوح منازل الجيران، وفي ملفات التحقيق.
                    ولم يكتمل حضورنا نحن الأحياء ـ طبقاً لكل الوثائق. نحن الأحياء مجازاً، وأنت الميت ـ طبقاً لكل الوثائق، أنت الميت مجازاً.
                    نحزنُ من أجلك؟ لا
                    نبكي من أجلك؟ لا
                    أخرجتنا من صف المشاهدين دفعة واحدة وصرنا نتشوف الفعل، ولا نفعل.
                    أعطيتنا القدرة على الحزن، وعلى الحقد، وعلى الانتساب. وكنا نتعاطى الحزن بالأقراص، ونتعاطى الحقد بالحقن، ونتعاطى الانتساب بالوراثة.
                    مرة واحدة، أعطيتنا القدرة على الاقتراب من أنفسنا، وعلى الرغبة في الدخول إلى جلودنا التي خرجنا منها دون أن ندري، الآن ندري ـ حين خرجت منا.
                    حملناك في كيس ووضعناك في جنازة بمصاحبة الأناشيد الرديئة، تماما كما حملنا الوطن في كيس، ووضعناه في جنازة لم تنته حتى الآن، وبمصاحبة الأناشيد الرديئة.
                    كم يشبهك الوطن!
                    وكم تشبه الوطن!
                    والموت دائما رفيق الجمال. جميل أنت في الموت يا غسان. بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر. لقد انتحر الموت فيك. انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة. اكتمل الآن بك، واكتملت به. ونحن حملناكم ـ أنت والوطن والموت ـ حملناكم في كيس ووضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد. ولم نعرف من نرثي منكم. فالكل قابل للرثاء. وكنا قد أسلمنا أنفسنا للموت الطبيعي.
                    ـ أيها الفلسطينيون... إحذروا الموت الطبيعي!. هذه هي اللغة الوحيدة التي عثرنا عليها بين أشلاء غسان كنفاني.
                    ـ ويا أيها الكتّاب... إرفعوا أقلامكم عن دمه المتعدد! هذه هي الصيحة الوحيدة التي يقولها صمته الفاصل بين وداع المنفى ولقاء الوطن.
                    لا يكون الفلسطيني فلسطينيا إلا في حضرة الموت. قولوا للرجال المقيمين في الشمس أن يترجلوا ويعودوا من رحلتهم، لأن غسان كنفاني يبعثر أشلاءه ويتكامل. لقد حقق التطابق النهائي بينه وبين الوطن.
                    أهكذا؟. نعم هكذا ـ حين تزول الفوارق بين الأجساد وبين الأوطان ـ ويصير الكل في كيس واحد، تنزل العودة من الأناشيد الرديئة إلى البندقية الجيدة، ولا تكون الحياة مجازية.
                    وهكذا ـ تكون الهجرة شكلا محورا للعودة.
                    أمجد موتك؟ لا.
                    ألعن حياتك؟ لا.
                    إني أمجد السخرية التي كنت تواجه بها الحياة. نادر في تحايلك على الحياة. تنزفها تنزفها، لا حبا لها بل بحثا عنها. من خرج من عكا يوما ولم يعد، لا يعامل الحياة إلا بسخرية.
                    إني أمجد البسمة الكاذبة التي كنت تقابل بها الأشياء ـ وهي باطلة كلها ـ فمن عرف فلسطين تاب عن السعادة. وفلسطين التحمت بخلاياك. تبتسم لسواها كالعاشق المخدوع الذي يتحايل على الخيانة، ويحاول الهرب من قلبه.
                    لم تَكُنْ رَجُلاً
                    كنتَ إنسانيَّةً
                    ولم تحمل صليبا، كمتظاهر يحمل لافته وراية.
                    صليبك لا يراه أحد. حتى أنت لا تراه. لأنه يأتيك من الداخل. لأنه يسكنك، كما يسكن البرق المفاجأة، وكما يسكن الكون الديمومة.
                    كان الصليب ينتسب إليك.
                    وكان الوطن ينتسب إليك.
                    وهما البديلان الوحيدان.
