إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

    مرت على الصفحات أسماء كبيرة
    ولهم في الحياة سيرة ومسيرة
    نحاول اليوم أن نلملم الحروف ونعيد عرض التجارب
    لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم
    والحكمة ضالة المؤمن,,,

    تركت فيكم حروفاَ، أعيدوا بها رسم الحكاية، ولا تذكروني

  • #2
    رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

    هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد
    "رهين المحبسين " أبو العلاء المعري



    لم يأتِ عالمٌ من علماء اللغة منذ تدوينها بمثل ما أتى به أبو العلاء، فقد أحاط باللغة العربية إحاطة تامة، واستعمل كل ألفاظها في شعره ونثره، وأبدع فيهما كأحسن ما يكون، كما لم يجتمع لأحد جاء قبله أم بعده مثل ما اجتمع لأبي العلاء من اتقان العلم وسعة الثقافة وعمق المعرفة. إذ أنه قال الشعر وصنفه وهو ابن احدى عشرة سنة.
    ذلك هو أبو العلاء الشاعر والأديب والفنان واللغوي البارع، ولكن ما هو نسبه، وفي أي عصر عاش، وما هي شخصيته، وفلسفته، وما يقال عن إيمانه أو شعره, ذلك ما سنبحثه في دراستنا عنه.
    التعديل الأخير تم بواسطة أ. أبو مالك; الساعة 08-03-2011, 09:32 PM.

    تركت فيكم حروفاَ، أعيدوا بها رسم الحكاية، ولا تذكروني

    تعليق


    • #3
      رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

      ولادته
      كان يوم السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 363 هـ وكانت الشمس تهوي إلى الطرف الآخر من السماء، وتجري فوق قطع الغيوم لتنحدر وراء الجبال فلم تعد تظهر للناظر إليها من مدينة معرة النعمان، وفي ذلك اليوم وكان الجمعة، كان هناك شخصٌ يهرع إلى عبد الله بن سليمان أبي العلاء التنوخي المعري ويزف إليه البشرى بولادة طفلٍ ذكر له، ففرح به وأسماه أحمد.
      ولقد ولد في بيت كان فيه القضاة والأئمة، والعلماء، والأدباء، والحكماء، يقول ابن فضل الله العمري في كتابه مسالك الأبصار: "وأما بيته فساده لهم في الفضل رسوخ غير منسوخ، منهم قضاة الأمة، والفضلاء، والأئمة، والحكماء أصحاب العلوم الجمة، والأدباء الناطقون بالحكمة، والشعراء الذين اغتصبوا البحر درّه، والفلك نجمه، والخطباء أهل الورع والاثبات الذين أحيوا السنة، وأماتوا البدع، مما لا يتسع التأليف لاحصائهم"..


      حياته الأولى وفقدانه بصره
      عاش أبو العلاء مع أبيه سنواته الأولى في طيب وهناء حتى كان عام 376 هـ. وله من العمر سنوات ثلاث فقط، فأصيب بالجدري التي ذهبت بعينه اليسرى. وغشى عينه اليمنى بياض، ولم يعد يرى من الألوان سوى الأحمر، وهو يذكر أنه أثناء مرضه ألبسوه ثوباً مصبوغاً بالعصفر، أما ما يذكره في نثره وشعره من الألوان؛ فليس إلا تقليداً لغيره واستعارة منه، أو ربما لا يزال متأثراً بتلك الآثار الباقية من تلك الألوان عندما كان صغيراً، ويقال إنه ذات مرة طلب من جماعة حضروا عنده أن يعدوا له الألوان؛ فعددوها جميعها، حتى قالوا: الأحمر، فقال: هذا هو ملكها، ونُسب ذلك إلى ذكائه المفرط؛ اذ أنه كان قد بلغ فقط السنة الرابعة وشهراً واحداً، حين ألبس ذلك الثوب الأحمر، وهذا على غير ما يقوله البعض من أنه ولد أعمى.
      وفي سنته السادسة، أو أوائل السابعة ذهب بصره جملة وكان يحمد الله على حرمانه نعمة البصر، فلا يرى الحياة، وأشياءها المقيتة، فقد قال:

      قالوا العمى منظر قبيح *** قلت بفقدانكم يهون
      والله ما في الوجود شيء *** تأسى على فقده العيون


      وقد لا يكون قوله هذا إلا من باب التعزية للنفس كما يقول البعض في الوقت الذي كثر فيه حساده، وشهرته بدأت تجوب الآفاق، وسمعه مرة أبو الحسن الدلفي الحصيص الشاعر يقول: "أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر"


      علومه
      تلقى أبو العلاء علومه الأولى في المعرة، فتعلم العربية من أهل بلدته، وتعلم مبادئ النحو واللغة على يد أبيه، ثم رحل إلى حلب يطلب الاستزادة على يد محمد بن عبد الله بن سعد النحوي، ثم لم يلبث أن رحل إلى بغداد، وبقي فيها ما يقرب السنة وسبعة أشهر، يطّلع على ما وجد في خزائن بغداد من الكتب، والآثار الأدبية، حتى أحصى اللغة العربية واستعملها، كما لم يحصلها أو يستعملها أحد قبله أو بعده، وتعلم الحديث الشريف من أبيه وجده سليمان بن محمد، وأخيه أبي المجد، وجدته أم سلمة، وقد سمعه أيضاً من أبي زكريا يحيى التنوخي، حتى صار يلزم منزله ليتسنى له سماعه.

      ذكاء أبي العلاء
      إن التاريخ يعرفنا بالكثير الكثير الذين نبغوا في مختلف الفنون رغم فقدانهم نعمة البصر، ولم تكن تلك العاهة يوماً لتحول دون النبوغ، بل إنها كثيراً ما تقوي من فاعلية الحواس الأخرى كاللمس مثلا، ويعلل ذلك بأنه كثيراً ما يحول فقد البصر دون شرود الذهن، فيضطر الشخص على حصر انتباهه فيما يسمعه أو يلمسه؛ ولذا ليس ما يدعو إلى الشك في قول أبي العلاء بأنه يحمد الله على فقدانه البصر ويعتبره نعمة.
      ومما يروى عن ذكائه وحفظه أن جاراً له سماناً كان بينه وبين رجل من أهل المعرة معاملة، فجاءه ذلك الرجل، ودفع إليه السمان رقاعاً كتبها إليه يستدعي فيها حوائج له، وكان أبو العلاء في غرفة مشرفة عليهما، فسمع أبو العلاء محاسبة السمان له، وأعاد الرجل الرقاع إلى السمان، ومضى على ذلك أيام، فسمع أبو العلاء ذلك السمان وهو يتأوه ويتململ، فسأله عن حاله فقال: كنت حاسبت فلاناً برقاع كانت له عندي، وقد عدمتها، ولا يحضرني حسابه؛ فقال لا عليك، تعال إليّ، فأنا أحفظ حسابكما، وجعل يملي عليه معاملته وهو يكتبها إلى أن فرغ وقام، فلم يمض إلا أيام يسيرة حتى وجد السمان الرقاع وقد جذبتها الفأر إلى زاوية في الحانوت، فقابل بها ما أملاه أبو العلاء فلم يخطئ بحرف واحد.

      وكان صغيراً عندما حضر إليه جماعة من أكابر حلب الذين سمعوا بفرط ذكائه، وكان يلعب مع الصبيان، فقال لهم: هل لكم في المقافاة بالشعر؟ .. فقالوا: نعم. فجعل كل واحد منهم ينشد بيتاً وهو ينشد على قافيته، حتى فرغ حفظهم وتغلب عليهم .

      وأرسل أحد أمراء حلب برسول إليه يطلب كتاب "الجمهرة" الذي قيل إن اللغة التي ينقلها أبو العلاء هي منه، لكنه لم يرسله إلى الأمير حتى قرئت بكاملها عليه وقال للرسول: ما قصدت بتعويقك إلا أن أعيدها على خاطري، خوفاً من أن يكون قد ابتعد منها شيء عن فكري. فعاد الرسول وأخبر أميره بذلك فقال. من يكون هذا حاله، لا يجوز أن يؤخذ منه هذا الكتاب وأمر برده إليه. ويحكى أنه شبه حبة اللوبياء بالكلية فور لمسه إياها، دون أن يدري ما هي، وهناك ثمة حادثة أخرى غريبة تدلنا على ذكائه الذي لم يكن عادياً، إذ أنه قبل دخوله بغداد أثناء رحيله إليها، وكان راكباً على جمل، مرّ بشجرة ، فطُلب إليه أن يطأطئ رأسه لوجود شجرة، ففعل، وعندما عاد إلى المعرة كانت الشجرة قد قطعت، لكنه طأطأ رأسه في ذات المكان، وعندما سئل عن السبب، قال: ها هنا شجرة.