                    ليس جمال الموت ما يجعلك جميلا، فبأي حق يستعيرك، ويتركنا بلا ندم؟
                    ليس جمال الموت، ولكنه حقيقة المأساة في لحم إنسان حقيقي وفنان حقيقي. الصدق اغتراب، فلماذا كنت مغتربا إلى هذا الحد؟ باعوا الضحية فاشتكت، فاجتمع الغزاة والطغاة على إخماد شكواها، لأن سلامتهم واحدة.
                    فلماذا ولدت في عكا؟ لماذا ارتكبت هذا الإثم!. جرب يا غسان واخرج من اسمها. ستخدعك الحياة من جديد. وتموت. تضيق بها ذرعا، ومن فرط العشق والغيرة تكرهها. ولكن، ماذا تكون من دونها! فلماذا ولدت في فلسطين؟ لماذا ارتكبت هذا الذنب؟.
                    جرب ـ يا غسان ـ جرب أن تذهب في هواها إلى آخر الشوط! ستخدعك الحياة من جديد. وتموت من جديد.
                    الابتعاد عنها ـ قاتل
                    والاقتراب منها ـ قاتل
                    وبين الاقتراب والابتعاد يتأرجح جسمك. الارتفاع يوازي الضياع. والنزول يحاذي الأفول.
                    وهذه هي المأساة.
                    وهذه هي قدرية العشق الفلسطيني.
                    لأن المعشوقة قاتلة بجمالها، ونسيانها، وقدرتها على الخيانة. تكتبها. ترسمها. تغنيها. تغامرها. وهي تنام في أذرعة الآخرين. وحين تقول: تعبت، تحاصرك كالجلد. ولعلك كنت تهددها، ولعلك كنت تؤنبها: حين أنام فيها سأرميها في البحر كقشرة برتقالة. لا تعطيك هذه الفرصة... لا تعطيك.
                    أكثر من عشرين عاما وأنت تنتظر هذه الفرصة. لا تعطيك. ويا غسان كنفاني. بالمناسبة، قل لي من أنت؟
                    غامض، وعاجز عن الإجابة، لأنك فلسطيني حقيقي. كلما اشتد وضوحك اشتد غموضك.
                    تنسى نفسك في البحث عن الوطن، وينساك الوطن في بحثك عن نفسك، ثم تلتقيان يومين في اليوم. في اليوم الواحد تلتقيان أمس وتلتقيان غدا.
                    وما الفرق بينكما؟. هو الفارق بين ظل الشجرة في الدم وبين ظل الشجرة في الماء.
                    فلسطيني حتى أطراف أصابعك، فلسطيني حتى الحماقة، وهذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك.
                    تسلم على السائح، فتصيبه عدوى فلسطين، تقبل امرأة، فتصير مريم المجدلية.
                    تعانق طفلا فيستكمل طفولته في إحدى قصصك.
                    وهذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك.
                    من أنت؟ غامض وعاجز عن الإجابة. فكلما اشتد وضوحك اشتد غموضك.
                    لم تمتَشِق قلَماً...
                    لم تمتَشِق بندقيَّةً...
                    لم تمتَشِق إلا دمكْ. كان دمُكَ مكشوفاَ من قبل أن يُسفَكْ. ومنْ رآكَ رأى دَمَكْ. هوَ الوحيدُ الواضحُ. الوحيدُ الحقيقيُّ والوحيدُ العربيُّ. دقَّ سقفَ الهجرةِ وعادَ كالمطر الذي يهطل فجأة من سماء النُحاسِ على أرضِ القصدير. فهل سمعنا رنينهُ؟ هل سمعنا صداه؟ سمعناهُ يا غسان، فكيف نثأر له؟. وحين نقول فلسطين، فماذا نعني؟ هل فكَّرنا بهذا السؤال من قبل؟ الآن نعرفُ: أن تكون فلسطينيا معناه أن تعتاد الموت، أن تتعامل مع الموت... أن تُقدِّم طلب انتسابٍ الى دمِ غسان كنفاني. ليست أشلاؤك قطعا من اللحم المتطاير المحترق. هي عكا، وحيفا، والقدس، وطبريا، ويافا. طوبى للجسد الذي يتناثر مدنا. ولن يكون فلسطينيا من لا يضمُّ لحمه من أجل التئام الأشلاء من الريح، وسطوح منازل الجيران، وملفات التحقيق.
                    ماذا نفعلُ... ماذا نفعل من أجلك؟
                    هكذا تساءلنا. ونسينا أن نتساءل عمَّا نفعلُ من أجلِ ما تبقَّى ومن تبقَّى منَّا. وكنا نردُّ: نحرق مكاتبنا ونمضي... نمضي إلى أين؟ نمضي إليك... إلى الثورة. نُخرجها من رحم الفكرةِ والأحلام والأناشيد، لأن دمكَ قد خرج. الذاكرة والخارطة والأغاني لا تحوَل المنفى إلى وطن. ولم يبق لنا غير الإنتماء إلى الثورة وأخطائها. لا يكون العشق عشقا إلا إذا بلغ حد الخطأ. فلنذهب إلى الخطأ جميعاً، لأنه فاتحة الصواب. ولنملأ الأطر التي تركها غسان، حتى لا يكون وحيدا ولا يتيما ولا حزينا. لقد تحوَّل من شكلٍ إلى رؤيا. فلندخل مرحلة التَّحوُّل. وطوبى للقلب الذي لا توقفه رصاصة. لا تكفيه رصاصة! نسفوكَ، كما ينسفونَ جبهةً، وقاعدةً، وجبلاً، وعاصمة، وحاربوكَ، كما يحاربون جيشا...
                    لأنك رمز، وحضارة جرحٍ
                    ولماذا أنت... لماذا أنت؟
                    لأنَّ الوطن فيكَ صيرورة مستمرَّة وتحوُّلٌ دائمٌ، من سواد الخيمة حتى سواد النابالم. ومن التَّشَرُّدِ حتى المقاومة.
                    حقيقي وشفاف...
                    وابتكار لأنهار منحوتة مياهها من دماء مهاجرة. خريرها دائما محترق، يتمازج فيها ظل الزيتون الراحل بين الذاكرة والتراب. لو وضعوك في الجنة أو جهنم، لأشغلت سكانهما بقضية فلسطين.
                    وجدان، وعاطفة، ووسامة.
                    وعكا تنتمي إليك
                    ولأن غيابك يجعل الوطن أبعد، فعندما ينسفونك... ينسفون خطى تتقدم ـ هكذا يحسبون.
                    ويا غسان، حدد شكلك!
                    من طول الرحيل سقطت ذنوبي. ومن بعد الوطن اقتربت من الحقيقة. وشكلي ضائع فيكم.
                    وما اسمك الآن؟
                    لا شيء... لا شيء. تبعثر اسمي مع أشلائي. حين تعثرون على أشلائي تعثرون على اسمي. ولن تجدوها ما لم تجدوا وطني.
                    وأين وطنه؟
                    لا تقولوا أنه محتل.
                    هو ضائع فينا... ضائع فينا... ضائع فينا. فمن يخرج الوطن منا كي نراه؟ منّا نبدأ، فكيف نبدأ، ومتى نبدأ؟ إسألوا هذا السؤال من جديد. واذهبوا إلى إسم غسان كنفاني واسرقوه، أطلقوا اسمه على أي شيء وعلى كل شيء. أطلقوا اسمه عليكم واقتربوا من أنفسكم، من حقيقتكم، تقتربوا من الوطن.
                    ها هم يتبارون في رثائك، كأنك شيء ذاهبٌ. ولم يعرفوا أنك مذ رحلتَ أتيت. قادمٌ... قادمٌ من الريحِ ومنزل الجيران، وملفات التحقيق، ومن الصمت واستمراء الهزيمة ومناقبها.
                    هاهم أولاء يتبارون في رثائك، كأنهم يرثون فردا.
                    آه... من يرثي بركاناً!.
                    هذه لحظتكَ. فلا تجمع أشلاءكَ ولا تَعُدْ... لا تَعُدْ. لا تنتظرنا في المَهاجر. كان يجب أن نراك... أن نعرفك... أن نسير معك قبل اليوم. ولكن الموت لم ينضج فينا.
                    نُعزي أهلك؟ لا.
                    نعزي أنفسنا؟ لا.
                    نذهب إلى جبل الكرمل ونعزيه.
                    نذهب إلى شاطئ عكا ونعزيه.
                    نذهب إلى فلسطين ونعزيها.
                    هي المفجوعةُ. هي الثَّكلى.
                    نعزيها أم نهنِّئها؟ لا أدري.