      وعندما رحل إلى بغداد وطلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائن بغداد، فأدخل إليها، وجعل لا "يقرأ عليه كتاب" إلا حفظ جميع ما يقرأ عليه، وقيل له: بم بلغت هذه الرتبة من العلم؟.. فقال: ما سمعت شيئاً إلا حفظته، وما حفظت شيئاً فأنسيته. ولم يكن ليقتصر حفظه على ما يسمعه بالعربية، بل كان يحفظ ما يقال أمامه أو يتلى عليه بأية لغة كانت؛ فقد تحدث مرة تلميذه أبو زكريا التبريزي مع شخص من اذربيجان بلسانهم، فأعاد أبو العلاء بعد فترة جميع ما قالاه بذلك اللسان، وقد قال أحد مؤرخي أبي العلاء: كنت أسمع من أخبار أبي العلاء وما أوتيه من البسطة في علم اللسان ما يكثر عجبي منه فلما وصلت المعرة قاصداً الديار المصرية لم أقدّم شيئاً على لقائه، فحضرت إليه ومعي أخي، وكنت بصدد أشغال يحتاج إليها المسافر فحدثت أخي عنها باللسان الفارسي وأرشدته إلى ما يعمله فيها، ثم غدوت إلى مذاكرة أبي العلاء، فتجاذبنا الحديث إلى أن ذكرت ما وصف به من سرعة الحفظ وسألته أن يريني من ذلك ما أحكيه عنه، فقال خذ كتاباً ليس بغريب عنك إن حفظته؛ قال: قد دار بينك وبين أخيك كلام بالفارسية، إن شئت أعدته عليه، قلت: أعده؛ فأعاده وما أخلّ والله منه بحرف؛ ولم يكن يعرف اللغة الفارسية..
      وكان فوق ذلك كله يلعب الشطرنج والنرد..
      فهل من الغريب بعد هذا أن نراه يحمد الله على العمى ويعتبره نعمة؟!
      التعديل الأخير تم بواسطة أ. أبو مالك; الساعة 08-03-2011, 09:45 PM.

      تركت فيكم حروفاَ، أعيدوا بها رسم الحكاية، ولا تذكروني

      تعليق


      • #4
        رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

        موضوع جميل و قيم

        استمر

        بالمتابعة ان شاء الله

        بوركت
        الحمدلله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه


        " عندما سلكنا هذا الطريق كنا نعرف ان تكاليفه صعبة جدا لكن هذا هو واجبنا وخيارنا المقدس"

        تعليق


        • #5
          رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

          موضوع جميل

          سنتابع معك للاخر يا ابو مالك

          الله يعطيك الف عافية

          قالوا العمى منظر قبيح *** قلت بفقدانكم يهون
          والله ما في الوجود شيء *** تأسى على فقده العيون

          ان ينصركم الله فلا غالب لكم

          تعليق


          • #6
            رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

            موضوع مميز بارك الله فيك أبو مالك وإلي الأمام
            قَصْدي المُؤَمَّلُ في جَهْري و إِسْرَاري...
            ومَطْلَبي مِن إلـهي الواحدِ الباري.شَهادةً في سبيلهِ خالِصَةً ، تَمْحُو ذُنُوبي وتُنْجِيني منَ النّارِ.إنَّ المعاصيَ رِجْسٌ لا يُطَهِّرُها إلّا الصَّوارِمُ في أَيْمانِ كُفّاري..وأَرْجُو بِذلكَ ثَوابَ الله ، وما عِنْدَهُ منَ النَّعيمِ المُقِيمِ في جنّاتِ عَدْنٍ في الفِرْدَوسِ الأعلى..فجنّتهم همُ الدُّنيا.وجنّتُنا نحنُ في الآخِرة..ولَنا منَ النّعيمِ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ،ولا خَطَــرَ على قَلْــبِ بَشَــرْ.

            تعليق


            • #7
              رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

              رحلاته
              لقد أحب أبو العلاء التنقل والتجوال لطلب العلم منذ صغره، وكانت أولى رحلاته كما أسلفنا إلى حلب وهو لا يزال حدثاً ليقرأ الأدب والنحو، ورجع منها سنة 384 هـ - 994 م ، لينصرف إلى المطالعة ونظم الشعر، ولم يكن ينبغي كسب مال أو جاه من شعره، حيث كان يعتمد على ثروة والديه؛ لكن تلك الثروة سرعان ما نفذت، وتوفي والده، فألحت عليه الحاجة، وكان في الثانية والثلاثين، وقال بعضهم إن ذلك هو السبب الذي دفعه إلى الرحيل عن مسقط رأسه بلدة المعرة، حتى تضاربت الآراء في ذكر الأسباب، ولسنا نستطيع هنا في هذه الدراسة أن نذكر السبب الحقيقي لأن ذلك سيبقى مجرد تخمين، ورأي شخصي، وسنكتفي بذكر ما يقوله هو نفسه وسيأتي ذلك فيما بعد، وكان تجواله محصوراً تقريباً بين البلدان التي كانت آنذاك موطناً لكبار العلماء والشعراء، وهي الشام، وبغداد، وعندما بدأ رحيله في الفترة الثانية من حياته بعد وفاة والده، اتجه إلى طرابلس، وكان بعض الميسورين قد أنشأوا فيها خزائن كتب وجعلوها هبة لطالب العلم يستزيد فيها، ثم لم يلبث أن غادرها متجهاً صوب الشمال، إلى مدينة اللاذقية، ويقال أنه مر بدير يدعى دير الفاروس، والتقى هناك براهب كان له علم بأقوال الفلاسفة، فسمع كلامه واعتراه بعد ذلك شك بعقيدته وبدأ اتهامه بالكفر، وفي رواية أخرى أنه التقى بعدة رهبان، وأقام بينهم ودرس العهدين* القديم والحديث، ولكن هذا الكلام مشكوك بصحته، وفيه كثير من الغموض لا يخفى على القارئ، إذ أن المدة التي قضاها في هذا الدير غر معروفة ، وأية مدة تكفي للتشبع من آراء الفلاسفة التي سمع عنهم؟!.. ومن هم هؤلاء الفلاسفة؟!. وأية مدة تكفي أيضاً لدراسة العهدين؟!.
              وكانت بغداد في زمنه من كبريات المدن الاسلامية، وتكاد تعتبر عاصمة العلم، ففيها يلتقي العلماء والفلاسفة والشعراء للمناظرة من جميع أنحاء الامبراطورية الاسلامية، واجتذبته إليها في سنة 398 هـ ولكنه لم يصلها إلا بعد انقضاء ثلاثة أشهر من سنة 399 هـ، مع أن السفر من المعرة إلى بغداد، لم يكن ليستغرق أكثر من شهر واحد؛ وهنا لا بد أن نعرف أن طريق أبي العلاء كانت محفوفة بالمصاعب والعراقيل وبقي في بغداد سنة وسبعة أشهر. اسمع مناظريه خلالها سقط الزند؛* وأخذ عن الكثير من أهل العلم فيها، ويذكر أنه مرة دخل على علي بن عيسى الربعي ليقرأ له شيئاً من النحو، فقال الربيعي: ليصعد الاصطبل؛ ويقصد – ليصعد الأعمى – فخرج أبو العلاء غاضباً ولم يعد إليه؛ وقال أبو العلاء أن رحلته لم تكن لطلب الدنيا والمال فقد قال:

              "واحلف ما سافرت استكثر من النّشَب،* واتكثر بلقاء الرجال؛ ولكن آثرت الاقامة بدار العلم فشاهدت أنفس الكتب، ما كان لم يُسعف الزّمن بإقامتي فيه"

              ويؤكد ذلك رسالته الشعرية التي أرسلها لأهله إذ قال فيها:

              أإخْوانَنا بينَ الفُراتِ وجِلّقٍ *** يدَ اللهِ لا خَبّرْتُكمْ بمُحال
              أُنَبّئُكمْ أنّي على العَهْدِ سالمٌ *** ووَجهِيَ لَمّا يُبْتَذَلْ بسُؤال
              وأنّي تيَمّمْتُ العِراقَ لغَيرِ ما *** تيَمّمَهُ غَيْلانُ* عِندَ بِلال
              فأصبَحْتُ محموداً بفَضْليَ وَحْدَه *** على بُعْدِ أنصاري وقِلّةِ مالي


              وهذا واتفق يوم وصوله إلى بغداد موت الشريف الطاهر والد الشريفين الرضي والمرتضي فدخل أبو العلاء لتعزيته والمجلس غاص بأهله، فتخطى بعض الناس؛ فقال له أحدهم ولم يكن يعرفه. إلى أين يا كلب؟.. فقال: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً*، ثم جلس في أخريات المجلس إلى أن قام الشعراء وأنشدوا، فقام أبو العلاء وأنشد قصيدة يرثي بها الشريف الرضي مطلعها:

              أوْدَى فلَيتَ الحادِثاتِ كَفَافِ *** مالُ المُسيفِ وعنبرُ المُستافِ

              فلما سمعه الرضي والمرتضى وعرفاه أكرماه ورفعا مجلسه، نظراً لما رأيا من علمه وفطنته وذكائه.

              رحيله عن بغداد

              نادراً ما كانت تمر ليلة إلا وتعقد المناظرات بين علماء اللغة والشعراء في المساجد، أو في بيت أحد المتناظرين، وأثر ذلك في انقلاب حياته الأدبية انقلاباً يكاد يكون حاسماً، فنراه يتحول عن الحظ الذي كان يتبعه شعراء عصره. ويبتعد عن التفكير بشعرٍ ليس همه سوى المدح والهجاء أو اللهو، فقد تحول إلى شاعر متفلسف يضع الحكمة في أشعاره، وكمثل الفلاسفة بات يضمِّن الشك والارتياب بين أسطره، فحسده البعض لمعرفته، وراح البعض الآخر يتهكمه ويكفره سراً، وبعضهم راح يتهكمه ويسخر منه علانية، فبات يتعجل الرحيل عن بغداد، وقد سمع أيضاً بمرض والدته، فبعث برسالة إلى خاله يقول فيها:

              "وكنت أظن أن الأيام تسمح لي بالاقامة هناك فإذا الضارية اجحأ* بعراقها، وبه* ما يبقى من الفريسة من لحم وعظم، والأمة أبخل بضربتها، والعبد أشح بكراعه*، والغراب أضن بتمرته، ووجدت العلم ببغداد أكثر من الحصى عند جمرة العقبة، وأرخص من الصيحاني* بالجابرة*، وأمكن من الماء بخضاره*، وأقرب من الجريدة باليمامة ولكن على كل خير مانع، ودون كل درة خرساء*، مُوَحِيَّة*، أو خضراء طامية*.
              ويقول:

              إذا لمْ تستطِعْ شيئاً فَدَعْهُ *** وَعَاوِدْهُ إلى ما تستطيعُ

              وغلبه الملل فيها والضيق حتى قدر له أن يرحل ذات ليلة هارباً منها، فقد حدث ذات ليلة أن سأل سؤالاً بصيغة شعرية، استغرب له الحاضرون إذ أنه دل على قلة علمه وعقله ودينه؛ فقد قال:

              تَناقُضٌ ما لنا إِلّا السُكوتُ لَهُ *** وَأَن نَعوذَ بِمَولانا مِنَ النارِ
              يَدٌ بِخَمسِ مِئينَ عَسجَدٍ فُدِيَت *** ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دينارِ


              ويقصد من قوله هذا أن يقول أن اليد ديتها خمسمائة دينار فلماذا تقطع اذا سرقت ربع دينار فقط، قال هذا وقد خفي عليه على ما يبدو أن هذه عقوبة وجدت ليكف الناس عن السرقة والنهب، واليد اذا جنت فيجب أن تقل قيمتها، ولما أراد العلماء أخذه بهذا الكلام، هرب ورجع إلى بلده ولزم منزله، وشرع في التصنيف، وأخذ عنه الناس، وراح الطلبة يؤمونه من كل مكان، وكاتبه العلماء والوزراء وغيرهم؛ وربما لولا ذلك لما كان قد رجع في ذلك الحين رغم كرهه للعراق، واستعطاف أهل الشام له ليعود، فقد كتب له بذلك أخوه أبو الهيثم عبد الواحد يسأله العود بقصيدة مطلعها:

              يا ربّ قد جَنَحَ الوميضُ وغارا *** فَاسقِ المواطِرَ زَيْنَباً ونَوارَا*
              أختين صاغهما الشّبابُ وعَصْرهُ *** ماءً يصفِّقه النّعيمُ ونَارَا


              ويقول فيها مخاطباً مدينة بغداد التي سرقت أخاه:

              أَضْرمتِ قلبي باجتِذَابكِ مَاجداً *** كالسيف اعْجَبَ رَونقاً وغِرارَا

              وفي نهايتها يدعوه للعودة قائلاً:

              حاشاكَ أنْ تُبدي الجَفَاءَ لِخُلّةٍ *** وتُعيدَ أقرانَ الوفاءِ قِصارا
              أَدْرِكْ بإدراكٍ المَعَرَّةِ مُهجةً *** تَفْنَى عليك مخافةً وحِذارا


              وبات أبو العلاء في المعرة ولم يفارقه الحنين إلى بغداد لحظة، وبقي يعاوده كلما رجع بذاكرته إلى الوراء يعيش ساعاته التي قضاها بها حتى إنه كان يتمنى لو لم يعد إلى بلده المعرة مطلقاً ويود لو مات هناك:

              يا لَهْفَ نفسي على أني رَجَعْتُ إلى *** هذي البلادِ ولمْ أهلكْ ببغدادَا
              التعديل الأخير تم بواسطة أ. أبو مالك; الساعة 17-03-2011, 12:13 AM.

              تركت فيكم حروفاَ، أعيدوا بها رسم الحكاية، ولا تذكروني

              تعليق


              • #8
                رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

                رهين المحبسين
                لما عاد أبو العلاء إلى المعرة من بغداد لزم بيته وانصرف إلى التصنيف والتدريس ومراسلة اخوانه وسمى نفسه "رهين المحبسين" ويعني بذلك لزومه البيت والعمى، غير أننا نراه يطلق على نفسه أحياناً "رهين المحابيس الثلاثة" من ذلك قوله:

                أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني *** فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
                لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي *** وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ


                قوله الشعر
                لم نكد نعرف شاعراً قال الشعر وهو لم يزل صبياً، سوى أبي العلاء اذ أجمع مؤرخوه على أنه قال الشعر وهو لا يزال في الحادية عشرة، ودليل ذلك الرواية التي دون فيها أن جماعة من أكابر حلب جاءوا لاختباره، بمطارحة الشعر على قافية واحدة، فغلبهم، وقال لهم: أعجزتم عن أن يعمل كل واحد منكم بيتاً عند الحاجة إليه على القافية التي يريد، ويقصد أنه عندما لم يكن يحفظ بيتاً على القافية التي يريدونها كان يأتيهم ببيت ينظمه لتوه.

                نثره
                كان أبو العلاء يعرف كيف يخضع الألفاظ والتعابير لأصول فن الكتابة، ويلعب بالكلمات لعب الحاذق بها، الفاهم لكل معانيها، ويرجع ذلك إلى ثقافته الواسعة فيبالغ بالناحية اللفظية في شعره ونثره لكنه يأتي من ذلك بأجمل أسلوب يمكن أن يطمح إليه أديب، ويشهد التبريزي في ذلك بقوله: ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة لم يعرفها المعري".

                مؤلفاته
                لما رجع من بغداد سنة أربعمائة هجرية لزم منزله وراح يملي مؤلفاته على أحد الشيوخ وهذا يكتب، ومن هذه المؤلفات:
                كتاب "ألفصول والغايات"؛ واتهم بأنه لم يضع هذا الكتاب إلا ليعارض به القرآن الكريم إذ جاء فيه بكلام جديد لا يفهم إلا قليله، وشرحه بكتاب آخر أسماه "السادن" ويبلغ الأول نحو مائة كراسة والثاني نحو عشرين كراسة ويبحثان في اللغة. وكتاب "اقليد الغايات" ويبحث في اللغة وهو عشرة كراريس. وكتاب "الايك والغصون" وهو ألف ومائتا كراسة. ويبحث في كتابة الهمزْ والردف. وألحقه بكتاب يفسره أسماه "الهمزْ والردف" وكتاب "سيف الخطبة" أربعون كراساً ويشتمل على خطب السنة وجميع المناسبات الدينية. وكتاب "تاج الحرة" أربعمائة كراسة وهو مواعظ للنساء، وكتاب "سجع الحمائم" ثلاثون كراسة وهو مواعظ على لسان أربع حمائم. وكتاب "لزوم ما لا يلزم" مائة وعشرون كراسة وشرحه بكتاب "راحة اللزوم" مائة كراسة، وأيضاً كتاب "زجر النابح" أربعون كراسة وفيه يرد على من تهجم على كتاب لزوم ما لا يلزم، وكتاب ديوان الرسائل.. وهو ثلاثة أقسام الأول رسائل طوال. تجري مجرى الكتب المصنعة مثل "رسالة الملائكة" و "الرسالة السَّدية" و "رسالة الغفران" وغيرها. والثاني دون هذه في الطول مثل رسالة "المنيح" ومقدار هذا الديوان ثمانمائة كراس. وأتبعه بكتاب يفسره هو "خادم الرسائل". ورسائل منفردة كل منها في كتاب منها رسالة على لسان ملك الموت عليه السلام، وكتاب أسماه "رسالة الصاهل والشاجح". ويتكلم فيه على لسان فرس وبغل، و "رسالة المعونة"، وكتاب "سقط الزند" وهذا فيه أكثر من ثلاثة آلاف بيت نظم في أول العمر وشرحه في كتاب "ضوء السقط" عشرون كراسة. كما أنه فسر شعر المتنبي في كتابه "اللامع الغريزي" ووضع كتاباً آخر مختصر يُعرف بـ "ذكرى حبيب" ويشرح فيه الغريب من شعر أبي تمام، وكتاب يتصل بشعر البحتري يعرف بـ "عبث الوليد" وكتاب "الحقير النافع" في النحو، كما أنه حاول وضع كتاب يشرح فيه سيبويه عالم اللغة المعروف؛ ولكن ذلك الكتاب لم يتم.

                تركت فيكم حروفاَ، أعيدوا بها رسم الحكاية، ولا تذكروني

                تعليق


                • #9
                  رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

                  فلسفة أبي العلاء
                  كان أبو العلاء في شعره قريباً من المجتمع، يحس أحاسيسه فوصفه وأنشأ له صورة كأنما يراه، وأشاح اللثام عن شخصيته وتحدث عن أسراره بأروع أسلوب ولا ريب إذ قال:

                  وإني وإن كنت الأخير زمانه *** لآت بما لا تستطعه الأوائل

                  وإن كانت الفلسفة تعني الجري وراء الحقيقة فنجد من اللزوم أن نسمي المعري فيلسوفاً اذ كان همه أن يجد الحقيقة، وان كانت تعني البحث المنطقي المنظم، جاز لنا أن نسميه أديباً متفلسفاً، إذ كثيراً ما كان يجنح في شعره إلى استحداث النظريات التي ضمها كتابه اللزوميات.