                    فهي التي سترتب عظامكَ، هي التي ستعيد تكوينك من جديد. ونحن هنا، سنموت كثيرا. كثيرا نموت، إلى أن نصبحَ فلسطينيين حقيقيين، وعربا حقيقيين. ولكني أستأذنك الآن في البكاء قليلاً، فهل تأذن لي بالبكاء؟ هل تغفر لي؟.
                    أما كنت تحبني يوم كنت هناك؟

                    هيك فلّ من عنّا اخر مرة حدا فكر يسحب سلاح المقاومة ! << يقول لبنانيون ..

                    تعليق


                    • #11
                      رد: وقفة وفاء أدبية لـِ غسان كنفاني على أعتاب ذكراه ..

                      الاديب غسان كنفاني
                      القميص المسروق



                      رفع رأسه الى السماء المظلمة و هو يقاوم شتيمة كفر صغيرة اوشكت ان تنزلق عن
                      لسانه,واستطاع ان يحس الغيوم السوداء تتزاحم كقطع البازلت,وتندمج ثم تتمزق.
                      ان هذا المطر لن ينتهي الليلة,هذا يعني انه لن ينام,بل سيظل منكبا على رفشه,يحفر طريقا تجر المياه الموحلة بعيدا عن اوتاد الخيمة,لقد اوشك ظهره ان يعتاد ضرب المطر البارد.. بل ان هذا البرد يعطيه شعورا لذيذا بالخدر.
                      انه يشم رائحة الدخان,لقد اشعلت زوجه النار لتخبز الطحين,كم يود لو انه ينتهي من هذا الخندق,فيدخل الخيمة,ويدس كفيه الباردتين في النار حتى الاحتراق,لا شك انه يستطيع ان يقبض على الشعلة باصابعه,وان ينقلها من يد الى اخرى حتى يذهب هذا الجليد عنهما.. ولكنه يخاف ان يدخل هذه الخيمة,ان في محاجر زوجه سؤالا رهيبا ما زال يقرع فيهما منذ زمن بعيد,لا,ان البرد اقل قسوة من السؤال الرهيب.ستقول له اذا ما دخل وهي تغرس كفيها في العجين,وتغرس عينيها في عيونه:هل وجدت عملا؟ماذا سنأكل اذن؟ كيف استطاع(ابو فلان) ان يشتغل هنا وكيف استطاع(ابو علنتان) ان يشتغل هناك؟ثم ستشير الى عبد الرحمن المكور في زاوية الخيمة كالقط الكبول,و ستهز رأسها بصمت ابلغ من الف الف عتاب.. ماذا عنده الليلة ليقول لها سوى ما يقوله في كل ليلة..
                      -هل تريدينني ان اسرق لا حل مشاكل عبد الرحمن؟
                      ونصب قامته بهدوء لاهث,ثم ما لبث ان عاد,فاتكأ على الرفش المكسور,وانشأ يحدق بالخيمة الداكنة مستشعرا قلقا عظيماوهو يسأل نفسه:
                      - وماذا لو سرقت؟
                      ان مخازن وكالة الغوث الدولية تقع على مقربة من الخيام,ان قرر ان يبدأ فهو يستطيع بالتأكيد ان ينزلق الى حيث يتكدس الطحين والرز,من ثقب ما سيجده هنا او هناك,ثم ان المال ليس حلال احد,لقد اتى من هناك,من عند ناس قال عنهم استاذ المدرسة لعبد الرحمن انهم " يقتلون القتيل ويمشون في جنازته" فماذا يضر الناس لو انه سرق كيس طحين.. كيسين.. عشرة؟وماذا لو باع شيئا من هذا الطحين الى واحد من اولئك الذين يتمتعون بقدرة عظيمة على استنشاق روائح مسروقات,وبقدرة اعظم في المساومة على ثمنها؟
                      ولذت له الفكرة,فدأب بعزم اشد على اتمام حفر الخندق فيما حول الخيمة و اخذ يسأل نفسه من جديد ان لماذا لا يبدأ مغامرته منذ الآن؟ان المطر شديد والحارس مشغول بأمر البرد اكثر من انشغاله بمصلحة وكالة الغوث الدولية,فلماذا لا يبدأ الآن؟ لماذا؟
                      - ماذا تعمل يا ابا العبد؟
                      ورفع رأسه الى جهة الصوت,وميز شبح ابي سمير قادما من بين صفي الخيام المغروسة الى ما لا نهاية الظلمة..
                      -انني احفر طحينا..
                      - تحفر ماذا؟
                      - احفر.. احفر.. خندقا..
                      وسمع ضحكة ابي سمير الرفيعة التي سرعان ما تلاشت في ثرثرته:
                      - يبدو انك تفكر بالطحين,ان التوزيع سيتأخر الى ما بعد العشرة الايام الاولى من الشهر القادم,اي بعد خمسة عشر يوما تقريبا,فلا تفكر منذ الآن الا اذا كنت تنوي ان تستعير كيسا او كيسين من المخزن..
                      ورأى ذراع ابي سمير تشير باتجاه المخازن,ولمح على شفتيه السميكتين ظلا لابتسامة خبيثة,وشعر بصعوبة الموقف,فعاد يضرب الارض برفشه المكسور.
                      - خد هذه السيكارة.. ولكن لا,انك لن تستفيد منها فالمطر مزعج.. لقد نسيت ان السماء تمطر ,عقل من الطحين.. مثل الحجر..
                      واحس بضيق يأخذ بخناقه,انه يكره ابا سمير منذ زمن بعيد,هذا الثرثار الخبيث:
                      - ما الذي اخرجك في هذا المطر؟
                      - خرجت.. خرجت لاسألك ان كنت تريد المساعدة.
                      - لا.. شكرا..
                      -هل ستحفر طويلا؟
                      - معظم الليل..
                      - لم اقل لك ان تحفر خندقك في النهار؟انك دائما تذهب الى حيث لا ادري وتترك الخيمة.. هل تذهب للبحث عن خاتم سليمان؟
                      - لا.. عن شغل..
                      ورفع رأسه عن الرفش وهو يلهث..
                      - لماذا لا تذهب لتنام وتتركني وحدي؟
                      واقترب منه ابو سمير بهدوء جم ووضع كفّه يهزها ببطء وهو يقول بصوت مخنوق:
                      - اسمع يا ابا العبد,ان رأيت الآن كيس طحين يمشي من امامك فلا تذع الخبر لاحد!
                      - كيف؟
                      قالها ابو العبد وصدره ينبض بعنف,وشم رائحة التبغ من فم ابي سمير وهو يهمس وقد فتح عيونه على سعها:
                      - هناك اكياس طحين تمشي في الليل وتذهب الى هناك..
                      - الى اين؟
                      - الى هناك..
                      حاول ابو العبد ان يرى الى اين يشير ابو سمير ولكنه وجد ذراعيه مسدلتين على جنبيه, بينما سمع صوته يهمس ببحة عميقة:
                      - ستأخذ نصيبك.
                      - هل هناك ثقب تدخلون منه؟
                      ورفع ابو سمير رأسه نافيا ومفرقعا لسانه بمرح,ثم همس بصوت نصف مبحوح:
                      - ان اكياس الطحين تخرج لوحدها.. انها تمشي!
                      -انك مجنون ..
                      - لا,بل انت مسكين.. اسمع,ولندخل في الموضوع مباشرة,ان ما علينا هو ان نخرج اكياس الطحين من المخزن ونذهب بها هناك,ان الحارس سيمهد لنا كل شيء كما يفعل دائما,ان الذي سيتولى البيع ليس انا,ولا انت,انه الموظف الامريكي الاشقر في الوكالة.. لا,لا تعجب,كل شيء يصبح جائزا ومعقولا بعد الاتفاق.الامريكي يبيع,وانا اقبض,والحارس يقبض.. و انت تقبض,وكله بالاتفاق,فما رأيك؟
                      وشعر ابو العبد ان القضية اشد تعقيدا من سرقة كيس اوكيسين,اوعشرة,ورواده شعور لزج بالقرف من المعاملة مع هذا الانسان.. ثقيل الدم كما تعارفوا عليه في المخيم كله.. ولكنه في الوقت ذاته راقه ان يعود يوما الى خيمته وفي يده قميص جديد لعبد الرحمن,واغراض صغيرة لام العبد بعد هذا الحرمان الطويل,كم ستكون ابتسامتاهما جميلتين,ان ابتسامة عبد الرحمن,لوحدها,تستحق المغامرة لا شك,ولكنه لو فشل.. اي مصير اسود ينتظر ام العبد وولدها.. يومها سيحمل عبدالرحمن صندوق مسح الاحذية ليتكور في الشارع هازا رأسه الصغير فوق الاحذية الانيقة,يا للمصير الاسود,ولكنه لو نجح فسيبدو عبد الرحمن انسانا جديدا,وسيقتلع من عيون زوجه ذلك السؤال المخيف. لو نجح,فستنتهي مأساة الخندق في كل ليلة ممطرة,وسيعيش حيث لا يستطيع ان يتصور الآن..