                  مميزات فلسفته
                  أتاحت له رحلته إلى بغداد أن يعيش عن كثب الخلافات التي كانت قائمة آنذاك بين الفلاسفة وأرباب الديانات، ويتهم الفريق الثاني الفريق الأول بالالحاد والكفر، ثم ما لبث أن راح يعيش أفكار الفريقين ويتصل بهم، فاستقى من الفريق الأول بعض آرائه الفلسفية التي نراها مبثوثة في كل جانب من كتاب اللزوميات، كأنما كان يقصد اخفاءها لتصير هذه النفس عالماً معقولا مضاهياً للوجود للحصول على السعادة القصوى كما كان بعض الفلاسفة القدامى يبغون من ورائها؛ لكنه كان يريد معرفة الحق، أي أن فلسفته كانت فلسفة عملية، وكانت أيضاً مترددة متقلبة، فنراه كثيراً ما يناقض نفسه بنفسه؛ فتارة لا يرتضي عقيدة له، وأخرى يحث الناس على الايمان، فأسمعه يقول ساخراً من الكتب المنزلة مستسفراً عن اليوم الذي يظهر فيه الجيل الذي يعي الحقيقة التي يراها هو:

                  دينٌ وكفرٌ وأنْبَاءٌ تُقَّصُ وفر *** قانٌ يَنُصُّ وتوراةٌ وإنجيلُ
                  في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها *** فهل تَفَرّ>َ يوماً بالهدى جيلُ


                  وفي مكان آخر يقول:

                  نَبَذتُمُ الأَديانَ مِن خَلفِكُم *** وَلَيسَ في الحِكَمةِ أَن تُنبَذا
                  لا قاضِيَ المِصرِ أَطَعتُم وَلا *** الحَبرَ* وَلا القَسُّ* وَلا الموبَذا*


                  ولا يستطيع الدارس لأبي العلاء سوى الوقوف حائراً متردداً لا يدري بماذا يحكم على فلسفته هذه التي تتحدث عن العقائد والتعاليم الدينية؛ لكننا نستطيع بسهولة الحكم على فلسفته الخلقية بأنها قويمة لا تناقض فيها ولا اضطراب معتمداً فيها على العقل الحكيم الحر الذي يعتبره أسمى ما وهب للإنسان، فكان في فلسفته الاخلاقية يتناول الانسانية كلها. غير مفرق بين عربي واعجمي، ويعيب على الرجل حب الذات، حتى طلبه الشكر على عمل قام به لأن الخير يجب أن يكون في ذاتيه وليس لطلب الثواب أو الخوف من عقاب، ويكره أولئك الذين يدعون الناس إلى فعل الخير وينسون أنفسهم فيقول:

                  عَلَيكَ بِفِعلِ الخَيرِ لَولَم يَكُن لَهُ *** مِنَ الفَضلِ إِلّا حُسنُهُ في المَسامِعِ

                  ويقول حاثاً أن يكون فعل الخير خالصاً لوجه الخير لا لطلب المديح:

                  إِذا ما فَعَلتَ الخَيرَ فَاِجعَلهُ خالِصاً *** لِرَبِّكَ وَاِزجُر عَن مَديحِكَ أَلسُنا*

                  ويطلب أيضاً ممن يدعو الناس إلى عمل الخير أن يبدأ بنفسه بذلك العمل، ويريده أن يعامل الآخرين ما يريد أن يعاملوه به فيقول:

                  إِن تُرِد أَن تَخُصَّ حُرّاً مِنَ النا *** سِ بِخَيرٍ فَخُصَّ نَفسَكَ قَبلَه
                  وَاِفعَل بِغَيرِكَ ما تَهواهُ يَفعَلُهُ *** وَأَسمِعِ الناسَ ما تَختارُ مِسمَعَه


                  وهو يربط الأخلاق بالدين، فما نفع الدين إذا ساء الخلق؟!.. إننا لا نستطيع التفريق بين الفاسد الذي لا دين له والمتدين الذي ساء خلقه:

                  وَإِذا تَساوت في القَبيحِ فِعالُنا *** فَمَنِ التَّقيُّ وَأَيُّنا الزِّنديقُ؟..

                  وإذا كان قد ذهب إلى عقله يسترشده ويذهب في تفكيره إلى ما يمليه عليه فإننا نرى أنه في كثير من الأحيان يخطئه الطريق ويقوده إلى الشك حتى يروح يفكر بما وراء الطبيعة. غير أن هذا لم يحدث مع المعري وحده ولكنه حدث ويحدث مع كل الفلاسفة، إذ أن أشياء كثيرة لا يستطيع العقل البشري التفكير بها.
                  وتردد المعري يعود إلى بيئته التي كان هي ما يبدو يخشاها، فلا يستطيع التعبير عن آرائه، وفي ذات الوقت يريد أن يقول للجميع أنه يعتقد ما لا يعتقدون، ويفكر بغير ما يفكرون، لذا نرى تناقضه واضحاً في شعره أو نراه يلمح في القصيدة عن كل ما يجول في خاطره من أفكار ونظريات حيث يمر عليها القارئ مروراً عادياً لا ينتبه إليها، وإذا ما انتبه فإنه لا يلبث أن يرى في نهاية القصيدة تخلصاً لبقاً مما سبق من أفكار في الأبيات السابقة وهذا التخلص من العقدة وحلها يعود إلى حذق أبي العلاء باللغة ومهارته الفنية فتراه يقول:

                  إِذا قُلتُ المُحالَ رَفَعتُ صَوتي *** وَإِن قُلتُ اليَقينَ أَطَلتُ هَمسي

                  تشاؤم أبي العلاء
                  يعود تشاؤم أبي العلاء إلى اضطراب الحياة الاجتماعية في عصره وإلى شعوره بالنقص أيضاً مما أثر فيه أشد تأثير، فنراه يسمي نفسه برهين المحبسين ويعتكف في منزله. ويروح يسلك في حياته سلوك المتصوفين الذين يرضوه بالعيش القليل فيقول:

                  الحَمدُ لِلَّهِ قَد أَصبَحتُ في دَعَةٍ *** أَرضى القَليلَ وَلا أَهتَمُّ بِالقوتِ
                  وَشاهِدٌ خالِقي أَنَّ الصَلاةَ لَهُ *** أَجَلُّ عِندِيَ مِن دُرّي وَياقوتي
                  وَلا أُعاشِرُ أَهلَ العَصرِ إِنَّهُمُ *** إِن عوشِروا بَينَ مَحبوبٍ وَمَمقوتِ


                  ولم يؤثر فيه فساد المجتمع والعاهة التي كان يتألم منها ليشعر بذلك النقص الكبير.. لم يؤثر كل هذا في حياته الشخصية وسلوكه اليومي في الاعتكاف والتقشف فقط بل إنها اعتملت في نفسه وتفجرت شعراً ونثراً صاغها في اللزوميات، وفي كتابه "الفصول والغايات"، وربما كره أبو العلاء الحياة الدنيا وتمنى لو ينتهي منها ليستقر في حياته الآخرة، لما كان يحسه من نظرات الناس إليه الساخرة أحياناً والمتقززة أو التي ترثي لحاله أحياناً أخرى، ما يزيد ذلك حتى في حقده على نفسه ويقول بأنه لا يدري حظه في الدنيا ما هو. لكنه يعرف أنه في النحس منذ أو وجد:

                  رَبِّ مَتى أَرحَلُ عَن هَذِهِ ال *** دُنيا فَإِنّي قَد أَطَلتُ المُقام
                  لَم أَدرِ ما نَجمي وَلَكِنَّهُ *** في النَحسِ مُذ كانَ جَرى وَاِستَقام


                  وأنه، أي أبا العلاء لا يجد الصديق الذي يواسيه ويخفف عنه، ولا العدو الذي يخشاه، إذن فليس هناك سوى الموت فهو شفاء كل داء:

                  فَلا صَديقٌ يَتَرَجّى يَدي *** وَلا عَدُوٌّ يَتَخَشّى اِنتِقام
                  وَالعَينُ* سُقمٌ لِلفَتى مُنصِبٌ *** وَالمَوتُ يَأتي بِشِفاءِ السَقام
                  وَالتُربُ مَثوايَ وَمَثواهُمُ *** وَما رَأَينا أَحَداً مِنهُ قام


                  ويتمنى لو يموت الوليد ساعة ولادته ليُكفى شر الحياة ويستريح من العيش وسط مجتمع فاسد مضطرب:

                  وليت وليداً مات ساعة وضعهِ *** ولم يرتضعْ من أمه النفساءِ

                  بل إنه يدعو الأحياء إلى التخلص من حياتهم فيعلن أن ليس الحياة سوى سلم الموت. فكأنما لا هدف منها ولا شيء يجعل المرء يقيم فيها، مادامت طريقاً فقط:

                  إِن شِئتَ أَن تُكفى الحِمامَ فَلا تَعِش *** هَذي الحَياةُ إِلى المَنِيَّةِ سُلَّمُ

                  وكان أيضاً لمغادرته بغداد مكرهاً النصيب الأكبر في التأثير على مشاعره الرقيقة اذ أنه كان يحبها ويود البقاء فيها لولا أنه شعر بمضايقة علمائها له فلم يقدروه كما يجب وكما كان يطمح، واتخذوا من عدم فهمه معنى العقوبة في قطع يد السارق وسيلة للسخرية منه علناً وللتهجم عليه حتى فر منهم، ويقول في رسالة له بعثها إلى أهله في المعرة:

                  "إن منشئ هذه الرسالة رجل نابه* مكرت به الحياة وتنكرت له الأيام، وتعثر به الحظ، وغلبه الشقاء، وأحاط به من كل جانب فهل يقف في وسط هذا الشقاء المتزايد، وأمام تلك الاساءات المتكررة مكتوف اليدين خائر العزيمة؟!.. لو كان شاباً جلداً قوياً لحاول مقاومة الحياة، وتصدى لصراع الدهر. ولكن شبابه قد انتهى وربيع حياته قد ولى، ولو وجد السبيل إلى الموت سهلة ميسرة سلكها، واستراح من الحياة واعبائها، ولكن شبح الموت مخيف مزعج، والسبيل إليه شاق متعب"..