                      - لماذا لا تترك هذا الخندق الملعون,لبدأ قبل ان تشرق الشمس؟
                      نعم لماذا لا يترك الخندق.. ان عبد الرحمن يلهث من البرد في طرف الخيمة,ويكاد يحس انفاسه تلفح جبينه البارد.. كم يود لو انه ينتشل عبد الرحمن من هزاله وخوفه,لقد اوشك المطر ان ينقطع,وبدأ القمر في السماء يمزق طريقا وعرا..
                      وابوسمير,ما زال واقفا امامه كالشبح الاسود,غارسا قدميه الكبيرتين في الوحل,رافعا ياقة معطفه العتيق الى ما فوق اذنيه,انه ما زال واقفا ينتظر,هذا الانسان الواقف امامه,يحمل معه قدرا جديدا غامضا,يساومه ليرفع معه الاكياس من المخزن,الى مكان ما,يأتيه الامريكي كل شهر ويقف امام اكوام الطحين يفرك راحتيه النظيفتين,ويضحك بعيون زرقاء كعيون قط يتحفز امام جحر فأر مسكين.
                      - منذ متى وانت تتعامل مع هذا الحارس وذلك الموظف؟
                      - هل تريد ان تحقق معي ام تأخذ ثمن الطحين وتذهب لتشتري الشياطين؟اسمع ان هذا الامريكي صديقي,وهو انسان يحب العمل المنظم,انه يطلب مني دائما ان اضع الوقت بالمقدمة. وهو لا يحب التأخير في المواعيد.. علينا ان نبدأ الآن. اسرع.
                      و عاد يتصور الامريكي واقفا امام اكياس الطحين,يضحك بعيون زرقاء ضيقة ويفرك راحتيه النظيفتين بحبور وطمأنينة,فشعر بضيق غريب,وخطر له ان ذلك الامريكي كان يبيع الطحين في الوقت الذي كان يقول فيه لرجال المخيم ولنسائه ان توزيع الاغاثة سيتأجل الى نهاية الايام العشرة الاولى من الشهر,واحس بنقمة طاغية,هي صدى لاحساساته يوم كان يرجع من المخازن ليقول لزوجته بصوت كسير انهم اجلوا توزيع الطحين عشرة ايام,كم هي مؤلمة خيبة الامل التي كانت ترتسم في وجهها الاسمر المجهد,لقد كان يحس الغصة تتعلق بالف ذراع في حنجرته وهي تنظر بصمت مريع الى كيس الطحين الفارغ يتأرجح على ذراعه كالمشنوق.. لقد كانت تعني في نظرتها تلك ان عشرة ايام ستمضي قبل ان يجدوا طحينا للاكل. كان يبدو له ايضا ان عبد الرحمن يفهم الموقف تماما,لقد كان يكف عن طلب الاكل بالحاح..
                      في كل خيام قريةالنازحين كانت العيون المتلهفة تقع في خيبة الامل ذاتها,كان على كل طفل في المخيم ان ينتظر عشرة ايام ليأكل خبزا. هذا اذن هو سبب التأجيل,ابو سمير الواقف امامه كالشبح الاسود,غارسا قدميه في الطين قلقا لمصير مساوماته,هو والامريكي الذي يفرك راحتيه النظيفتين امام اكوام الطحين وهويضحك بعيون زرقاء ضيقة..
                      لم يدر كيف رفع الرفش الى ما فوق رأسه وكيف هوى به بعنف رهيب على رأس ابي سمير,وهويصيح في وجهها ان الطحين لن يتأجل توزيعه هذا الشهر..
                      كان لا يزال راغبا في ان يراه يبتسم لقميص جديد..
                      فأخذ يبكي..

                      هيك فلّ من عنّا اخر مرة حدا فكر يسحب سلاح المقاومة ! << يقول لبنانيون ..

                      تعليق

                      يعمل...
                      X