                  وهكذا فإننا نجد أيضاً في الجزء الأخير من هذه الرسالة لما كان أبو العلاء يدعو إلى التخلص من الحياة الدنيا، وهو لم يحاول ذلك مرة واحدة في حياته، فقد كان يخيفه شبح الموت فلا يستطيع وضع النهاية التي كان يريدها لنفسه.. وما دام لم يستطع هذا ولم يستطع أن يحقق ما كان يطمح إليه من مجد ورفعة فليس له إلا الامعان في هجر الحياة والابتعاد عن مباهجها حتى بات يسيء إلى نفسه، ويعين الحياة عليه باختياره سجنه الأبدي:

                  فما للفتى إلا انفرادٌ ووحدةٌ *** إذا هو لم يُرزَقْ بلوغَ المآربِ*

                  وليس بخفي بعد ذلك أن عزلة أبي العلاء بعد أن أغنى نفسه بالمعارف والعلوم كان لها أكبر الأثر في رفع الشعر العربي إلى القمة وجاءت نعمة لتراثنا العربي الذي نفخر به بدل من أن تكون نقمة، فقد وفرت له عزلته الوقت الكثير الذي كان يستطيع به أن يطلق لتفكيره العنان. ليصول ويجول ، يفكر ويدرس ويضع الحلول لشرور وآثام مجتمعه الفاسد.
                  التعديل الأخير تم بواسطة أ. أبو مالك; الساعة 17-03-2011, 12:35 AM.

                  تركت فيكم حروفاَ، أعيدوا بها رسم الحكاية، ولا تذكروني

                  تعليق


                  • #10
                    رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

                    نقد أبي العلاء للمجتمع
                    لا بد من التساءل عن السبب الذي نقد من أجله أبو العلاء مجتمعه، وما الداعي؟!.
                    وقبل الايجاب لا بد من التخمين بأنه لا بد ثمة أسباب دعته لذلك، ولم يكن نقده غوغائياً. بل كان هناك أكثر من مؤثر واحد أولها بلدته المعرة وأرضها، فلم يعرف الرحالة المعرة، رغم ادعائهم ذلك وتحدثوا عنها كثيراً في نثرهم وشعرهم، ووصفوها بأنها من أجمل بلاد الله فإن مرورهم عابرين أو زائرين لا يمكّنهم من رؤيتها بكل خفاياها، لكن أبا العلاء الذي عاش بها يعرفها جيداً ويعرف أهلها الذين يرون الحمل الذي يولد كأنما هو كوكب نزل من السماء، فالفقر عندهم مدقع لا يعرفون طعماً للحم إلا بالانظار لأن الأرض يابسة مجدبة، فبعث ذلك في نفسه حقداً دون أن يدري على من يحقد، وفي أيامه أصبحت المعرة دار قلاقل وفتن، فكره الناس بعد كرهه جدب الأرض التي أورثت الفقر، أولئك الناس الذين يسعون إلى الفتن، ثم كره المجتمع القلق المضطرب عندما أرغمه فساده على المكوث في بيته رهين محابسه، فكان لا بد إذاً إلا وأن يتناوله بنقده اللاذع، لكن بعضهم ذهب إلى أن أبا العلاء لم ينقد المجتمع لأنه فاسد وإنما لأنه مبعث نقده هو ذاته فقط، فتناول الحكام لأنه كان مظلوماً، وتناول الأغنياء لأنه كان يعاني من الفقر، ونظر في معائب المرأة لأنه كان يريد البعد عنها، ونقد الزواج فهوّله لأنه لم يكن يريده.

                    أبو العلاء والحكام
                    كان حبل الأمن مضطرباً في أيام المعري، تتعرض بلده للغارات المتتالية وأحس بالظلم الذي كان يعانيه الشعب، والقبضة الشديدة التي يسلطها الحكام على أهل وطنه ولم يكن من سبيل له للوقوف ضدهم إلا بالكلمة والحرف، فيذكر القوم والأمراء على حد سواء بأن هؤلاء ليسوا سوى خدم لأولئك، وعلى أولئك القوم التنبه لذلك.. فقال:

                    إذا ما تبيَّنَا الأمور تكشفتْ *** لنا وأميرُ القومِ للقومِ خادمُ

                    وقد قال ذلك قبل أن تكتشف جماعة حقوق الانسان بزمن أن الأمراء هم أجراء الأمة وكان ذلك بحق ثورة فكرية، يرجى لها الأثر الطيب، لو أنه سكبها في القالب الشعري الذي يفهمه عامة الشعب وليس طبقة معينة منهم، وجعل كلمته بسيطة مفهومة المعنى، علاوة على أنه قد عرض نفسه لحقد من ينقدهم ، فباتوا يتحينون الفرص لمحاسبته:

                    وَفي كُلِّ مِصرٍ حاكِمٌ فَمُوَفَّقٌ *** وَطاغٍ يُحابي في أَخَسِّ المَطامِعِ*
                    يَجورُ فَيَنفي المُلكَ عَن مُستَحَقِّهِ *** فَتَسكُبُ أَسرابُ العُيونِ الدَوامِعِ


                    ويقول مخصصاً بقوله والي مصر:

                    أيا والي المصر لا تظلمنْ *** فكم جاء مثلك ثم انصرف

                    لكنه كثيراً ما كان يراجع نفسه ليقول بأن الحكام هم حماة الأمة في الأرض؛ وعلى الأمة اطاعتهم:

                    إِن يَظلِموا فَلَهُم نَفعٌ يُعاشُ بِهِ *** وَكَم حَمَوكَ بِرَجلٍ أَو بِفُرسانِ

                    أبو العلاء والطبقات
                    المال في رأي أبي العلاء مجلبة للهموم والتعب، وهو وسيلة الضلال في الوجود والفقر شعار الزهد والقناعة فقد قال:

                    وَكَثرَةُ المالِ شُغلٌ زادَ في نَصَبٍ *** وَقِلَّةٌ مِنهُ مَعدولٌ بِها الفَلتُ
                    وقال:
                    المالُ يُسكِتُ عَن حَقٍّ وَيُنطِقُ في *** بُطلٍ وَتُجمَعُ إِكراماً لَهُ الشِيَعُ*
                    ولم يسع مرة للحصول على المال، ولم يحاول مرة التزلف إلى الأمراء، ومدحهم بالقصائد الطويلة كما كان يفعل أكثر الشعراء في عصره، ولم يكن هذا ضعفاً منه، بل كان قناعة وزهداً في المال، لأن المال ظل لن يلبث أن يزول وعندما كان يُتهم بأن لديه مالاً كان يقول مكذباً ذلك بهدوء:

                    بِلا مالٍ عَنِ الدُنيا رَحيلي *** وَصُعلوكاً خَرَجتُ بِغَيرِ مالِ
                    ومن هنا لا بد لنا أن نوضح بأن نقده للأغنياء الذي سيأتي بعد قليل ليس مرده إلى حسده لهم كما يظن البعض، أو لأنه كان فقيراً، ولم يكن ذلك إلا من باب الشفقة على الفقراء، لكنه ليس إلى الحد الذي يريد به التخمة لهم، فهو وإن كان ينادي بضرورة إعطاء الفقير مال الغني إلا أنه لم يكن ليريد للفقير أن يصبح ثرياً كون ذلك سيزيد فقره علاوة على أن الفقر عنده هو أصل الانسان والغنى ليس سوى صفة عارضة اكتسبها الانسان:

                    إِذا زادَكَ المالُ اِفتِقاراً وَحاجَةً *** إِلى جامِعيهِ فَالثَراءُ هُوَ الفَقرُ

                    وهو راضٍ أبداً عن الفقر فيقول:

                    وَالفَقرُ أَحمَدُ مِن مالٍ تُبَذِّرُهُ *** إِنَّ اِفتِقارَكَ مَأمونٌ بِهِ السَرَفُ

                    أي إن الفقر برأي أبي العلاء هو الحصن الذي يحمي الشرف والخلق. ومما سبق نرى أن نقده للغنى ليس كما عرفناه أو سنعرفه في نقده للمجتمع متفلسفاً واضعاً نظريات الاصلاح أو منادياً بفكرة معينة يُعمل بها، واذا علمنا أنه كان عارفاً بفكرة الشيوع ونظام المواريث وحق الملكية، واقتناء العقارات واكتناز المال، مطلعاً عليها مما وصله من الكتب اليونانية، وما كتبه في هذه الناحية فلاسفتها مثل افلاطون وسقراط وأرسطو. وإذا علمنا أيضاً أنه كان يحبذ تلك الأفكار نستطيع أن نجزم بأنه لم يضمن ذلك أشعاره وينادي بأية فكرة تتعلق بها كبقية النواحي الأخرى، وذلك لخوفه وخشية العاقبة وكان يكتفي بقول القليل حاضاً على الاشتراكية والديموقراطية، فلا نكاد نعثر إلا على النزر اليسير من شعره حول ذلك فيقول مثلاً:

                    لَو كانَ لي أَو لِغَيري قَدرُ أُنمُلَةٍ *** فَوقَ التُرابِ لَكانَ الأَمرُ مُشتَرَكا

                    وربما يكون ذلك القول يتم في حالة يكون فيها ناسياً نفسه أو قوميته العربية كما يقول أيضاً بأنه ليس للهاشمية إلا ما يجب أن يكون للبربري وهم سواسية:

                    لا يفخرنّ الهاشمي *** على امرئ من آل بربر

                    وهو يعود دائماً إلى وصف حياة الفقر فكأنما تلك الوسيلة الوحيدة لاستعطاف الأغنياء تلك الحياة التي يكشفها الشتاء برياحه العاصفة وأمطاره الغزيرة، ويكشف الفرق الكبير بين الفقير العريان، والغني المدثر بالثياب:

                    لَقَد جاءَنا هَذا الشِتاءُ وَتَحتَهُ *** فَقيرٌ مُعَرّى أَو أَميرٌ مُدَوَّجُ*

                    ويحذر أبو العلاء الملوك قائلاً لهم بأن الملك ليس إلا لله:

                    تَسَمَّت رِجالٌ بِالمُلوكِ سَفاهَةً *** وَلا مُلكَ إِلّا لِلَّذي خَلَقَ المُلكا

                    ويدعو إلى الثورة وإلى استبدال الضعف بالقوة، والكلمة بالسيف لأخذ الحق فيقول:

                    كَلِّم بِسَيفِكَ قَوماً إِن دَعَوتَهُمُ *** مِنَ الكُلومِ فَما يُصغونَ لِلكَلِمِ
                    التعديل الأخير تم بواسطة أ. أبو مالك; الساعة 17-03-2011, 12:36 AM.

                    تركت فيكم حروفاَ، أعيدوا بها رسم الحكاية، ولا تذكروني

                    تعليق


                    • #11
                      رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

                      أبو العلاء عدو المرأة والزواج
                      "خطير جداّ"!!!
                      لقد نقد أبو العلاء المرأة نقداً عنيفاً وأكثر من ذكرها بشعرٍ لا يعرف التملق والهوادة، فكان قاسياً في كلماته، لاذعاً في أحرفه، وكأنني أرى كل النساء وقد بتن يخشين نقده، ويحسبن له الحساب، وأكثر من ذلك بعد عودته من بغداد حيث كان الفجور والخليعات، والمخنثون، والجاريات، لا يهمهم سوى اللهو والخمرة والهوى والمتعة.
                      وكما نعرف أن أبا العلاء كان يتمنى للبشرية الفناء، وحتى أن يموت الوليد ساعة ولادته وتمنيه لو يستطيع أن يترك الدنيا، والرحيل إلى العالم الآخر، فإننا نستطيع أن نقول بأن كل ذلك قد ولّد في نفسه الكره للمرأة، وهي التي تلد وتزيد في النسل، وتُكثر في العالم الأشقياء، ولولاها لما كان ثمة أناس جدد يأتون إلى العالم، ولتوقفت الحياة بعد زمن.
                      وكان يرى فيهن الكيد والتملق، والتظلم والمرأة هي دائماً الظالمة، فازداد كرهه لها وزاد من حدة نقده، حتى أنه دعا إلى عدم القاء التحية عليها، فاستمع إليه يقول:

                      وَلا تُرجِع بِإيماءِ سَلاماً *** عَلى بيضٍ أَشَرنَ مُسَلِّماتِ*
                      أُلاتُ الظَلمِ جِئنَ بِشَرِّ ظُلمٍ *** وَقَد واجَهنَنا مُتَظَلِّماتِ


                      ووصفها بأنها بغير عقل، والكذب أولى صفات أكثرهن، بل ربما كان يود أن يقول أن جميعهن بغير عقل، ولم يكن يمنعه من قول ذلك سوى الود الذي كان يحمله لوالدته التي بكاها بقسوة وحزن حزناً عميقاً لوفاتها.
                      وقد عاب على المرأة طلبها الزينة، وميلها إلى الزواج، حتى اذا لم تستطع ذلك انزلقت إلى الضلال وهذا ليس من صفات الرجال في شيء:

                      يُرِدنَ بُعولَةً* وَيُرِدنَ حَلياً *** وَيَلقَينَ الخُطوبَ* مُلَوَّماتِ

                      ويقول مبيناً إن الرجل وحده من يذود عن الوطن، والمرأة قابعة في بيتها وكأنما نسي الخنساء وخولة وغيرهما.,. بقوله:

                      وَلَسنَ بِدافِعاتٍ يَومَ حَربٍ *** وَلا في غارَةٍ مُتَغَشِّماتِ

                      وأن النساء لسن سوى حبال غيٍّ يغوين حتى الطفل الصغير الذي لم يكتمل عقله:

                      أَلا إِنَّ النِساءَ حِبالُ غَيٍّ *** بِهِنَّ يُضَيَّعُ العقلُ التَليدُ

                      وهن فوق كل ذلك يسعين بشتى أنواع أسلحتهن لاغواء الرجل؛ فيقول بأن جنودها الفتنة واعلامها الضلال وسلاحها الزينة، ولم ترض بما خلع عليها الله من جمال فسعت لتلوين وجهها فيقول:

                      فَوارِسُ فِتنَةٍ أَعلامُ غَيٍّ *** لَقينَكَ بِالأَساوِرِ مُعلِماتِ
                      وِسامٌ ما اِقتَنَعنَ بِحُسنِ أَصلٍ *** فَجِئنَكَ بِالخِضابِ مُوَسَّماتِ*


                      وينتفض من مكانه ليقول لمن يحلم بليلة عرسه على أنها الليلة السعيدة في حياته فيبني عليها الأحلام الجميلة والآمال العراض ليقول له بأن عروسك ليست سوى أفعى فدعها. وهي ليس تنجب لك سوى الأحناش والأعداء والمصائب..

                      عَروسُكَ أَفعى فَهَب قُربَها *** وَخَف مِن سَليلِكَ فَهُوَ الحَنَش*

                      ويقول:

                      يَلِدنَ أَعادِياً وَيَكُنَّ عاراً *** إِذا أَمسَينَ في المُتَهَضَّماتِ*

                      وكان يعتبر أن ولادة المرأة ولداً أهون بكثير من ولادتها بنتاً، إذ أنها ستزيد النكبات والآثام وتلحق العار بذويها:

                      وَإِن نُعطَ الإِناثَ فَأَيُّ بُؤسٍ *** تَبَيَّنَ في وجوهِ مُقَسَّماتِ

                      ونراه أخيراً يدعو بعدما رأى من المرأة ما رأى وجال في خاطره حولها ما أسلفنا، يدعو إلى دفنها حية أثناء المصائب والتخلص منها، وإن ذلك إحدى المكرمات التي يجب أن يتحلى بها الرجل:

                      وَدَفنٌ وَالحَوادِثُ فاجِعاتٌ *** لِإِحداهُنَّ إِحدى المَكرُماتِ

                      بل ذهب إلى أبعد من ذلك فدعا إلى دفنهن في أي وقت كان، إذ أن ذلك خير لها من الزينة بالأكاليل، واقامتهن في الخدور فيقول:

                      وَدَفنُ الغانِياتِ لَهُنَّ أَوفى *** مِنَ الكِلَلِ المَنيعَةِ وَالخُدورِ*

                      ولم يكن يفرق في نقده بين امرأة وأخرى فينظر إلى حسبها ونسبها أو دينها ومذهبها، وأننا لم نعرفه مرة ناقداً للرجل معاتباً إياه على الزواج حتى ولو جمع بين أكثر من واحدة. لأنه إن تزوج اثنتين فإنه سيصبح محارباً ولن يستطيع الصمود وسيتغلبن عليه بكيدهن ومكرهن ويحذره من الوقوع في حبائل ثلاثة:

                      وَإِن كُنتَ غِرّاً بِالزَمانِ وَأَهلِهِ *** فَتَكفيكَ إِحدى الآنِساتِ الحرائِرِ

                      ترى هل جسر أحد على نقد المرأة كذلك قبله، وهل أتى أو سيأتي من يعلن مثل هذه الحرب ضدها؟!!
                      الجواب بسيط وهو أنه لن يجسر أحد على ذلك، ويعرف أبو العلاء نفسه تلك الحقيقة ويعرف أن الزمن كلما تقدم ازداد غي المرأة ومكرها وبالتالي تسلطها، وليس بعيداً من أن يأتي اليوم الذي تحكم المرأة فيها زوجها ولو كان يحكم أمه:

                      وَهَل يُنكِرُ العَقلُ أَن يَستَبدِ *** دَ بِالمُلكِ غانِيَةٌ غَيلَمُ


                      اعتقاد أبي العلاء
                      لقد استطاع النقاد قديماً وحديثاً تقييم أبي العلاء من كل النواحي عدا الناحية الدينية التي ما زال أكثرهم يتردد قبل اصدار حكمه، أما من يصدر حكمه عليه فاما أن يتهمه بالزندقة والكفر وإما أن يصفه بأنه من أشد الناس إيماناً بوجود الله تعالى مستندين إلى بعض شعره وأقواله بأن الله حق وأنه لا ينبغي أن يشك أحد في وجوده، فيكفي لأن ننظر إلى الكون ونرى عجائبه لنؤمن بتلك القوة الالهية التي تسير أموره:

                      أَما تَرى الشُهبَ في أَفلاكِها اِنتَقَلَت *** بِقُدرَةٍ مِن مَليكٍ غَيرِ مُنتَقِلِ

                      ويقول مبيناً أن الله جل جلاله أعظم من أن يوصف أو يكون له شبيه، وداعياً إلى الايمان المطلق:

                      مولاكَ مَولاكَ الَّذي ما لَهُ *** نِدٌّ وَخابَ الكافِرُ الجاحِدُ
                      آمِن بِهِ وَالنَفسُ تُرقى وَإِن *** لَم يَبقَ إِلّا نَفَسٌ واحِدُ


                      وقضية الايمان بالله لم ينقسم فيها النقاد ذلك الانقسام الذي انقسموه عندما يتطرق المعري إلى الايمان بالملائكة والرسل والكتب المنزلة، وربما كان من يقف معه قد ينقلب ضده عندما يقرأ شعره في موقفه مما ذكرت، فقضية الايمان عند المعري ليست قضية كتب وأنبياء وتعاليم، بل هي قضية إيمان بوجود الله فقط والتسليم له في كل الأمور، ويهاجم الاديان كلها؛ فاذا كان الايمان واحد، لماذا كل هذه الطوائف والمذاهب؟.. وقد سبب هذا الرأي في تشكك بعض اخوانه المسلمين الضعفاء في عقيدتهم، واذا كنا نسمع، وتأكدنا أنه كان ينطق بالشهادتين، ويصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم ويقيم الصلاة ويحث على الزكاة، ويمتدح الاسلام والرسول (ص) أحياناً، ونعرف أنه حارب الاسلام في شعره وأبدى شكه في التعاليم التي جاء بها والعقائد الاساسية فيه، نستطيع أن نقول بأن إيمانه هذا لم يكن سوى تظاهر فقط، لكننا نتوقف لنقول بأنه ربما كان نفيه لتعاليم الاسلام والحاده وشكه يرجع إلى حالات عصبية وتشاؤمية كانت تعتريه في بعض الأحيان عندما يحس بالعاهة التي ألمت به، فينطق بأقواله دون تريث وتعقل .. وبامكاننا أن نرجح الفرض الأول بأن ايمانه كان تظاهرياً اذا ما استندنا إلى مسلكه العام في الابهام والغموض في أقواله واتباعه خطة الرمز والتلميح والكناية كستار يظهر الحاده من ورائه.. وبامكاننا أيضاً أن نعيد هذا التناقض في آرائه إلى باب التطور اذ أنه لم يثبت على عقيدته منذ البدء حتى النهاية، ولم يفكر بها ولا بأصلها، وقد أتاح له سجنه تلك الفرص، ليطلق لفكره العنان بذلك، فدخل مؤمناً بكل التعاليم الدينية الصحيحة، وخرج وهو لا يؤمن الا بوجود خالق لهذا الكون هو الله، وهجر كل العقائد فيقول مقررا الايمان بالله وحده، وأنه سيتجنب الاعمال القبيحة، ويلوم نفسه على أنه خدع عقله بعض الوقت، فصدق أرباب الأديان:

                      أَدينُ بِرَبٍّ واحِدٍ وَتَجَنُّبٍ *** قَبيحَ المَساعي حينَ يُظلَمُ دائِنُ
                      لَعَمري لَقَد خادَعتُ نَفسِيَ بُرهَةً *** وَصَدَّقتُ في أَشياءَ مَن هُوَ مائِنُ


                      لقد كان المعري يعرف كيف يرضي أصدقاءه ويتحاشى خطر الاضطهاد والاتهام فجاء بهذا الشعر المبهم الغامض، متناقضاً حتى لا يستطيع أحد أن يأخذ عليه شيئاً فيتهمه.
                      ولكن لماذا لا نعيد تناقضه هذا استحيائه من أن يقول أنه لم يفهم التعاليم الدينية وأنه كان بحاجة لمن يفهمه إياها؟!...
                      إن شهرته التي ملأت الآفاق ومعرفته بالشعر واللغة قد يكون لها الاثر الأول في عدم طلبه صراحة من يرشده ويعطيه التفسير الصحيح لكل التعاليم التي التبس عليه امرها، ولم يكن له ازاء ذلك الا التصحيف والكناية.. ووفق بذلك، لكن أحداً لم يفهمه، فاتهموه بالزندقة والالحاد، ولم يكن يرد على ذلك الا بتأكيد ايمانه بالله حتى يسكت تلك الافواه التي تحاول اتهامه، ثم تراه يعود إلى تشككه: وبقي هكذا ورحل عن الدنيا ولم يأته من يقنعه ويلزمه الحجة..
                      ربما كان هذا خير رأي يمكننا الأخذ به فلا نظلم الشاعر، ونأخذه بحسن نية ولكننا نعود فنتساءل:
                      لماذا حاول الاتيان بقرآن جديد في كتابه الذي أسماه "الفصول والغايات"؟!..
                      وعارض القرآن الكريم في "رسالة الغفران"؟!..
                      إن هذا يجعلنا نقف مرة أخرى حائرين مترددين!!..

                      تركت فيكم حروفاَ، أعيدوا بها رسم الحكاية، ولا تذكروني

                      تعليق


                      • #12
                        رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

                        المعري..........فيلسوف الشعراء...


                        فـي الـلاذقـيـة ضجةٌ مـا بـيـن أحمد والمسيح
                        هـذا بـنـاقـوس يـدق وذا بـمـئـذنـة يـصيح
                        كـل يـعـظّـم ديـنـه ياليت شعري ما الصحيح ؟


                        هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ويـهود حارت والمجوس مضللهْ
                        اثنان أهل الأرض : ذو عقـل بلا ديــن وآخـر ديِّـن لا عقل له

                        إن كان لا يحظى برزقك عاقــل وتـرزق مـجنونا وترزق أحمقا
                        فلا ذنب يارب السماء على امرئ رأى مـن مـا يـشـتهي فتزندقا


                        شكرا لك ابو مالك على هذا الموضوع الرائع.........وننتظر المزيد ...
                        وضع الشعب
                        صعب..صعب..صعب!!!!

                        تعليق


                        • #13
                          رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

                          المدح والفخر عند أبي العلاء
                          كان أبو العلاء محاطاً بأهل العلم وهو طفل وأول كلمة في النحو أخذها من والده، ونشأ بين أفراد أسرة كثر قضاتها، وكثر على اللغة والأدب فيها، وازداد بينهم أهل الفضل؛ وكان لهم الأثر في اجتذابه إلى العلم والأدب، وكان ذلك مدعاة فخر له، ويحق له أن يتباهى بهذه العائلة الكريمة التي تسير القوافي تحت عَلَمها وهم لجديرون بها:

                          بأيّ لِسانٍ لامني مُتَجَاهِلٌ *** علَيّ وخَفْقُ الرّيحِ فيّ ثَناءُ
                          تكَلّمَ بالقَوْلِ المُضَلّلِ حاسِدٌ *** وكُلُّ كلامِ الحاسدِينَ هُراءُ
                          أتَمْشي القَوافي تحتَ غيرِ لِوائنا *** ونحْنُ على قُوّالِهَا أُمَراء
                          ولا سارَ في عَرْضِ السَّماوَةِ بارِقٌ *** وليس له مِن قوْمنا خُفَراء
                          ولسنا بفَقْرَى يا طَغَامُ إليكُمُ *** وأنْتُمْ إلى مَعْروفِنا فُقَراء


                          ونراه في البيت ما قبل الأخير يتنقل إلى التفاخر بقومه القضاة وأنهم الحاكمين في كل مكان.
                          ويقول مؤكداً فصاحة قومه واضطلاعهم بالأدب بقصيدة مطلعها:


                          يتَهَلّلونَ طَلاقَةً وكُلومُهُمْ *** يَنْهَلّ مِنْهُنّ النّجِيعُ الأحْمَر*
                          لا يَعْرِفونَ سِوى التقدّمِ آسِيا *** فجِراحُهُمْ بالسَّمْهَرِيّةِ تُسْبَرُ


                          ويقول أيضاً أن قومه ان كانوا في الحياة يضفون على الأرض الجمال والبهجة، فهم بعد الممات يضفون ذلك الجمال إلى الكتب بسيرهم الحميدة، وأدبهم الخالد الذي تركوه وأنهم عربٌ بيوتهم الخيام وسيبقون كذلك لن ينزلوا إلى المدينة حيث يفقد العز:

                          جَمالَ ذي الأرض كانوا في الحياة وهُم *** بعدَ المماتِ جَمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ
                          المُوقِدُونَ بنجْدٍ نارَ باديَةٍ *** لا يَحضُرونَ وفَقْدُ العِزّ في الحَضَرِ


                          ولكن هل غفل أبو العلاء نفسه؛ وتذكر قومه فقط فوهبهم كل شعره وهو الذي ملأت شهرته الآفاق، وأتاه الناس من كل حدب وصوب؟!. كلا لم يكن ذلك فإن قوله:

                          وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ *** لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائل

                          إن هذا القول المشهور له لأكبر دليل على أنه كان يريد أن يجعل من نفسه الرجل الذي يشير إليه الجميع ببنانهم؛ لما سيأتي به مما لم يسبقه إليه أحد؛ وقد كان له ذلك وصار حديثه على كل لسان، رغم محاولة بعض الحساد التقليل من قيمته وخنق شهرته فاستمع إليه يقول في ذلك:

                          وقد سارَ ذكْري في البلادِ فمَن لهمْ *** بإِخفاءِ شمسٍ ضَوْءُها مُتكاملُ
                          يُهِمّ الليالي بعضُ ما أنا مُضْمِرٌ *** ويُثْقِلُ رَضْوَى دونَ ما أنا حامِلُ*
                          وأغدو ولو أنّ الصّباحَ صوارِمٌ *** وأسْرِي ولو أنّ الظّلامَ جَحافلُ*
                          وإني جَوادٌ لم يُحَلّ لِجامُهُ *** ونِضْوٌ يَمانٍ أغْفَلتْهُ الصّياقلُ*
                          وإنْ كان في لُبسِ الفتى شرَفٌ له *** فما السّيفُ إلاّ غِمْدُه والجمائلُ*
                          ولي مَنطقٌ لم يرْضَ لي كُنْهَ مَنزلي *** على أنّني بين السّماكينِ نازِلُ


                          حتى ينتهي إلى القول البليغ:

                          يُنافسُ يوْمي فيّ أمسي تَشرّفاً *** وتَحسدُ أسْحاري عليّ الأصائلُ

                          لكنه برأيي مهما قرأنا شعراً لأبي العلاء في الفخر والمدح القليل فإننا نجزم بأن الآخرين سبقوه في هذا الباب، ولم يقل أكثر مما قاله معاصروه في نفسه؛ ويشهد الجميع بتواضعه وعدم ميله إلى التفاخر، ومدح الآخرين!.

                          الرثاء
                          يقول كتاب أبي العلاء أنه أول ما قال الشعر، قاله في رثاء أبيه الذي توفى؛ وهو لم يزل فتى، وعجب سامعوه منه واندهشوا لتلك المقدرة التي ألقى بها كلماته على صغر سنه ومما يقول في هذه المناسبة مخاطباً والده:

                          فليتَكَ في جَفني مُوارىً نَزاهَةً *** بِتِلْكَ السّجايا عن حَشايَ وعن ضِبني
                          ولو حَفَرُوا في دُرّةٍ ما رَضِيتُها *** لجِسْمِكَ إبْقاءً عَلَيْهِ منَ الدّفنِ


                          فهو لا يستعذب الدفن لوالده حتى ولو كان في الدرة، وتمنى لو استطاع أن يحويه في جفنه، ولما رجع من بغداد أثناء رحيله لم ير والدته فقد أخبروه أنها رحلت هي الأخرى وتركت عالمنا، وأي أسىً ألمّ به آنذاك، وكانت فاجعته الثانية بعد وفاة أبيه فوقف يخاطب الموت طالباً من يحمل تحيته العطرة لروحها:

                          فيا رَكْبَ المَنُونِ أمَا رَسُولٌ *** يُبَلّغُ رُوحَها أرَجَ السّلامِ
                          ذَكِيّاً يُصْحَبُ الكافُورُ مِنْهُ *** بِمِثْلِ المِسْكِ مَفضُوضَ الخِتامِ
                          سألتِ مَتَى اللّقاء فقيل حتى *** يَقُومَ الهامِدُونَ مِنَ الرِّجامِ


                          ويشعر بالحزن العميق وتتناوبه الأفكار وهو مطرق ببصره إلى الأرض يجول فيها ويتساءل بعد وفاة أحد أقربائه ويدعى أبا حمزة. يتساءل:
                          _ ترى مم تتكون القشرة الأرضية؟!..
                          لقد توفي والده، وفجع بعد ذلك بالأم التي لم يحب المرأة إلا لأجلها، ويموت الآلاف كل يوم ويدفنون وتبلى أجسادهم. ويأتون على مخيلته، فيطلب من الناس تخفيف ثقلهم عن الأرض، والسير في الهواء إن استطاعوا ذلك، بعد أن يخبرهم بحقيقة تلك الحبات الناعمة من التربة التي يرونها، وذلك يكفي الموتى، فهم لا يحتاجون للدمع يذرف لفراقهم، لأنهم لن يعودوا، فلم النواح إذن؟!..


                          غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي *** نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ*
                          وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِي *** سَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ*
                          أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنْ *** نَت عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ
                          صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْ *** بَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ*
                          خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ ال *** أرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ*
                          وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْ *** دُ هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ
                          سِرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداً *** لا اخْتِيالاً عَلى رُفَاتِ العِبادِ*
                          رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مراراً *** ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ


                          إلى أن يقول يائساً من هذه الحياة متعجباً ممن يريد البقاء فيها وأن الموت ليس سوى رقدة مريحة كالنوم:

                          تَعَبُ كُلّها الحَياةُ فَما أعْ *** جَبُ إلاّ مِنْ راغبٍ في ازْديادِ
                          ضَجْعَةُ المَوْتِ رَقْدَةٌ يُستريحُ ال *** جِسْمُ فيها والعَيشُ مِثلُ السّهادِ

                          وهكذا فإننا نرى أبا العلاء ينهج نهجاً جديداً في الرثاء يغاير فيه أكثر الشعراء، فلم يعد لديه البكاء ليبكي الآخرين بعد والده، ولم يعد في مقلتيه الدمع يذرفه على رحيل أحد بعد ولدته، وتحول رثاؤه إلى يأس وقنوط وتشاؤم، فكره الحياة وكره البقاء فيها، حتى أنه اعتبر مجيئه إلى الدنيا جناية ارتكبها والده بحقه، لذا كانت وصيته المشهورة بأن يكتب على قبره:


                          هذا جناهُ أبي عليّ *** وما جنيت على أحدْ
                          التعديل الأخير تم بواسطة أ. أبو مالك; الساعة 19-03-2011, 11:51 PM.

                          تركت فيكم حروفاَ، أعيدوا بها رسم الحكاية، ولا تذكروني

                          تعليق


                          • #14
                            رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

                            مشكور اخي أبو مالك على الموضوع .. و عقبال ما نكتب عنك

                            تعليق


                            • #15
                              رد: سيرة ومسيرة ... لنعرف سيرتهم ونعتبر من مسيرتهم / ملف متجدد

                              زهده وقناعته وجوده
                              كان أبو العلاء يعتبر أن هذه الدنيا ليست سوى طريق على الانسان أن يعبرها ، فلم لا يفعل الخير فيها ويرفض مباهجها التافهة، فلقد رفض الدنيا، ولم يطمع بشيء فيها وأعطاها كل شيء، ولم تغره محاسنها، ومفاتنها، وجعل نفسه رهين منزله لا يبارحه إلا إذا ذهب للصلاة، وترك أكل اللحوم، وكل ما يمت إليها بصلة من عسل وبيض، زهداً منه فيها، وتجنباً عن الاساءة للحيوان، وقنع بموارد وقفٍ كان له يحصل منه في العام نحو ثلاثين ديناراً يعطي نصفها لمن يخدمه ويحتفظ بالباقي لمأكله وملبسه، يقول ابن حجر في كتابه "لسان الميزان": وكان غذاؤه العدس "وحلاوته التين، ولباسه القطن، وفراشه اللباد، وكان لا يمدح أحداً، ولو تكسب بالمدح والشعر لنال دنيا ورئاسة".
                              لقد كان فقيراً ولو أراد المال لحصل عليه من مدحه الأمراء ذوي المناصب، لكنه رفض كل هذا زهداً منه فيه، وكان أن سمع المستنصر حاكم مصر في زمنه عنه وعن ضيق ذات يده، وسعة معرفته، فوهبه كل ما في بيت المال في المعرة، لكنه لم يقبل منه شيئاً وقال:


                              لا أطلبُ الأرزاقَ والـ *** ـمولى يُفيضُ عليّ رزْقي
                              إن أُعْطَ بعضَ القوتِ أعْـ *** ـلَمْ أَنّ ذلكَ فوق حقِّي


                              وقد ذكر أنه دعي إلى مصر، ليبنى له دار علم فيها ويتفرغ للأدب واللغة، لكنه طلب اعفاءه والسماح له بالبقاء في المعرة، فأجيب على طلبه، ولم يكن يقبل المديح أو الهدايا من أي كان، ولم يطلب شيئاً من أحد:

                              لا أطلبُ السّيْبَ من الناس بل *** أطلبهُ من خالقِ السّيبِ

                              عدم أكله اللحم وسببه
                              بقي أبو العلاء خمساً وأربعين عاماً لا يتناول لحوم الحيوان، أو ما ينتجه هذا الحيوان من لبن أو بيض أو عسل، بل اقتصر في حياته على تناول ما تنتجه الأرض من نبات فقتل الطائر ظلم له، والنحل لم يشق في جمع الرحيق ليكون لسواه بل لأطفاله الصغار:

                              وَلا تَفجَعَنَّ الطَيرَ وَهيَ غَوافِلٌ *** بِما وَضَعَت فَالظُلمُ شَرُّ القَبائِحِ
                              وَدَع ضَربَ النَحلِ الَّذي بَكَرَت لَهُ *** كَواسِبَ مِن أَزهارِ نَبتٍ فَوائِحِ
                              فَما أَحرَزَتهُ كَي يَكونَ لِغَيرِها *** وَلا جَمَعَتهُ لِلنَدى وَالمَنائِحِ
                              مَسَحتُ يَدَي مِن كُلِّ هَذا فَلَيتَني *** أَبَهتُ لِشَأني قَبلَ شَيبِ المَسائِحِ


                              وما دام كذلك فهو لن يتعرض لشيء من هذا، ولن يؤذي الحيوان بذبحه، حتى ولن يتخذ من صوفها أو وبرها لباساً له:

                              لِباسِيَ البُرسُ فَلا أَخضَرٌ *** وَلا خَلوقِيٌّ وَلا أَدكَنُ

                              وفاة أبي العلاء
                              توفي أبي العلاء وغربت تلك الشمس التي أضاءت بنورها العالم يوماً وقد بلغ من العمر ستاً وثمانين سنة إلا أربعة وعشرين يوماً في شهر ربيع أول، أي سنة 449 هـ وكان قد أصابه مرضٌ ألزمه الفراش، ويعتقد أنه حزن لمفارقته هذه الدنيا التي كرهها ذات يوم، وكان حزنه واضحاً في شكره للقاضي أبي محمد عبد الله التنوخي. الذي كان يسهر عليه ويشرف على علاجه. استمع إليه يقول له:

                              وقاضٍ لا يزالُ الليلَ عندي *** وطولُ نهارهِ بينَ الخصومِ
                              يكون أبرّ بي من فرخِ نسرٍ *** بوالده وألطفَ من رحيمِ
                              سأنشرُ شُكرهُ في يومِ حشرٍ *** أجَلْ، وعلى الصِّراطِ المستقيمِ


                              وبقي ملازماً فراشه لثلاثة أيام، ومات في اليوم الرابع، ولم يكن عنده غير أبناء عمه، وشيعه جمع غفير من أهل العلم والأدب، وألقيت المراثي الطويلة بهذه المناسبة، منها قول أحدهم في وصفه:

                              إنْ كنتَ لم ترقِ الدماءَ زهادةً *** فلقد أرَقْتُ اليومَ من جفني دمَا
                              سَيّرْتَ ذكركَ في البلادِ كأنهُ *** مسك فسامِعةً يُضَمِّخُ أو فَمَا
                              وأرى الحجيجَ اذا أرادوا ليلةً *** ذِكراكَ أخرجَ فِديةً من أحرم


                              ودفن في المعرة في ساحة دار صغيرة وأوصى بأن يكتب على قبره:

                              هذا جناهُ أبي عليّ وما جنيتُ على أحد

                              تركت فيكم حروفاَ، أعيدوا بها رسم الحكاية، ولا تذكروني

                              تعليق

                              يعمل...
                              X